لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ ، وشرحَ وعِيدَهُم ؛ عاد إلى التَّكْلِيف ، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتَابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا { هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }
أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور ، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ ، أو دُنْيَويَّة .
قوله : { أَن تُؤدُّواْ } مَنْصُوبُ المحلّ ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع " أنْ " ، إذَا أمِنَ اللَّبْس ؛ لطولهما بالصِّلَةِ ، وإما لأنَّ " أمر " يتعدى إلى الثَّاني بنفسه ، نحو : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، فعلى الأوَّل يَجْري [ الخلاف في مَحَلِّها ، أهي في مَحَلّ نصب ، أم جر ، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط ، وقرئ " الأمانة " ]{[8360]} .
نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ ، فلمَّا دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ ، وصَعَدَ السَّطْحَ ، فطلبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيلَ : إنَّه مع عثمان ، فَطَلَبَهُ{[8361]} منه فأبى ، وقال : لو عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللَّهِ [ صلى الله عليه وسلم ]{[8362]} لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده ، وأخذ منه المفتاح ، وفَتَح البَابَ ، ودخل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البيت ، وصلّى فيه ركعتين ، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [ المفتاحَ ]{[8363]} أن يعطيه ، ويجمع له بين السِّقَايَةِ ، والسِّدَانة{[8364]} ، فأنزل اللَّهُ - تعالى - هذه الآية ، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ ، وَيَعْتَذِرَ إليه ، ففعل ذلك عليٌّ ، فقال عثمان : أكْرَهْتَ ، وآذَيْتَ ، ثم جئْتَ تَرْفُق ، فقال : لقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في شأنِكَ ، وَقَرَأ عليه الآية ، فقال عُثْمَانُ : " أشْهَدُ [ ألا إله إلاّ اللَّه و ]{[8365]} أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللَّهِ ، وأسْلَمَ ، وكانَ المِفْتَاحُ معه ، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ{[8366]} .
وقيل{[8367]} : المرادُ من الآية جميعُ الأمَانَاتِ .
واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسَانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه ، أو مع العِبَادِ ، أوْ مع نفسه . فمعاملة الرَّبِّ فهو : فعل المأمُورَات ، وترك المَنْهيَّاتِ .
قال ابْنُ مَسْعُودٍ : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ ؛ في الوُضُوءِ ، والجَنَابَةِ ، والصَّلاةِ ، والزَّكَاةِ ، والصَّوْم .
[ قال أبُو نُعَيْم الحَافِظُ في " الحِلْيَةِ " {[8368]} : ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع : البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ ، وابْنُ مَسْعُودٍ ، وابْنُ عَبَّاسٍ ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ .
قالوا : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ ، في الوضوء ، والجنابة ، والصّلاة ، والزكاةِ ، والصّوم ، والكيل ، والوزن ، والودائع .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : لم يرخص اللَّهُ لمُعْسِرِ ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة ]{[8369]} {[8370]} .
وقال ابْنُ عُمَرَ : " إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان ، قال : " هذَا أمانةٌ [ خَبَّأتُهَا ]{[8371]} عِنْدَكَ ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا " {[8372]} .
فأمانة{[8373]} اللِّسَانِ ألاّ يستعمله في الكذِبِ ، والغيبةِ ، والنَّميمَةِ ، والكُفْرِ ، والبدعةِ ، والفُحْشِ ، وغيرها .
وأمانة العَيْنِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهَا في النَّظَرِ الحَرَامِ ، وأمَانَةَ السَّمْعِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهُ في سَمَاعِ المَلاَهِي ، والمَنَاهِي ، وسماع الفُحْشِ ، والأكاذيبِ ، وغيرها .
وكذا جميع الأعْضَاءِ ، وأمَّا الأمَانَةُ مع سَائِرِ الخَلْقِ فلردِّ{[8374]} الوَدَائِعِ ، وتركِ التَّطفيفِ في الكَيْلِ ، والوزْنِ ، وعدْلِ الأمرَاءِ في الرَّعِيَّةِ ، وعدلِ العُلَمَاءِ في العَوَامِ : بأن يُرْشِدُوهم إلى الاعتِقَاداتِ ، والأعْمَالِ الَّتي تنفعهم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم ، ولا يحملوهم عَلَى التَّعصُّبَات البَاطِلَةِ ، وأمَانَةُ الزَّوْجَةِ للزَّوْجِ في حفظ فَرْجِهَا ، وألا تُلْحِقَ به وَلَداً من غَيْرِهِ ، وفي إخبارِها عن انْقِضَاءِ عدَّتها ، ونهي اليهود عن كِتْمَانِ أمر{[8375]} محمد - عليه الصَّلاة والسلام - وأما أمَانته مع نفسه{[8376]} ، فهو ألا يَخْتَارُ [ لِنَفْسِهِ ]{[8377]} إلاّ الأنْفَعَ ، والأصْلَحَ ، في الدِّين والدُّنْيَا ، وألا يقدم بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ ، والغَضَبِ على مَا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ قال أنَسٌ - رضي الله عنه - : قلَّ ما خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال " لا إيْمَانَ لَمنْ لا أمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لمَنْ لا عَهْدَ لَهُ " {[8378]} ، وقال تعالى
{ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] ، وقد عظَّم الله أمْرَ الأمَانَةِ فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] .
[ ويروي أنَّ اللَّه - تعالى - خَلَقَ الدُّنْيَا كالبُسْتَانِ ، وزينها بخمسة أشْيَاء :
عِلْمَ العُلمَاءِ ، وعَدْلِ الأمَرَاءِ ، وعِبَادَةِ العُلَمَاءِ ، ونَصِيحَةِ المُسْتَشَارِ ، ودفع الخيانة ]{[8379]} .
الأكْثَرُونَ على أنَّ الوديعةَ غير مضمونةٍ عند عَدَمِ التَّفْرِيطِ ، وعن بعض السَّلَفِ أنَّهَا مَضْمُونَةٌ .
روى الشَّعْبِيُّ عن أنَسٍ قال : اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بضاعةً ، فضاعت من بين ثيابي . فضمنني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -{[8380]} .
وعن أنسٍ قال : كان لإنسان عندي وديعَةٌ سِتَّةُ ألاف درهَمٍ ، فذهبت فقال عُمَرُ : " ذهب لك معها شيء " ؟ [ قلت : لاَ ]{[8381]} فألزمني الضَّمَان{[8382]} .
وحجة الجُمْهُورِ ما رَوَى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه قال : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " لا ضَمَانَ عَلَى دَاع ، ولا [ على ]{[8383]} مُؤتمَنٍ " {[8384]} ، وأما فِعْلُ عمر - رضي الله عنه - [ فهو ]{[8385]} محمولٌ على أنَّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان .
قال الشافعيُّ وأحمدُ : العاريةُ مَضْمُونَةٌ بعد الهَلاَكِ لقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ [ إِلَى أَهْلِهَا } ] {[8386]} والأمر لِلوُجُوبِ ، وقوله - عليه الصلاة والسلام : " على اليَد مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤديهُ " {[8387]} وخصت منه الوديعَةُ ، فيبقى العامُّ بَعْدَ التَّخْصيصِ{[8388]} حجة ، وأيضاً فإنَّا أجمعْنَا على أنَّ المستام مَضْمُونٌ ، وأنَّ المودع غيره مَضْمُونٍ والعَارِيَة وقعت في البين ، ومشابهتها لِلْمُسْتَام أكثر ؛ لأنَّ كلاّ منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه ، والوديعة أخذها لِغَرَضِ المالِكِ ، فظهر الفَرْقُ بيْنَ العاريَةِ والوديعة .
وقال أبُو حنيفَة : [ العارية ]{[8389]} ليست مضمونة كقوله عليه السلامُ
" لاَ ضَمَانَ عَلَى مُؤتَمنٍ " وجوابه أنَّهُ مَخصوصٌ بالمستام ، فكذا في العَارِيَةِ ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ .
قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [ فيكون ]{[8390]} قوله { أَن تَحْكُمُواْ } معطوف على { أَن تُؤدُّواْ } أي : يأمرُكُمْ بتَأديَةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ ، والمعطوف بالظَّرْفِ . وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها إلاّ في الشِّعْرِ .
وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً ، ولنصحّح مَحَلّ الخلافِ أولاً : فنقولُ : إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو ، والفاء هل{[8391]} يجوزُ أن يفصل بينه ، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا ؟
فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ ، فقد ضَعُفَ ، فلا يتوسّط بينه ، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله : [ المنسرح ]
يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الْ *** عَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ{[8392]}
تقديره : وترى أديمها نغلاً يوماً ، [ ففَصَل ب " يَوْماً " ]{[8393]} ، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازِهِ مُسْتَدِلاً بقوله : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ،
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ،
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً [ ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً{[8394]} فَأغْشَيْنَاهُمْ }{[8395]} [ يس : 9 ]
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] . { أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ } [ الآية ]{[8396]} ، وقالَ صَاحِبُ هذا القول : إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرفٍ ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو : امرر{[8397]} بزيدٍ وغداً بِعَمْرو ، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها{[8398]} .
أمَّا " فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً " ، وقوله{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 9 ] ، فلأنه{[8399]} عطف شيئين على شَيْئَيْنِ : عطف الآخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى ، وكذلك عطف " من خلفهم " على " من بين أيديهم " و " سدَّا " على " سدَّا " ، وكذلك البيت عطف فيه " أديمها " على المفعول الأوَّل ل " تَرَاها " ، و " نَغلاً " على الثاني وهو كشبه{[8400]} و " يوماً " الثَّاني على " يَوْماً " الأوَّلِ ، فلا فصل فيه حينئذٍ ، [ وحينئذ ]{[8401]} يقال : [ ينبغي ]{[8402]} لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً ، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ ، فإن{[8403]} ما استشهده به مُؤوَّل{[8404]} على ما ذكرناه .
فإن قيل : إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك ؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني ؛ لأنَّ حُكْمَ [ المعطُوف حكم ]{[8405]} المعطوف عليه ، فهو نَظِيرُ قولك : ضَرَبْتُ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ ، ويوم السَّبْت ، ف " يَوْمَ " السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [ زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجُمعة ، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر ]{[8406]} وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً .
فالجوابُ : أنه{[8407]} لو تركنا [ و ]{[8408]} الظَّاهر من غير تَقْييدِ{[8409]} الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [ لأن الظاهر كما ذكرت ]{[8410]} في مثالك : ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [ وعَمراً ]{[8411]} يَوْمَ السَّبْتِ [ أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر ، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص ، ألا تَرَاكَ تَقُولُ : ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة ، وعمراً يوم السَّبت ]{[8412]} ، فكذلك هَذَا ، وهو مَوْضعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ .
وأما " فبشرناها{[8413]} بإسحاق " ، فيعقوب ليس مجروراً عَطْفاً على إسْحَاق ، بل منصوباً بإضْمَارِ فعل أي : ووهبنا لها{[8414]} يعقوبَ ، وَيَدُلُّ عليه قراءةُ الرَّفْع ، فإنَّهَا مؤذنة بانْقطَاعِهِ من البِشَارَة [ به ]{[8415]} ، كيف وقد تَقدَّم أنَّ هذا القائل يَقُولُ : إنَّهُ متى كان المَعْطُوفُ عليه مجروراً ، أُعيدَ مع المَعْطُوفِ الجار . [ و ]{[8416]} أما { أن يؤدوا الأمانات }{[8417]} ، فلا دلالة فيها أيضاً ؛ لأن " إذَا " ظرف لا بُدَّ من عامل ، وعامله إما { أَن تَحْكُمُواْ } وهو الظَّاهِرُ من حيث المعنى ، وإما { يَأْمُرُكُمْ } فالأوَّلُ ممتنع ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنَّ ما في حيز الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين ، وأمّا الكُوفِيُّون فيجوِّزونَ ذلك ، ومنه الآية عِنْدَهُم ، واستَدَلُّوا بقوله : [ الرجز ]
. . . *** كَانَ جَزَائِي بالْعَصَا أنْ أجْلَدَا{[8418]}
وقد جاء ذلِكَ في المفعول الصَّريح في قوله : [ الكامل ]
. . . *** وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي{[8419]}
والثاني ممتنعٌ أيضاً ؛ لأنَّ الأمْرَ ليس واقعاً وَقْتَ الحكم ، كذا قاله أبُو حَيَّان{[8420]} وفيه نَظَرٌ وإذا بَطَلَ هذا فالعامِلُ فيه مُقَدَّرٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ تَقْدِيره : " وأن تحكموا إذا حكمتم " ، و " أن تحكموا " الأخيرة دالة على الأولى .
قوله " بالعدل " يجوزُ فيه وجهان :
أحَدُهُمَا : أنْ يتعلَّقَ ب " تحكموا " ، فتكونُ البَاء للتَّعدية ، والثانية : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من فاعل تحكموا ، فتكونُ الباء للمصاحبة ، أي : ملتبسين بالعَدْلِ مصاحبين له .
اعْلَمْ أن الأمانة عبارة عن أداء ما وَجَبَ عليك لِغَيْرِكَ ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنْسَانٍ على غيره حق ، فأمر من وَجَبَ عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى مَنْ له ذلك الحق .
ولما كان التَّرْتيبُ الصَّحيحُ أن يبدأ الإنسان بِنَفْسِهِ في جلب المَنَافِعِ ، ودفع المضار ، ثم يشتغل بغيره ، لا جَرَمَ أمر تعالى بِأدَاءِ الأمَانَةِ أوّلاً ، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحَقّ ، وهذا من اللَّطَائِف المودعة في ترتيب القرآن .
أجّمعُوا على أنَّهُ يَجِبُ على الحَاكِمِ أنْ يَحْكُم بالعَدْلِ ، لهذه الآية ، ولقوله تعالى
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ }
[ الأنعام : 152 ] وقوله { يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } [ ص : 26 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام : " لا تَزَالُ هذه الأمَّةُ بخَيْرٍ ما إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ ، وإذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذَا اسْترْحَمتْ رَحِمَتْ " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " المُقْسِطُونَ عِند اللَّهِ علَى منابر مِنْ نُورٍ عن يمينِ الرَّحْمان ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ؛ هُمُ الذين يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأهْلِيهِمْ ما وُلُّوا " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " إنَّ أحَبَّ النَّاس إلى اللَّهِ يومَ الْقِيَامَةِ ، وأقْرَبَهَمْ مِنْهُ مَجْلِساً إمامٌ عادِلٌ وإنَّ أبْغَضَ النَّاسِ إلى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأشَدّهُمْ عَذَاباً إمامٌ جَائِرٌ "
وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ ، فَيُجْمَعُونَ عَلَيْهِ فَيُلْقَونَ في النَّارِ " .
يحقق ذلك قوله تعالى { احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] وقوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } [ إبراهيم : 42 ] .
فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين
يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عليه ، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ ، والإقبال عَلَيْهِمَا ، والاستماعِ منهما ، والحكم بَيْنهُمَا ، وينبغي ألا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً ، ولا شاهداً شهادته ، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى ، والاستخلافَ ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ ، ولا الإنْكَارَ ، ولا يُضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الآخر ، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا ، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب ؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة ب " نعم " ، و " بئس " إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ ! .
قال{[8421]} : و " ما " المُرْدَفَةُ على نعم ، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا ، ومما في قوله : وكان رَسُولُ اللَّه مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر : [ الطويل ]
وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً *** عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ{[8422]}
وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا ، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى ؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئةَ ، فهي بمعنى الَّذي ، وما وَطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ . ولكن المقصد إنما هو لما يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل .
قال أبُو حَيَّان{[8423]} وهذا متهافتٌ ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً ، لا تكونُ أسماء ، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً ، فتدافعا .
فصل : في معنى قوله " نعما يعظكم "
المعنى : نِعْمَ شَيئاً يعظكم به ، أو نِعْمَ الشَّيْء الذي يعظكُم بِه .
والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ ، أي : نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك ، وهو المأمور به : من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ ، أي : بالقسط ، ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } ، أي : إذا حكمت بالعدل ، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ ، فهو بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك ، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع ، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي . وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - " اعْبُد اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ " .