فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع ، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس قاطبة في جميع الأمانات ، وقد روى عن علي وزيد بن أسلم وشهر ابن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين والأول أظهر ، وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول .

قال الواحدي : أجمع المفسرون عليه ، انتهى ، ويدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوليا فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات ، وتحري العدل في أحكامهم ، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب فيجب عليهم رد ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات والأخبار .

وممن قال بعموم هذا الخطاب البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب ، واختار جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير ، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر .

والأمانات جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول .

وقد أخرج ابن مردوديه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة فنزل جبريل عليه السلام برد المفتاح فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة فرده إليه وقرأ هذه الآية{[489]} .

وعن ابن جريج أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه . وقال هاك خالدة تالدة أي مستمرة إلى آخر الزمان قديمة متأصلة ، وقد روى هذا المعنى بطرق كثيرة .

وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيقهي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أد الأمانة لمن ائتمنتك ولا تخن من خانك{[490]} ) ، وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق{[491]} .

{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا الحكم بالرأي المجرد ، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله ورسوله ، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص .

وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فهو لا يدري ما هو العدل لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته ، فضلا عن أن يحكم بها بين عباد الله .

عن علي قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا وأصل العدل هو المساواة في الأشياء ، فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمي عدلا .

قيل : ينبغي العدل بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له ، ويكون مقصوده بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه ، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر ، وقد ورد في فضل العادلين من الولاة أحاديث .

{ إن الله نعما يعظكم به } أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل على وفق السنة والكتاب دون الرأي البحت والعقل الصرف تقليدا للأحبار والرهبان من غير حجة نيرة وبرهان واضح ، وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم .


[489]:قال السيوطي في "الدر المنثور"2/174: أخرجه ابن مردوديه من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس مطولا. قلت: والكلبي وأبو صالح ضعيفان لا يحتج بهما.
[490]:قال ابن كثير في تفسير الآية: يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
[491]:صحيح الجامع الصغير16.