غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

58

التفسير : لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف . وأيضاً لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات . وأيضاً قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال : { إنّ الله يأمركم أن تؤذوا الأمانات إلى أهلها } روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح ، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان . فطلب منه فأبى فقال : لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه . فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى ركعتين . فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى العباس ثم قال : يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيباً فأنزل الله هذه الآية . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ، ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان : يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال : لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية .

فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأسلم . فجاء جبريل عليه السلام وقال : ما دام هذا البيت كان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وقال : خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلاّ ظالم . ثم إنّ عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة وهو اليوم في أيديهم . ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات . فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه . قال ابن مسعود : الأمانة في الكل لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم . وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلاّ بحقها وهذا باب واسع . فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام ، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب ، وكذا القول في سائر الأعضاء . ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة ، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها ، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها ، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس ، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب ، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا ، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية ، في التبعات الدائمة . وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه { إنا عرضنا الأمانة }[ الأحزاب :72 ]{ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }[ المؤمنون :8 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " ألا لا إيمان لمن لا أمانة له " والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع . ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وفي قوله : { وإذا حكمتم } تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء . وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة : الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله . ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة ، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعاً وخلافاً ، وجلي القياس وخفيه وصحيحه وفاسده ، ويعرف لسان العرب لغة وإعراباً خصوصاً وعموماً إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها .

وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده ، فعلى المتصدي لذلك أن يتأدب بآدابهم ويتخلق بأخلاقهم وإلا فالويل له . عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط " وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر ؟ وعنه " ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة ؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم دواة ، فيجمعون ويلقون في النار " . { إن الله نعماً يعظكم به } المخصوص بالمدح محذوف و " ما " موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير : نعم الذي أو نعم شيئاً يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل { إنّ الله كان سميعاً بصيراً } يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون ، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي .

/خ70