الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

قوله تعالى : { أَن تُؤدُّواْ } : منصوبُ المحلِّ : إمَّا على إسقاط حرف الجر ؛ لأنَّ حَذْفَه يَطَّرِدُ مع " أنْ " ، إذا أُمِنَ اللَّبْسُ لطولِهما بالصلة ، وإمَّا لأن " أَمَر " يتعدَّى إلى الثاني بنفسِه نحو : " أمرتك الخير " . فعلى الأول يجري الخلافُ في محلِّها : أهي في محلِّ نصبٍ أم جر ، وعلى الثاني : هي في محلِّ نصبٍ فقط . وقُرئ " الأمانةَ " .

والظاهرُ أنَّ قوله : { أَن تَحْكُمُواْ } معطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا " أي : يأمركم بتأديةِ الأماناتِ وبالحكمِ بالعدلِ ، فيكونُ قد فصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ، وهي مسألة خلاف : ذهب الفارسي الى مَنْعِها إلا في الشعر ، وذهب غيره إلى جوازها مطلقاً . ولننقِّحْ محلِّ الخلاف أولاً فأقول : إنَّ حرف العطف إذا كان على حرف واحد كالواو والفاء : هل يجوزُ أن يُفْصَلَ بينه وبين ماعَطَفه بالظرفِ وشِبْهِهِ أم لا ؟ ذهب الفارسي إلى مَنْعِه مستدلاً بأنه إذا كان على حرف واحد فقد ضَعُف ، فلا يتوسَّط بينه وبين ما عطفه شيءٌ إلا في ضروة كقوله :

يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال *** عَضْب ويوماً أَدِيمَها نَغِلا

تقديره : " وترى أديمها نَغِلاً يوماً " فَفَصَل ب " يوماً . وذهب غيرُه إلى جوازِه مُسْتَدِلاًّ بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً }

[ البقرة : 201 ] { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [ يس : 9 ] { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنّ } [ الطلاق : 12 ] { أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ . . . . . } الآية .

وقال صاحب هذا القول : إن المعطوف عليه إذا كان مجروراً بحرف أُعيد ذلك الحرفُ مع المعطوفِ نحو : " امرُرْ بزيدٍ وغداً بعمروٍ " وهذه الشواهدُ لا دليلَ فيها : أمَّا " في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً " وقوله : " وجَعَلْنَا من بينِ أيديهم " فلأنَّه عَطَفَ شيئين على شيئين : عَطَفَ " الآخرة " على " الدنيا " بإعادة الخافضِ ، وعَطَفَ " حسنةً " الثانيةَ على " حسنةً " الأولى ، وكذلك عطف " مِنْ خلفهم " على " من بين " ، و " سداً " على " سداً " وكذلك البيت عطف فيه " أَدِيمَها " على المفعولِ الأولِ ل " تَراها " و " نَغِلا " على الثاني وهو " كشِبْه " و " يوماً " الثاني على " يوماً " الأول ، فلا فصلَ فيه حينئذ ، وحينئذ يقال : ينبغي لأبي عليّ أن يمنعَ مطلقاً ، ولا يَسْتثني الضرورة ، فإن ما استشهد به مؤولٌ عل ما ذَكَرْتُ . فإنْ قيل : إنَّما لم يجعلْه أبو علي من ذلك لأنه يؤدِّي إلى تخصيصِ الظرفِ الثاني بما وَقَعَ في الأولِ ، وهو انه تراها كشِبْه أردية العَضْب في اليوم الأول والثاني ؛ لأنَّ حكمَ المعطوف حكمُ المعطوفِ عليه فهو نظيرُ قولك : " ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت ، ف " يومَ السبت " مقيَّدٌ بضربِ زيد كما يُقيَّد به يوم الجمعة ، لكن الغرض أن اليوم الثاني في البيت مُقَيَّدٌ بقيد آخر وهو رؤية أَديمِها نَغِلا ، فالجواب : انه لو تُرِكنا والظاهرَ من غيرِ تقييد الظرف الثاني بمعنى آخر كان الحكمُ كما ذكرت ؛ لأنه الظاهرُ كما ذكرت في مثالك : " ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت " أمَّا إذا قَيَّدْته بشي آخر فقد تُرك ذلك الظاهرُ لهذا النصِّ ، ألا تراكَ تقول : " ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً يوم السبت " فكذلك هذا ، وهو موضعٌ يحتاج لتأمل .

وأمَّا " فبشَّرناها بإسحاق " ف " يعقوب " ليس مجروراً عطفاً على " إسحاق " بل منصوباً بإضمار فعل أي : ووهبا لها يعقوب ، ويدل عليه قراءة الرفع فإنها مؤذنةٌ بانقطاعِه من البشارة به ، كيف وقد تقدَّم أنَّ هذا القائَل يقول : إنه متى كان المعطوفُ عليه مجروراً ؟ أُعيد مع المعطوفِ الجارُّ . وأمَّا { أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ } فلا دلالة فيها أيضاً لأنَّ " إذا " ظرفٌ لا بدل له من عامل ، وعاملُه : إمَّا " أَنْ تَحْكُموا " وهو الظاهرُ ن حيث المعنى ، وإمَّا " يأمُركم " ، فالأول ممتنعٌ وإنْ كان المعنى عليه ؛ لأنَّ ما في حَيِّزِ الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين ، وأما الكوفيون فيُجيزون ذلك ، ومنه الآيةُ عندهم ، واستدلُّوا بقوله :

كان جَزائي بالعصا أَنْ أُجْلَدا ***

وقد جاء ذلك في المفعول الصريح في قوله :

1597 . . . . . . . . . . . . *** وشفاءُ غَيِّك خابراً أَنْ تَسْألي

فكيف بالظرفِ وشبهِه ؟ والثاني ممتنعٌ أيضاً لأنَّ الأمرَ ليس واقعاً وقت الحكم ، كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ ، وإذا بَطَل هذان فالعامل فيه مقدرٌ يفسِّره ما بعدَه تقديُره : وأَنْ تحكموا إذا حكمتم ، و " أن " تحكموا " الآخيرةُ دالةٌ على الأولى .

قوله : { بِالْعَدْلِ } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق ب " تحكموا " فتكونَ الباءُ للتعدية . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل " تَحْكُموا " فتكونَ الباءُ للمصاحبَة اي : ملتبسين بالعدل مصاحبين له ، والمعنيان متلازمان .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّم الكلامُ على " ما " المتصلة ب " نعم " وبئس " وما ذكر الناسُ فيها فعليك بمراجعته . إلا أن ابن عطية نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُد مِنْ وَهْمٍ ، فلا بُدَّ من ذكره قال : و " ما " المردفةُ على " نِعْم " إنما هي المهيئةُ لاتصالِ الفعل بها ، كما هي في " ربما " و " مِمَّا " في قولِه : " وكان رسولُ الله عليه السلام مِمَّا يحرِّك شفتيه " وكقوله :

وإنَّا لَمِمَّا نضربُ الكبشَ ضربةً *** على رأسِه تُلْقي اللسانَ من الفم

وفي هذا هي بمنزلة " ربما " ، وهي لها مخالفةٌ في المعنى ، لأن " ربما " للتقليل و " مِمَّا " للتكثير ، ومع أن " ما " موطئة فهي بمعنى الذي ، وما وَطَّأتْ إلا وهي اسم ، ولكنَّ القصدَ إنما هو لِما يليها من المعنى الذي في الفعل " قال الشيخ : " وهذا متهافتٌ ؛ لأنه من حيث جَعَلَها موطئةً مهيئةً لا تكون اسماً ، ومِنْ حيثُ جَعلَها بمعنى " الذي " يلزم أن تكونَ اسماً فتدافعا " .