{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به . فأمر الله عباده بأدائها أي : كاملة موفرة ، لا منقوصة ولا مبخوسة ، ولا ممطولا بها ، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار ؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله . وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها . قالوا : لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها ؛ فوجب ذلك .
وفي قوله : { إِلَى أَهْلِهَا } دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن ، ووكيلُه بمنزلته ؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها .
{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض ، القليل من ذلك والكثير ، على القريب والبعيد ، والبر والفاجر ، والولي والعدو .
والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام ، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به . ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه ، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما ، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية ، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ( 59 )
قال ابن كثير - عند تفسيره للآية الأولى - : ذكر كثير من المفسرين " أن هذه الآية نزلت فى شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة . وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذى صارت الحجابة فى نسله إلى اليوم . وسبب نزولها فيه : حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه .
ثم قال : قال محمد بن إسحاق : حدثنى محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن فى يده . فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها .
ثم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . صدق وعده . ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين : إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعى له . فقال : هاك متفاحك يا عثمان ! ! اليوم يوم بر ووفاء " .
هذا ونزول الآية الكريمة فى هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
والأمانات : جمع أمانة وهى مصدر سمى به المفعول . فهى بمعنى ما يؤتمن الإِنسان عليه .
والمعنى : إن الله تعالى - يأمركم - أيها المؤمنون - أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله - تعالى - أم للعباد . وسواء كانت فعلية أم قولية أم اعتقادية .
وقد أسند - سبحانه - الأمر إليه تأكيده ، اهتماما بالمأمور به ، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال ، ودائع ، وأسرار ، وغير ذلك مما يقع فى دائرة الائتمان ، وتنبغى المحافظة عليه .
ومعنى أدائها إلى أهلها : توصيلها إلى أصحابها كما هى من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى .
ومن الآيات القرآنية التى نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله - تعالى - : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } وقوله - تعالى - { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " .
وروى الترمذى وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخمن من خانك " .
وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم .
وقوله { حَكَمْتُمْ } من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين ، وإظهار الحق لصاحبه .
وقوله { بالعدل } أى بالحق الذى أوجبه الله عليكم . وأصل العدل : التسوية . يقال : عدل كذا بكذا أى سواه به .
قال الجمل وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ } إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير : وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس . أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها .
والمعنى : كما أمركم الله - تعالى - أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها ، فإنه يأمركم - أيضا - إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل ، فإن الله - تعالى - ما أقام ملكه إلا عليهما ، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات .
قال بعض العلماء : يرى بعضهم : أن الخطاب فى هذا النصف موجه إلى الذين يحكمون ، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم . ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها ، لأن الأمة العزيزة التى تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر ، هى محكومة ومحكمة . فهى التى تختار حاكمها وهى فى هذا محكمة ، مطلوب منها العدل ، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها . وهى محكمة فى حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا ، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه ، ولا تشتط فى نقده ، ولا تسكن عن نصيحته ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " الدين النصيحة : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " .
وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض . قال تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } وقال - تعالى - { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } وقال - تعالى - { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } وقال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } وأما حديث السنة النبوة عن ذلك فهو أيضا مستفيض . ومن الأحاديث التى ورت فى هذا المعنى ما رواه الإِمام مسلم فى صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور من يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
وقوله { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين ، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به .
وقوله { نِعِمَّا } أصله { نعم ما } فركبت نعم ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين .
و { ما } إما منصوبة موصوفة بقوله { يَعِظُكُمْ } فكأنه قيل : نعم شيئا يعظكم به . وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل : نعم الشئ الذى يعظكم به .
والمخصوص بالمدح محذوف وهو أجاء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل .
والوعظ : التذكير بالخير ، والتحذير من الشر ، بأسلوب يرق له القلب .
والمعنى : إن الله - تعالى - قد أمركم - يا معشر المؤمنين - بأداء الأمانة ، وبالحكم بالعدل ، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به ، ويدعوكم إليه .
وقوله - تعالى - { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وعد للطائعين ووعيد للعاصين .
أى : إن الله - تعالى - كان سميعا لأقوالكم فى الأحكام وفى غيرها . { بَصِيراً } بكل أحوالكم وتصرفاتك . وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر .
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } خطاب يعم المكلفين والأمانات ، وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة ، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة . فنزلت فأمره الله أن يرده إليه ، فأمر عليا رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه ، وصار ذلك سببا لإسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم ، أو يرضى بحكمكم ولأن الحكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم . { إن الله نعما يعظكم به } أي نعم شيئا بيعظكم به ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة بيعظكم به . أو مرفوعة موصولة به . والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات . { إن الله كان سميعا بصيرا } بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات .
استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم ، ونظام الطاعة ، وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة ، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه ، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى . وهنا مناسبة ، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه ، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ ، وافترائهم على الله الكذب ، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين ، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين ، والعلم ، والحقّ ، والنعمة ، وهي أمانات معنويّة ، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع .
وجملة { إنّ الله يأمركم } صريحة في الأمر والوجوب ، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث « إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم » . ( وإنّ ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبَر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده ، فهو والإنشاء سواء .
والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء ، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق .
والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها ، يقال : أدّى إليْه كذا ، أي دفعه وسلّمه ، ومنه أداء الدَّين . وتقدّم في قوله تعالى : { من إن تأمنّه بقنطار يؤدّه إليك } في سورة آل عمران ( 75 ) . وأصل أدَّى أن يكون مضاعفَ أدَى بالتخفيف بمعنى أوصل ، لكنّهم أهمْلوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف .
ويطلق الأداء مجازاً على الاعتراف والوفاء بشيء . وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قَول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها ، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين ، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدْوَن .
والأمانة : الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى { فليؤدّ الذي ائتمن أمانَتهُ } في سورة البقرة ( 283 ) . وتطلق الأمانة مجازاً على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومُستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها ، وضدّها الخيانة في الإطلاقين . والأمر للوجوب .
والأمانات من صيغ العموم ، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء وكان للأمين حقّ عند المؤتَمَن جحدهُ إيّاه : إنّه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقّه لأنّ ذلك خيانة ، ومنعه مالك في المدوّنة ، وعن ابن عبد الحكم : أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له ، وهو قول الشافعي . قال الطبري عن ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وشَهْر بن حَوشب ، ومكحول : أنّ المخاطب ولاة الأمور ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها .
وقيل : نزلت في أمر عثمان بن طلحة بن أبي طلحة .
وأهل الأمانة هم مستحقّوها ، يقال : أهل الدار ، أي أصحابها . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، بسند ضعيف : أنّ الآية نزلت يوم فتح مكة إذ سَلَّم عثمان بن طلحة ابننِ أبي طلحة العبدري الحَجَبي مفتاحَ الكعبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكانت سدانة الكعبة بيده ، وهو من بني عبد الدار وكانت السدانةُ فيهم ، فسأل العباس بن عبد المطلب من رسول الله أن يجعل له سدانة الكعبة يضمها مع السقاية وكانت السقاية بيده ، وهي في بني هاشم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة وابنَ عمّه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فدفع لهما مفتاح الكعبة وتلا هذه الآية ، قال عمر بن الخطاب : وما كنت سمعتُها منه قبلَ ذلك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة « خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلاّ ظالم » ولم يكن أخْذ النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة أخذَ انتزاع ، ولكنّه أخذه ينتظر الوحي في شأنه ، لأنّ كون المفتاح بيد عثمان بن طلحة مستصحَب من قبل الإسلام ، ولم يغيّر الإسلامُ حوزه إيّاه ، فلمّا نزلت الآية تقرّر حقّ بني عبد الدار فيه بحكم الإسلام ، فبقيت سدانة الكعبة في بني عبد الدار ، ونزل عثمان بن طلحة عنها لابن عمّه شيبةَ بننِ عثمان ، وكانت السدانة من مناصب قريش في الجاهلية{[215]} فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في خطبة يوممِ الفتح أو حجّةِ الوداع ، ما عدا السقاية والسدانة .
فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة ، لأنّ عثمان سلّم مفتاح الكعبة للنبيء عليه الصلاة والسلام دون أن يُسقط حقّه .
والأداء حينئذٍ مستعمل في معناه الحقيقي ، لأنّ الحقّ هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها ، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات ، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية ، فلا مجاز في لفظ ( تؤدّوا ) .
وقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } عطف { أن تحكموا } على { أن تؤدّوا } وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف ، وهو جائز ، مثل قوله : { وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح : مثل { وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين } [ الشعراء : 129 ، 130 ] .
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين ، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل ، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرَّح بذلك ، وهو مشتقّ من الحُكْم بفتح الحاء وهو الردْع عن فعلِ ما لا ينبغي ، ومنه سميّت حَكَمَة اللِّجام ، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس ، ويقال : أحْكِمْ فُلاناً ، أي أمْسِكْه .
والعدل : ضدّ الجور ، فهو في اللغة التسوية ، يقال : عَدَل كذا بكذا ، أي سوّاه به ووازنه عدلاً { ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ] ، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله ، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه ، إطلاقاً ناشئاً عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يَعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس ، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا ، وإن شاءوا جاروا وظلموا ، قال لبيد :
ومقسم يعطي العشيرة حقّها *** ومُغذمر لحقوقها هَضَّامها{[216]}
فأطلق لفظ العدل الذي هو التسوية على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن ، وذلك فك الشيء من يد المعتدي ، لأنّه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين ، فهو كناية غالبة . ومَظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحقّ بأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه ، ولذلك قال تعالى هنا : { إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } ، ثم توسّعوا في هذا الإطلاق حتّى صار يطلق على إبلاغ الحقّ إلى ربّه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع .
والعدل : مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة : في تعيين الأشياء لمستحقّها ، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه ، بدون تأخير ، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها ، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق ، والثاني هو العدل في التنفيذ ، وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق .
فالعدل وسط بين طرفين ، هما : الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه ، أي بإعطائه أكثر من حقّه ، والتفريط في ذلك ، أي بالإجحاف له من حقّه ، وكلا الطرفين يسمّى جوراً ، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته ، كإعطاء المال بيد السفيه ، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد ، ولذلك قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 5 ، 6 ] ؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات . وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدُّ المعتدي عن اعتدائه ، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه ، كما قال تعالى : { لا تَظْلِمُون ولا تُظلمون } [ البقرة : 279 ] . وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسَنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشَرَّع لهم ، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الْاحوال ، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية ، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متَولين الأمور قبلهم ، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام ، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية .
ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبَرطة ، وأعلى القوانين هي الشرائع الألهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم ، وأعظمها شريعةُ الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة ، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة ، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى ، ولا بعوائد الفساد ، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة ، أو بلد خاصّ ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل ، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظاً للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية ، قال تعالى : { لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزان ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] أي العدل . فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها .
وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس ، وأُطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد : لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم ، بخلاف العدل فإنّما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس ، وليس كلّ أحد أهلاً لتولّي ذلك . فتلك نكتة قوله : { وإذا حكمتم بين الناس } . قال الفخر : قوله : { وإذا حكمتم } هو كالتصريح بأنّه ليس لجميع الناس أن يشرّعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ، فالآية مجملة في أنّه بأي طريق يصير حاكماً ولمّا دلّت الدلائل على أنّه لا بد للأمّة من إمام وأنّه ينصب القضاة والولاة صارت تلك الدلائل كالبيان لهذه الآية .
وجملة { إنّ الله نعمّا يعظكم به } واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر ، فكانت بمنزلة التعليل ، وأغنت ( إنَّ ) في صدر الجملة عن ذكر فَاء التعقيب ، كما هو الشأن إذا جاءت ( إنَّ ) للاهتمام بالخبر دون التأكيد .
و ( نعمّا ) أصله ( نعْمَ ما ) رُكّبت ( نعم ) مع ( ما ) بعد طرحِ حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ، وأدغم الميمان وحرّكت العين الساكنة بالكسر للتخلّص من التقاء الساكنين .
و ( ما ) جَوّز النحاة أن تكون اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، أو نكرة تامّة والجملة التي بعد ( ما ) تجري على ما يناسب معنى ( مَا ) ، وقيل : إنّ ( ما ) زائدة كافّةٌ ( نعمَ ) عن العمل .
والوعظ : التذكير والنصح ، وقد يكون فيه زجر وتخويف .
وجملة { إنّ الله كان سميعاً بصيراً } أي عليماً بما تفعلون وما تقولون ، وهذه بشارة ونذارة .