قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }
اعلم أنه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى ، وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات ، أو من باب الدنيا والمعاملات ، وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة لا جرم أمر بها في هذه الآية . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار- وكان سادن الكعبة -باب الكعبة ، وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه ، وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه ، فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية ، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه ، فقال عثمان لعلي : أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق ، فقال : لقد أنزل الله في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فهبط جبريل عليه السلام وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا . فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن اسحق . وقال أبو روق : قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان : أعطني المفتاح فقال : هاك بأمانة الله ، فلما أراد أن يتناوله ضم يده ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك مرة ثانية : إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح ، فقال : هاك بأمانة الله ، فلما أراد أن يتناوله ضم يده ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مرة ثالثة ، فقال عثمان في الثالثة : هاك بأمانة الله ودفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يطوف ومعه المفتاح وأراد أن يدفعه إلى العباس ، ثم قال : يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان : «هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم » ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم .
المسألة الثانية : اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية ، بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات ، واعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد ، أو مع نفسه ، ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة .
أما رعاية الأمانة مع الرب : فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات ، وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود : الأمانة في كل شيء لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها ، واعلم أن هذا باب واسع ، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام ، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي ، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها ، وكذا القول في جميع الأعضاء .
وأما القسم الثاني : وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع ، ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن ، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة ، بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ونهيهم عن قولهم للكفار : إن ما أنتم عليه أفضل من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ، ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها ، وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره . وفي إخبارها عن انقضاء عدتها .
وأما القسم الثالث : وهو أمانة الإنسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا ، وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " فقوله : { يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } يدخل فيه الكل ، وقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } وقال : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقال : { ولا تخونوا أماناتكم } وقال عليه الصلاة والسلام : " لا إيمان لمن لا أمانة له " وقال ميمون بن مهران : ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر : الأمانة والعهد وصلة الرحم . وقال القاضي : لفظ الأمانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال ؛ لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير .
المسألة الثالثة : الأمانة مصدر سمي به المفعول ، ولذلك جمع فإنه جعل اسما خالصا . قال صاحب «الكشاف » : قرئ ( الأمانة ) على التوحيد .
المسألة الرابعة : قال أبو بكر الرازي : من الأمانات الودائع ، ويجب ردها عند الطلب والأكثرون على أنها غير مضمونة . وعن بعض السلف أنها مضمونة ، روى الشعبي عن أنس قال : استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي ، فضمنني عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وعن أنس قال : كان لإنسان عندي وديعة ستة آلاف درهم فذهبت ، فقال عمر : ذهب لك معها شيء ؟ قلت لا ، فألزمني الضمان ، وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ضمان على راع ولا على مؤتمن » وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان .
المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : العارية مضمونة بعد الهلاك ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : غير مضمونة . حجة الشافعي قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وظاهر الأمر للوجوب ، وبعد هلاكها تعذر ردها بصورتها ، ورد ضمانها ردها بمعناها ، فكانت الآية دالة على وجوب التضمين . ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام : «على اليد ما أخذت حتى تؤديه » أقصى ما في الباب أن الآية مخصوصة في الوديعة ، لكن العام بعد التخصيص حجة ، وأيضا فلأنا أجمعنا على أن المستام مضمون ، وأن المودع غير مضمون ، والعارية وقعت في البين ، فنقول : المشابهة بين العارية وبين المستام أكثر ، لأن كل واحد منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه ، بخلاف المودع ، فإنه أخذ الوديعة لغرض المالك ، فكانت المشابهة بين المستعار وبين المستام أتم ، فظهر الفرق بين المستعار وبين المودع . حجة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام : «لا ضمان على مؤتمن » .
قلنا : إنه مخصوص في المستام ، فكذا في العارية ، ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى .
قوله تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } .
المسألة الأولى : اعلم أن الأمانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق إليه فهذا هو الأمانة ، والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب الإنسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق ، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره ، لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالأمانة أولا ، ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق ، فما أحسن هذا الترتيب ، لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط .
المسألة الثانية : أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل قال تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } والتقدير : إن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . وقال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وقال : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } وقال : { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت » وعن الحسن قال : إن الله أخذ على الحكام ثلاثا : أن لا يتبعوا الهوى ، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا . ثم قرأ { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض } إلى قوله : { ولا تتبع الهوى } وقرأ { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون } إلى قوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } ومما يدل على وجوب العدل الآيات الواردة في مذمة الظلم قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } وقال عليه الصلاة والسلام : «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة ، فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أولاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار » وقال أيضا : { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } وقال : { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } .
فإن قيل : الغرض من الظلم منفعة الدنيا .
فأجاب الله عن السؤال بقوله : { لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين } .
المسألة الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء : في الدخول عليه ، والجلوس بين يديه ، والإقبال عليهما ، والاستماع منهما ، والحكم عليهما قال : والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب ، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه لأنه لا يمكنه التحرز عنه . قال : ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ، ولا شاهدا شهادته لأن ذلك يضر بأحد الخصمين ، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف ، ولا يلقن المدعي عليه الإنكار والإقرار ، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا ، ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الآخر ، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه . وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه ، وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه ، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر ، وذلك هو المراد بقوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .
المسألة الرابعة : قوله : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم ، بل ذلك لبعضهم ، ثم بقيت الآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت سائر الدلائل على أنه لا بد للأمة من الإمام الأعظم ، وأنه هو الذي ينصب القضاة والولاة في البلاد ، صارت تلك الدلائل كالبيان لما في هذه الآية من الإجمال .
ثم قال تعالى : { إن الله يعظكم به } أي نعم شيء يعظكم به ، أو نعم الذي يعظكم به ، والمخصوص بالمدح محذوف ، أي نعم شيء يعظكم به ذاك ، وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل .
ثم قال : { إن الله كان سميعا بصيرا } أي اعملوا بأمر الله ووعظه فإنه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم ، وفيه دقيقة أخرى ، وهي أنه تعالى لما أمر في هذه الآيات بالحكم على سبيل العدل وبأداء الأمانة قال : { إن الله كان سميعا بصيرا } أي إذا حكمت بالعدل فهو سميع لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم ، وإن أديت الأمانة فهو بصير لكل المبصرات يبصر ذلك ، ولا شك أن هذا أعظم أسباب الوعد للمطيع ، وأعظم أسباب الوعيد للعاصي ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وفيه دقيقة أخرى ، وهي أن كلما كان احتياج العبد أشد كانت عناية الله أكمل ، والقضاة والولاة قد فوض الله إلى أحكامهم مصالح العباد ، فكان الاهتمام بحكمهم وقضائهم أشد ، فهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والتفاوت في أبصار المبصرات وسماع المسموعات ، ولكن لو فرضنا أن هذا التفاوت كان ممكنا لكان أولى المواضع بالاحتراز عن الغفلة والنسيان هو وقت حكم الولاة والقضاة ، فلما كان هذا الموضع مخصوصا بمزيد العناية لا جرم قال في خاتمة هذه الآية : { إن الله كان سميعا بصيرا } فما أحسن هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع .