فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع ؛ لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات ، وقد روي عن علي ، وزيد بن أسلم ، وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين ، والأوّل أظهر ، وورودها على سبب ، كما سيأتي ، لا ينافي ما فيها من العموم ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أوّليا ، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ، وردّ الظلامات ، وتحرّي العدل في أحكامهم ، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب ، فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات ، والتحري في الشهادات والأخبار . وممن قال بعموم هذا الخطاب : البراء بن عازب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، واختاره جمهور المفسرين ، ومنهم ابن جرير ، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها : الأبرار منهم والفجار ، كما قال ابن المنذر . والأمانات جمع أمانة ، وهي : مصدر بمعنى المفعول .

قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُوا بالعدل } أي : وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . والعدل : هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا الحكم بالرأي المجرد ، فإن ذلك ليس من الحق في شيء ، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه ، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص ، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ، ولا بما هو أقرب إليهما ، فهو لا يدري ما هو العدل ؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته ، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله . قوله : { نِعما } «ما » موصوفة أو موصولة ، وقد قدّمنا البحث في مثل ذلك .

وقد أخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ، فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة ، وردّه إليه ، وقرأ هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن عساكر ، عن ابن جريج : أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدعاه ، ودفعه إليه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن أبي شيبة ، عن علي قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك ، فحقّ على الناس أن يسمعوا له ، وأن يطيعوا ، وأن يجيبوا إذا دعوا . وأخرج أبو داود ، والترمذي ، والحاكم ، والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك » وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ، ففيه خصلة من خصال النفاق .