{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ } أي : خلقها للعباد ، ووسعها وبارك فيها ومهدها للعباد ، وأودع فيها من مصالحهم ما أودع ، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالا عظاما ، لئلا تميد بالخلق ، فإنه لولا الجبال لمادت بأهلها ، لأنها على تيار ماء ، لا ثبوت لها ولا استقرار إلا بالجبال الرواسي ، التي جعلها الله أوتادا لها .
{ و } جعل فيها { أَنْهَارًا } تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم ، فأخرج بها من الأشجار والزروع والثمار خيرا كثيرا ولهذا قال : { وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : صنفين مما يحتاج إليه العباد .
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } فتظلم الآفاق فيسكن كل حيوان إلى مأواه ويستريحون من التعب والنصب في النهار ، ثم إذا قضوا مأربهم من النوم غشي النهار الليل فإذا هم مصبحون منتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار .
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ } على المطالب الإلهية { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيها ، وينظرون فيها نظر اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها وصرفها ، هو الله الذي لا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، وأنه القادر على كل شيء ، الحكيم في كل شيء المحمود على ما خلقه وأمر به تبارك وتعالى .
وبعد أن ذكر - سبحانه - بعض مظاهر قدرته في عالم السماوات ، أتبعه بذكر بعض هذه المظاهر في عالم الأرض فقال - تعالى - { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } والمد : البسط والسعة . ومنه ظل مديد أى متسع .
والرواسى : الجبال مأخوذ من الرسو ، وهو ثبات الأجسام الثقيلة ، يقال : رسا الشئ يرسو رسْوا ورسُوًّا ، إذا ثبت واستقر ، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبته فيها .
ولفظ رواسى : صفة لموصوف محذوف . وهو من الصفات التي تغنى عن ذكر موصوفها .
والأنهار : جمع نهر ، وهو مجرى الماء الفائض ، ويطلق على الماء السائل على الأرض .
والمراد بالثمرات : ما يشملها هي وأشجارها ، وإنما ذكرت الثمرات وحدها ، لأنها هي موضع المنة والعبرة .
والمراد بالزوجين : الذكر والأنثى ، وقيل المراد بهما الصنفان في اللون أو في الطعم أو في القدر وما أشبه ذلك .
والمعنى : - وهو - سبحانه - الذي بسط الأرض طولاً وعرضاً إلى المدجى الذي لا يدركه البصر ، ليتيسر الاستقرار عليها .
ولا تنافى بين مدها وبسطها ، وبين كونها كروية ، لأن مدها وبسطها على حسب رؤية العين ، وكرويتها حسب الحقيقة .
وجعل في هذه الأرض جبالاً ثوابت راسخات ، لتمسكها من الاضطراب ، وجعل فيها - أيضاً - أنهاراً ، لينفع الناس والحيوان وغيرها بمياه هذه الأنهار .
وجعل فيها كذلك من كل نوع من أنواع الثمرات ذكرا وأنثى .
قال صاحب الكشاف : " أى خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت .
وقيل : أراد بالزوجين ، الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأوصاف المختلفة .
وقال صاحب الظلال : " وهذه الجملة تتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريباً ، وهى أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى ، حتى النباتات التي كان مظنوناً أنه ليس لها من جنسها ذكور ، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر ، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة ، أو متفرقة في العود . . . "
وقوله { يُغْشِي الليل النهار } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - ورحمته بعباده .
ولفظ { يغشى } من التغشية بمعنى التغطية والستر .
والمعنى : أن من مظاهر قدرته - سبحانه - أنه يجعل الليل غاشيا للنهار مغطياً له فيذهب بنوره وضيائه ، فيصير الكون مظلماً بعد أن كل مضيئاً . ويجعل النهار غاشياً لليل ، فيصير الكون مضيئاً بعد أن كان مظلماً ، وفى مكان من منافع الناس ما فيه ، إذ بذلك يجمع الناس بين العمل والراحة ، وبين السعى والسكون .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
أى : إن في ذلك الذي فعله الله - تعالى - من بسط الأرض طولاً وعرضاً ومن تثبيتها بالرواسى ، ومن شقها بالأنهار . . . لآيات باهرة ، ودلائل ظاهرة على قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده ، لقوم يحسنون التفكر ، ويطيلون التأمل في ملكوت السموات والأرض .
لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ، ذكرت آيات الأرض .
وقوله : { مد الأرض } يقتضي أنها بسيطة لا كرة - وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم . و «الرواسي » الجبال الثابتة ، يقال : رسا يرسو ، إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
به خالدات ما يرمن وهامد***وأشعث أرسته الوليدة بالفهر{[6887]}
و «الزوج » - في هذه الآية - الصنف والنوع ، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره ، ومنه قوله تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون }{[6888]} [ يس : 36 ] ومثل هذه الآية : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج }{[6889]} [ ق : 7 ] .
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «يغْشي » بسكون الغين وتخفيف الشين ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم - في رواية أبي بكر - بفتح الغين وتشديد الشين ، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر ، وباقي الآية بين .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان ، اثنان ، ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي ، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى تم في قوله : { الثمرات } ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.