{ إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقاله : مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة ، فنزلت .
فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم » وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله : زيد بن أسلم ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته .
وقيل : نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين .
ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق .
والظاهر في : يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة .
وقال ابن جريج : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن مفتاح الكعبة .
وقال علي ، وابن أسلم ، وشهر ، وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه ، ثم يتناول مَن بعدهم .
وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهنّ إلى الأزواج .
وقيل : خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعتِ الرسول أنْ يظهروه لأهله ، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية .
ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها .
وقيل : ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات .
والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، وعدل الحكومات .
ومنه دونهم من الناس في الودائع ، والعواري ، والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة .
قال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة .
وقرئ : أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد ، وأن تحكموا ، ظاهره : أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا .
وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله : { ربنا آتنا في الدنيا وفي الآخرة حسنة } { وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً } { سبع سموات ومن الأرض مثلهن } ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور .
وأبو عليّ يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب .
فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو : امرر بزيد وغداً بعمرو .
ولكنَّ قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ، ليس من هذه الآيات ، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم .
والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة ، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور .
وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها ، لأنه يجيز : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة أنْ عليها .
{ إن الله نعماً يعظكم به } أصله : نعم ما ، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي .
كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ، أي شيء يعظكم به .
ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه .
والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله .
وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو .
وقال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ، ومما في قوله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر :
وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم
وفي هذا هي بمنزلة ربما ، وهي لها مخالفة في المعنى : لأنّ ربما معناها التقليل ، ومما معناها التكثير .
ومع أن ما موطئه ، فهي بمعنى الذي .
وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه .
وهو كلام متهافت ، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا .
وقرأ الجمهور : نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين .
وقرأ بعض القراء : نعماً بفتح النون على الأصل ، إذ الأصل نعم على وزن شهد .
ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ، فيكون جمعاً بين ساكنين .
{ إن الله كان سميعاً } أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.