تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } من المطاعم والمشارب ، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ، فاحمدوه إذ أحلها لكم ، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها ، أو اعتقاد تحريمها ، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب ، وكفر النعمة ، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا ، فإن هذا من الاعتداء .

والله قد نهى عن الاعتداء فقال : { وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين نهاهم عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم ، وأمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من رزق طيب حلال فقال - تعالى :

{ ياأيها الذين . . . }

قال صاحب المنار بدأ الله - هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك .

ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم ، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك ، ولم يتخلله إلا قليل من الأحكام . وهاتان الآيتان وما بعدهما عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة .

وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة وتجعل الآيات في أهل الكتاب مفصلا بعضها ببعض في باقيها . لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها ، لا كتابا فنياً ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعه كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين .

على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى في مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة .

ذلك أنه - تعالى - ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كما تقربهم إلى الله - تعالى - وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات . وقد أزال الله - تعالى - هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ .

هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتيني روايات متعدة منها ما أخرجه الترمذي وابن جرير عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أني إذا أكلت انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي فحرمت على اللحم . فأنزل الله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ } . الآية .

وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال ، كان : أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } وعن أبي قلابة قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة . ثم قال : " إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا واستقيموا " قال : ونزلت فيهم { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ } الآية وعن أبي طلحة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم ، فذكرلهم ذلك فقالوا : نعم .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، و أنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " .

وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإِيمان ؛ لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه .

والمراد بقوله : { لاَ تُحَرِّمُواْ } : لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها .

فالنيه عن التحريم هنا ليس منصاب على الترك المجرد . فقد ترك الإِنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره . وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك .

والمراد بالطيبات : الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التي تقوى بدن الإِنسان وتعينه على الجهاد في سبيل الله ، من طعام شهى ، وشراب سائغ . وملبس جميل .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، لا تحرموا على أنفسكم شياً من الطيبات التي أحلها الله لكم ، فإنه - سبحانه - ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شئون دينكم ودنياكم .

وقوله : { وَلاَ تعتدوا } تأكيد للنهي السابق . والتعدي معناه : تجاوز الحدود التي شرعها الله - تعالى - عن طريق الإِسراف أو عن طريق التقتير . أو عن طريق الاعتداء على حق الغير أو عن طريق يخالف ما شرعه الله - تعالى - .

وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } في موضع التعليل لما قبله .

أي : لا تحرموا - أيها المؤمنون - على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإِسراف . أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه - سبحانه - لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته ، وسنن فطرته . وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم : إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعُضهم النساء ، وبعُضهم النوم بالليل والطيب ، وهمَّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ، قال عكرمة : ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة ، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع ، وقال ابن عباس أخذوا الشفار{[4668]} ليقطعوا مذاكرهم ، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارها بأنه لم يلم بها ، فلما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم قال : «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني »{[4669]} قال الطبري : وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك ، وقد ضل سواء السبيل ، وقال ابن زيد : سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يتعشَّ فقال لزوجه ما عشيته ؟ قالت : كان الطعام قليلاً فانتظرتك ، فقال : حبست ضيفي من أجلي ، طعامك علي حرام إن ذقته فقالت هي : وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه ، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه ، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال : قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعاً . ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية{[4670]} .

وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية{[4671]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : و«الطيبات » في هذه الآية المسستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية ، واختلف المتأولون في معنى قوله { ولا تعتدوا } فقال السدي وعكرمة وغيرهما . وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به ، فقوله { ولا تعتدوا } تأكيد لقوله { لا تحرموا } وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله ، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين فكأنه قال : لا تشددوا فتحرموا حلالاً ، ولا تترخصوا فتحلوا حراماً ، وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة .


[4668]:- الشّفار: جمع شفرة، وهي ما عرض وحدد من الحديد كحد السيف والسكين، وتجمع أيضا على شفر.
[4669]:- أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه- عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظه: قال (نزلت في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني). (الدر المنثور- وفتح القدير)- وزاد في فتح القدير: "وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية".
[4670]:- قال الشوكاني عن هذا الأثر: "أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم"، ثم قال: "وهذا أثر منقطع، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا"
[4671]:- أخرجه الترمذي وحسّنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عدي في الكامل، والطبراني، وابن مردويه- عن ابن عباس. (الدر المنثور 2/ 307). والأحاديث في ذلك كثيرة، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية ، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان . وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس ، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة . وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد . فقال أحدُهم : أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال الآخر : أمَّا أنا فأصوم النهار ، وقال آخر : أمّا أنا فلا آتي النساء ، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم ، فقال : " ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا . قالوا : بَلَى يا رسول الله ، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر ، قال : لَكِنِّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي " فنزلت هذه الآية . ومعنى هذا في « صحيحي البخاري ومسلم » عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية .

ورُوي أنّ ناساً منهم ، وهم : أبو بكر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن عُمر ، وأبو ذرّ ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقدادُ بن الأسود ، وسلْمان الفارسي ، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهّبوا . فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة ، ثم قال : " إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " فنزلت فيهم هذه الآية . . وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل : إنّها زوجة زيد بن ثابت ، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة . وفي رواية : أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم ، وبعضهم النوم ، وبعضهم النساء ؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه . فنزلت هذه الآية .

وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح ، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي . قال : قال لي رسول الله : " ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ ، قلت : إنّي أفعلُ ذلك . قال : فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك . وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً ، فصم وأفطر وقُم ونَم " .

وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاماً فقال لسلمان : كُلْ فإنّي صائم ، فلمّا كانَ الليلُ ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فنام . فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان : قم الآن ، وقال سلمان : إنّ لربّك عليك حقّاً ولنفسك عليك حقّاً ولأهلك عليك حقّاً فأعط كلّ ذي حقّ حقّه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « صدقَ سلمانُ » . وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي " .

والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس . أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان ، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس . وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد ، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه ، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس ، فالتطلّع إليها تعسير ، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع . وفي تناولها شكر لله تعالى ، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم . وعن الحسن البصري : أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي{[223]} وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية . فسأله الحسن : أصائم أنت ، قال : لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره ، فقال له : الحسن : أفتشرب الماءَ البارد ، قال : نعم ، قال : إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ .

وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديداً على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به . ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة . ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال : الحلال عليّ حرام ، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلاّ الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتَات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم ، على حكم الاستثناء في اليمين .

ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعاً في بعض الأحوال ، فكان التزام التحريم لازماً فيها خاصّة ، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت ، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ . ووافقه الشافعي . وقال أبو حنيفة : من حرّم على نفسه شيئاً من الحلال حَرم عليه تناوُله ما لم يكَفّر كفارة يمين ، فإنْ كفَّر حلّ له إلاّ الزوجة . وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها .

وفي قوله تعالى : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه ، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية .

ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام ، وقد أبطلها الله بقوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لِعباده والطيّبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله } [ الأنعام : 140 ] ، وقوله : { قُل الذّكَرَيْنِ حَرّم أم الأنثيين } إلى قوله { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً ليُضلّ النّاس بغير علم } [ الأنعام : 143 ، 144 ] ، وغير ذلك من الآيات . وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله : { يدخلون في دين الله أفواجاً } [ النصر : 2 ] . وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم ، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة ، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما تأخّر عنها .

وجملة { ولا تعتدوا } معترضة ، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله ، فالواو اعتراضية . وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلاً .

والاعتداء افتعال العدوْ ، أي الظلم . وذِكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذنِ المشروع ، كما قال { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس ، وهو أشدّ الاعتداء ، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس ، كتناول الخنزير أو الميتة . ويعمّ الاعتداءُ في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان ، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأْد ، وأكللِ مال اليتيم ، وعضل الأيامَى ، وغير ذلك .

وجملة { إنّ الله لا يحبّ المعتدين } تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء .


[223]:- فرقد بن يعقوب الأرميني من أصحاب الحسن وتوفي سنة 131 نزيل السبخة موضع بالبصرة.