البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

{ إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقاله : مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة ، فنزلت .

فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان .

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم » وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله : زيد بن أسلم ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته .

وقيل : نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين .

ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق .

والظاهر في : يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة .

وقال ابن جريج : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن مفتاح الكعبة .

وقال علي ، وابن أسلم ، وشهر ، وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه ، ثم يتناول مَن بعدهم .

وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهنّ إلى الأزواج .

وقيل : خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعتِ الرسول أنْ يظهروه لأهله ، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية .

ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها .

وقيل : ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات .

والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، وعدل الحكومات .

ومنه دونهم من الناس في الودائع ، والعواري ، والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة .

قال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة .

وقرئ : أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد ، وأن تحكموا ، ظاهره : أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا .

وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله : { ربنا آتنا في الدنيا وفي الآخرة حسنة } { وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً } { سبع سموات ومن الأرض مثلهن } ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور .

وأبو عليّ يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب .

فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو : امرر بزيد وغداً بعمرو .

ولكنَّ قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ، ليس من هذه الآيات ، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم .

وقد خرجه على هذا بعضهم .

والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة ، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور .

وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها ، لأنه يجيز : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة أنْ عليها .

{ إن الله نعماً يعظكم به } أصله : نعم ما ، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي .

كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ، أي شيء يعظكم به .

ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه .

والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله .

وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو .

وقال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ، ومما في قوله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر :

وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة *** على رأسه تلقى اللسان من الفم

ونحوه .

وفي هذا هي بمنزلة ربما ، وهي لها مخالفة في المعنى : لأنّ ربما معناها التقليل ، ومما معناها التكثير .

ومع أن ما موطئه ، فهي بمعنى الذي .

وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه .

وهو كلام متهافت ، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا .

وقرأ الجمهور : نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين .

وقرأ بعض القراء : نعماً بفتح النون على الأصل ، إذ الأصل نعم على وزن شهد .

ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ، فيكون جمعاً بين ساكنين .

{ إن الله كان سميعاً } أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام .

{ بصيراً } بردّ الأمانات إلى أهلها .