فأحضرهن الملك ، وقال : { مَا خَطْبُكُنَّ } أي : شأنكن { إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } فهل رأيتن منه ما يريب ؟
فبرَّأنه و { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } أي : لا قليل ولا كثير ، فحينئذ زال السبب الذي تنبني عليه التهمة ، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز ، ف { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي : تمحض وتبين ، بعد ما كنا ندخل معه من السوء والتهمة ، ما أوجب له السجن{[445]} { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } في أقواله وبراءته .
هذا ، وقوله - سبحانه - { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } حكاية لما فعله الملك بعد أن بلغه الرسول بما طلبه يوسف منه .
وفى الكلام حذف يفهم من السياق ، والتقدير : وبعد أن رجع رسول الملك إليه وأخبره بما قاله يوسف ، استجاب الملك لما طلبه يوسف منه ، فأحضر النسوة وقال لهن : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه .
والخطب : مصدر خطب يخطب ، ويطلق - غالبا - على الأمر المهم الذي يجعل الناس يتحدثون فيه كثيراً ، وجمعه خطوب .
والمعنى : بعد أن جمع الملك النسوة قال لهن : ما الأمر الهام الذي حملكن في الماضى على أن تراودن يوسف عن نفسه ؟ وهل وجدتن فيه ميلا إلى الاستجابة لكنَّ . . "
قال صاحب الظلال ما ملخصه : " والخطب الأمر الجلل .
. . فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن ، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال ، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه ، فهو يواجههن مقررا الاتهام ، ومشيرا إلى أمر لهن جلل . .
ون هذا نعلم شيئاً بما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ، وما قالته النسوة ليوسف ، وما لمحن به وأشرن إليه ، من الإِغراء الذي بلغ حد المراودة .
ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ ، فالجاهلية هي الجاهلية دائماً ، وِأنه حيثما كان الترف ، وكانت القصور والحاشية ، كان التحلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدى ثياب الأرستقراطية " .
وأمام هذه المواجهة التي واجههن بها الملك ، لم يملكن الإِنكار ، بل قلن بلسان واحد : { حَاشَ للَّهِ } أى : معاذ الله .
{ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء } قط ، وإنما الذي علمناه منه هو الاستعصام عن كل سوء .
وهنا { قَالَتِ امرأت العزيز } ويبدو أنها كانت حاضرة ، معهم عند الملك .
{ الآن حَصْحَصَ الحق } أى : الآن ظهر الحق وانكشف انكشافا تاما بعد أن كان خافيا والفعل حصحص أصله حص ، كما قيل : كبكب في كب ، وهو مأخوذ من الحص بمعنى الاستئصال والإِزالة ، تقول : فلان حص شعره إذا استأصله وأزاله فظهر ما كان خافيا من تحته . . .
ثم أضافت إلى ذلك قولها { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } أى : أنا التي طلبت منه ما طلبت { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } في قوله { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } وهكذا يشاء الله - تعالى - أن تثبت براءة يوسف على رءوس الأشهاد ، بتلك الطريقة التي يراها الملك ، وتنطق بها امرأة العزيز ، والنسوة اللائى قطعن أيديهن .
قال صاحب الكشاف : " ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشئ مما قذفته به لأنهن خصومة ، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال " - إذ الفضل ما شهدت به الأعداء - .
وقوله تعالى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } إخبار عن الملك حين جمع النّسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز ، فقال مخاطبا لهن كلهن - وهو يريد امرأة وزيره ، وهو العزيز - : { مَا خَطْبُكُنَّ } أي : شأنكن وخبركن { إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } يعني : يوم الضيافة ؟ { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } أي : قالت النسوة جوابا للملك : حاش لله أن يكون يوسف مُتَّهَمَا ، والله ما علمنا عليه من سوء . فعند ذلك { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : تقول الآن : تبين الحق وظهر وبرز .
{ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي }
المعنى : فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن ، وقال لهن : { ما خطبكن*** } الآية ، أي : أي شيء كانت قصتكن ؟ فهو استدعاء منه أن يعلمنه القصة فجاوب النساء بجواب جيد ، تظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف بعض براءة ، وذلك أن الملك لما قرر لهن أنهن راودنه قلن - جواباً عن ذلك - { حاش لله } وقد يحتمل - على بعد - أن يكون قولهن { حاش لله } في جهة يوسف عليه السلام ، وقولهن : { ما علمنا عليه من سوء } ليس بإبراء تام ، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في إحدى الجهتين ، ولو قلن : ما علمن عليه إلا خيراً لكان أدخل في التبرية . وقد بوب البخاري على هذه الألفاظ على أنها تزكية ، وأدخل قول أسامة بن زيد في حديث الإفك : أهلك ولا نعلم إلا خيراً .
قال القاضي أبو محمد : وأما مالك رحمه الله فلا يقنع بهذا في تزكية الشاهد ، لأنه ليس بإثبات العدالة .
قال بعض المفسرين فلما سمعت زوجة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي حضرتها نية وتحقيق{[6725]} ، فقالت : { الآن حصحص الحق } . و { حصحص } معناه : تبين بعد خفائه ، كذا قال الخليل وغيره{[6726]} وقيل : هو مأخوذ من الحصة ، أي بانت حصته من حصة الباطل . ثم أقرت على نفسها بالمراودة والتزمت الذنب وأبرأت يوسف البراءة التامة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.