{ تِلْكَ الْقُرَى ْ } الذين تقدم ذكرهم { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ْ } ما يحصل به عبرة للمعتبرين ، وازدجار للظالمين ، وموعظة للمتقين .
{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ْ } أي : ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى ما فيه سعادتهم ، وأيدهم اللّه بالمعجزات الظاهرة ، والبينات المبينات للحق بيانا كاملا ، ولكنهم لم يفدهم هذا ، ولا أغنى عنهم شيئا ، { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ْ } أي : بسبب تكذيبهم وردهم الحق أول مرة ، ما كان ليهديهم للإيمان ، جزاء لهم على ردهم الحق ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ْ } { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ْ } عقوبة منه . وما ظلمهم اللّه ولكنهم ظلموا أنفسهم .
هذا وبعد أن انتهت السورة الكريمة من الحديث عما جرى لبعض الأنبياء مع أقوامهم ، ومن بين سنن الله في خلقه ، وبعد أن حذرت وأنذرت ، اتجهت بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتطلعه على النتيجة الأخيرة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف عنه من حقائق تتعلق بطبيعة الكفر وطبيعة الإيمان فقالت : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } .
أى : تلك القرى التي طال الأمد على تاريخها ، وجهل قومك أيها الرسول الكريم أحوالها . وهى قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب ، نقص عليكم ما فيه العظات والعبر من أخبارها . ليكون ذلك تسلية لك وتثبيتاً لفؤادك ، وتأييداً لصدقك في دعوتك .
قال الزمخشرى : قوله - تعالى - : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } كقوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } في أنه مبتدأ وخبر وحال . ويجوز أن يكون القرى صفة لتلك ونقص خبراً ، وأن يكون { القرى نَقُصُّ } خبراً بعد خبر . فإن قلت : ما معنى { تِلْكَ القرى } ؟ حتى يكون كلاما مفيداً . قلت : هو مفيد ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم . فإن قلت : ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها ؟ قلت : معناه أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أخبارها ولها أنباء أخرى لم نقصها عليك " .
وإنما قص الله - تعالى - على رسوله صلى الله عليه وسلم أنباء أهل هذه القرى ، لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم ، فتوهموا أنهم على الحق ، فذكرها الله لمن أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليحترسوا عن مثل تلك الأعمال ، وليعتبروا بما أصاب الغافلين الطاغين من قبلهم .
ثم بين - سبحانه - أنه قد أعذر إليهم بأن وضح لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل فقال : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } أى : ولقد جاء إلى أهل تلك القرى رسلهم بالدلائل الدالة على صدقهم ، فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات من رسلهم بما كانوا قد كذبوا به قبل رؤيتها منهم ، لأنهم لجحودهم وعنادهم تحجرت قلوبهم ، واستوت عندهم الحالتان : حالة مجىء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئتهم بها .
وقيل إن المعنى : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلالكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله - تعالى - { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) .
وقوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } أى : " مثل ذلك الطبع الشديد المحكم الذي طبع الله به على قلوب أهل تلك القرى المهلكة ، يطبع الله على قلوب أولئك الكافرين الذين جاءوا من بعدهم بسبب إيثارهم الضلالة على الهداية .
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب [ عليهم الصلاة والسلام ]{[11989]} وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين ، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى : { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي : يا محمد { مِنْ أَنْبَائِهَا } أي : من أخبارها ، { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود : 101 ، 102 ]
وقوله تعالى : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } الباء سببية ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم . حكاه ابن عطية ، رحمه الله ، وهو متجه حسن ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون ]{[11990]} } [ الأنعام : 110 ، 111 ] ؛ ولهذا قال هنا : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } .
{ تلك } ابتداء ، و { القرى } قال قوم هو نعت والخبر { نقصّ } ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن { القرى } هي خبر الابتداء ، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها ، وهذا كما قيل في { ذلك الكتاب } إنه ابتداء وخبر ، وكما قال صلى الله عليه وسلم «أولئك الملأ » ، وكقول أبي الصلت : تلك المكارم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا كثير ، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة ، والمعنى : نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل ، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر ، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر .
قال القاضي أبو محمد : أشار إلى هذا القول النقاش ، فكأن الضمير في قوله { كانوا } يختص بالآخرين ، والضمير في قوله { كذبوا } يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد : فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم — لو ردوا ?لى الدنيا ومكنوا من العودة — ليؤمنوا بما كذبوا في حال حياتهم ودعاء الرسول لهم ، قاله مجاهد وقرنه بقوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وهذه أيضاً صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر ، بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به ، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل ، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق ، وهو قول أبي بن كعب .
لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم ، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها ، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى ، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق .
وجملة : { تلك القرى } مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] ثم قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } [ الأعراف : 94 ] الآية .
و { القرى } يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع ، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها ، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } [ التوبة : 35 ] أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم ، وهم قد علموا أنه كنزهم ، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم ، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة .
وجملة : { نقص عليك من أنبائها } إما حال من { القرى } على الوجه الأول .
وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها ، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه ، والوعدُ بالزيادة من ذلك ، لما دل عليه قوله : { نقص } من التجدد والاستمرار ، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها .
وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله : { القرى } .
و ( منْ ) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ .
والأنباء : الأخبار ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .
والمراد بالقرى وضمير أنبائها : أهلها ، كما دل عليه الضمير في قوله : رسلهم .
وجملة : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } عطف على جملة : { تلك القرى } لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وجمع « البينات » يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول ، والبينات : الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى : { قد جاءتكم بينة من ربكم } في قصة ثمود في هذه السورة ( 73 ) .
( والفاء ) في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا } لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان .
وصيغة { ما كانوا ليؤمنوا } تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر . وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في سورة آل عمران ( 79 ) . والمعنى : فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه .
{ وما كذبوا } موصول وصلته وحُذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف ، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية .
وما صْدَقُ ( ما ) الموصولة : ما يدل عليه { كذبوا } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دُعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث . وشأن ( ما ) الموصولة أن يراد بها غير العاقل ، فلا يكون ما صْدقُ ( ما ) هنا الرسل ، بل ما جاءت به الرسل ، فلذلك كان فعل { كذبوا } هنا مقدراً متعلّقهُ لفظُ ( به ) كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به ، قال تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وكذّب به قومُك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وحُذف المتعلق هنا إيجازاً ، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى ، ابتداء من قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } [ الأعراف : 94 ] وقد سبق في ذلك قوله : { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [ الأعراف : 96 ] ولهذا لم يحذف متعلق فعل { كذبوا } في نظير هذه الآية من سورة يونس .
والمعنى : ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة ، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء { قبلُ } على الضم تقديره : من قبلِ مجيء البينات .
وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب ، وهو استعمال كثير ، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } .
ومعنى قولهن : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } مثلَ ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر ، والمؤذن به فعل { يطبع } ، وقد تقدم نظائره غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ) .
وإظهار المسند إليه في جملة { يطبع الله } دون الإضمار : لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذاً إلى قلوبهم كقوله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان : 11 ] دون أن يقول : هذا خلقي ، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده .
والقلوب : العقول ، والقلب ، في لسان العرب : من أسماء العقل ، وتقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .
والتعريف في { الكافرين } تعريف الجنس ، مفيد للاستغراق ، أي : جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم .
وفي قوله : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } إلى آخر الآية ، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين ، وأن ذلك ليس لتقصير منه ، ولا لضعف آياته ، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه .