فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا( 58 )

{ تؤدوا } تعطوا . { الأمانات } جمع ، والفرد : أمانة ، مصدر بمعنى المفعول ، أي ما تؤتمن عليه ويتعلق بذمتك من حقوق الله تعالى وحقوق العباد ، فعلية أو قولية أو اعتقادية .

{ العدل } الإنصاف والتسوية . { أهلها } أصحابها ومستحقيها .

{ نعما يعظكم به } نعم الذي يعظكم الله تعالى به .

{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } عهد من الله تعالى موثق ، مطلوب أن نوفيه إلى مستحقيه ، دون نقص أو تأخير ؛ - تعم جميع الأمانات ، فأولها : الأمانة مع الرب تعلى في كل ما أمر به ونهى عنه ، قال ابن مسعود : الأمان في كل لازمة ، في الوضوء والجنابة ، والصلاة والزكاة والصوم ، وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال : هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها ؛ وهذا باب واسع ، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام ، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب ، وكذا القول في سائر الأعضاء ؛ ثم الأمانة مع سائر الخلق ، ويدخل فيه رد الودائع ، وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ، ويمنعوهم عن العقائد الباطلة ، والأخلاق غير الفاضلة ، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها ، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها ، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس ، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب- ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد- والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا ، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية في التبعات الدائمة ، وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه : ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها . . ) ( {[1443]} ) ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) ( {[1444]} ) ، وقال صلى الله عليه وسلم( {[1445]} ) : " ألا لا إيمان لمن لا أمانة له " -( {[1446]} ) ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم مَن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " ؛ وقال ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة ؛ وقال ابن المنذر : أجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها ، الأبرار منهم والفجار ؛ { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } لعل الأمر يشمل الحكم عن ولاية عامة أو خاصة أو عن تحكيم ؛ في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وكلكم راع فمسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده( {[1447]} ) وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " قال العلماء : الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما تحت نظره ، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام لمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته ، فإن وفى ما عليه من الرعاية كان له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر ، وإلا طالبه كل أحد من رعيته بحقه( {[1448]} ) ؛ يقول العلماء : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم ، وكذلك العالم حاكم ، لأنه إذا أفتى حكم وقضى ، وفصَل بين الحرام والحلال ، والفرض والندب ، والصحة والفساد فجميع ذلك أمانة تؤدى ، وحكم يقضى ، { إن الله كان سميعا بصيرا }- إن الله لم يزل سميعا لما تقولون وتنطقون ، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تجاوزوهم به ، { بصيرا } بما تفعلون فيما ائتمنكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم ، وما تقضون به بينهم من أحكامكم ، بعدل تحكمون أو جور ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، حافظ ذلك كله ، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ، ومسيئكم بإساءته ، أو يعفو بفضله-( {[1449]} ) .


[1443]:من سورة الأحزاب. من الآية 72.
[1444]:من سورة المؤمنون.الآية 8.
[1445]:كما روى عنه صلى الله عليه وسلم أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة عام حجة الوداع:"العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مُقضى والزعيم غارم" صحيح أخرجه الترمذي وغيره، وزاد الدارقطني: فقال رجل فعهد الله ؟ قال:" عهد الله أحق ما أدى"؛ يقول علماء الأحكام: فالآية شاملة بنظمها بكل أمانة، وهي أعداد كثيرة، وأمهاتها في الأحكام: الوديعة واللقطة والرهن والعارية.
[1446]:من تفسير غرائب القرآن؛ بتصرف يسير.
[1447]:يقول الشراح: أي وغيرهم، كخدمة وأضيافه بحسن التدبير في أمرهم، والقيام بمصالحهم.
[1448]:وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".
[1449]:من جامع البيان.