{ 52 } { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا }
وهذا شكر من اللّه ، الذي لم يزل شكورًا ، لزوجات رسوله ، رضي اللّه عنهن ، حيث اخترن اللّه ورسوله ، والدار الآخرة ، أن رحمهن ، وقصر رسوله عليهن فقال : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } زوجاتك الموجودات { وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } أي : ولا تطلق بعضهن ، فتأخذ بدلها .
فحصل بهذا ، أمنهن من الضرائر ، ومن الطلاق ، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ، لا يكون بينه وبينهن فرقة .
{ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } أي : حسن غيرهن ، فلا يحللن لك { إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي : السراري ، فذلك جائز لك ، لأن المملوكات ، في كراهة الزوجات ، لسن بمنزلة الزوجات ، في الإضرار للزوجات . { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } أي : مراقبًا للأمور ، وعالمًا بما إليه تؤول ، وقائمًا بتدبيرها على أكمل نظام ، وأحسن إحكام .
ثم كرم - سبحانه - أمهات المؤمنين بعد تكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ . . . } .
أى : لا يحل لك ، - أيها الرسول الكريم - أن تتزوج بنساء أخريات من بعد التسع اللائى فى عصمتك اليوم ، لأنهم قد اخترنك وآثرنك على زينة الحياة الدنيا ، ورضين عن طيب نفس أن يعشن معك وتحت رعايتك ، مهما كان فى حياتك معهن من شظف العيش ، والزهد فى متع الدنيا .
وقوله : { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } معطوف على ما قبله .
أى : لا يحل لك الزواج بعد اليوم بغير من هن فى عصمتك ، كما لا يحل لك - أيضا - أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى سواها ، حتى ولو أعجبك جمال من تريد زواجها من غير نسائك اللائى فى عصمتك عند نزول هذه الآية .
فالآية الكريمة قدا شتملت على حكمين : أحدهما : حرمة الزواج بغير التسع اللائى كن فى عصمته عند نزولهاز والثانى : حرمة تطليق واحدة منهن ، للزواج بأخرى بدلها .
وقوله : { بَعْدُ } ظرف مبنى على الضم لحذف المضاف اليه . أى : من بعد اليوم . و { أَزْوَاجٍ } مفعول به ، و { مِنْ } مزيدة لاستغراق الجنس . اى : ولا أنت بدل بهن أزواجا أخريات مهما كان شأن هؤلاء الأخريات .
وجملة : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } فى موضع الحال من الفاعل وهو الضمير فى { تَبَدَّلَ } . أى : لا يحل لك الزيادة عليهن ، ولا أن تتبدل بهن أزواجا غيرهن فى آية حالة من الأحوال ، حتى ولو فى حال إجابك بغيرهن ويصح أن تكون هذه الجملة شرطية ، وقد حذف جوابها لفهمه من الكلام ، ويكون المعنى : ولو أعجبك حسنهن لا يحل لك نكاحهن .
وقوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } استثناء من هذا الحكم . أى : لا يحل لك الزيادة عليهن ، ولا استبدال غيرهن بهن ، ولكن يحل لك ان تضيف اليهن ما شئت من النساء اللائى تملكهن عن طريق السبى .
وهذا الذى سرنا عليه من أن الآية الكريمة فى شأن أزواجه صلى الله عليه وسلم هو الذى سار عليه جمهور المفسرين .
قال ابن كثير : ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم - أن هذه الآية الكريمة نزلت مجازاة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ورضا الله عنهن على حسبن صنيعين ، فى اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما اخترن رسول الله ، كان جزاؤهن أن قصره عليهن ، وحم عليه أن يتزوج بغيرهن ، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن ، إلا الإِماء والسرائر ، فلا حجر عليه فيهن .
ثم إنه - سبحانه - رفع عنه الحجر فى ذلك ، ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج ، ولكنه لم يقع منه بعد ذلك زواج لغيرهن ، لتكون المنة للرسول صلى الله عليه وسلم عليهن . روى الإِمام أحمد عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء .
ومن العلماء من يرى أن قوله - تعالى - { مِن بَعْدُ } المراد به : من بعد من أحللنا لك الزواج بهن ، وهن الأصناف الأربعة اللائى سبق الحديث عنهن فى قوله - تعالى - : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ . . . } .
وهذا الرأى الثانى وإن كان أشمل من سابقه ، إلا أننا نرجح أن الآية الكريمة مسوقة لتكريم أمهات المؤمنين اللائى اخرنا لله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها .
هذا ، والنساء التسع اللائى حرم الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم الزيادة عليهن ، والاستبدال بهن ، هن : عائشة بنت أبى بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبى أمية ، وصفية بنت حيى بن أخطب ، وميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث .
ثم ختم - سبحانه - الاية الكريمة بقوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } .
أى : وكان الله - تعالى - وما زال ، مطلعا على كل شئ من أحوالكم - أيها الناس - فاحذروا أن تتجاوزا ما حده الله - تعالى - لكم ، لأن هذا التجاوز يؤدى إلى عدم رضا الله - سبحانه - عنكم .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد ذكرت ألوانا متعددة من مظاهر تكريم الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن توسعته عليه فى شأن أواجه ، وفى شأن ما أحله له من عدم التقيد فى القَسْم بينهن ، وفى تقديم أو تأخير من شاء منهن . .
كما أنها قد كرمت أمهات المؤمنين تكريما عظيما . لاختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها .
ذكر غير واحد من العلماء - كابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جرير ، وغيرهم - أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضًا عنهن ، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم في الآية . فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان جزاؤهن أن [ الله ]{[23694]} قَصَره عليهن ، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن ، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه فيهن . ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر{[23695]} في ذلك ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج{[23696]} ، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوّج لتكون المنة للرسول{[23697]} صلى الله عليه وسلم عليهن .
قال{[23698]} الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء{[23699]} .
ورواه أيضا من حديث ابن جُرَيْج ، عن عَطاء ، عن عبيد بن عمير{[23700]} ، عن عائشة . ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما{[23701]} .
وقال{[23702]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ، حدثني عمر بن أبي بكر ، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي{[23703]} ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله{[23704]} ، عن عبد الله بن وهب بن زَمْعَة ، عن أم سلمة أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء ، إلا ذات محرم ، وذلك قول الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } .
فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة ، كآيتي عدة الوفاة في البقرة ، الأولى ناسخة للتي بعدها ، والله{[23705]} أعلم .
وقال آخرون : بل معنى الآية : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } أي : من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، وبنات العم والعمات{[23706]} والخال والخالات{[23707]} والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك . هذا مرويّ عن أبي بن كعب ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والضحاك - في رواية - وأبي رَزِين - في رواية عنه - وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة - في رواية - والسدي ، وغيرهم .
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، حدثني محمد بن أبي موسى ، عن زياد - رجل من الأنصار{[23708]} - قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تُوُفين ، أما كان له أن يتزوج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك ؟ قال : قلت : قوله : { لا يَحِلُّ {[23709]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } . فقال : إنما أحل الله له ضربا من النساء ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } إلى قوله : { إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ثم قيل له : { لا يَحِلُّ{[23710]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } .
ورواه عبد الله بن أحمد من طرق ، عن داود ، به{[23711]} . وروى الترمذي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله : { لا يَحِلُّ {[23712]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام ، ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } و قال { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ }{[23713]} إلى قوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء{[23714]} .
وقال مجاهد : { لا يَحِلُّ {[23715]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } أي : من بعد ما سمى لك ، لا{[23716]} مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة .
وقال أبو صالح : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ }{[23717]} : أمر ألا يتزوج أعرابية ولا غربية{[23718]} ، ويتزوج بعد من نساء تهامة ، وما شاء من بنات العم والعمة ، والخال والخالة ، إن شاء ثلاثمائة .
وقال عكرمة : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ }{[23719]} أي : التي سمى الله .
واختار ابن جرير ، رحمه الله ، أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء ، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعا . وهذا الذي قاله جيد ، ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف ؛ فإن كثيرا منهم روي عنه هذا وهذا ، ولا منافاة ، والله أعلم .
ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ، وعزم على فراق سودة حتى وهبته يومها لعائشة ، ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } ، وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الآية صحيح ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك ؛ فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته ، وأنه لا يستبدل بهن غيرهن ، ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال ، والله أعلم .
فأما قَضية سَوْدَة ففي الصحيح عن عائشة ، رضي الله عنها ، وهي سبب نزول قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ {[23720]} ] } الآية [ النساء : 128 ] {[23721]} .
وأما قضية{[23722]} حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح بن حي{[23723]} عن سلمة أن بن كُهَيْل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها . وهذا إسناد{[23724]} قوي{[23725]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح {[23726]} ، عن ابن عمر قال : دخل عمر على حفصة وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ؟ إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي ؛ والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا . ورجاله على شرط الصحيحين{[23727]} .
وقوله : { وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } ، فنهاه عن الزيادة عليهن ، أو طلاق واحدة منهن واستبدال غيرها بها إلا ما ملكت يمينه{[23728]} .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا مناسبا ذكَرُه هاهنا ، فقال :
حدثنا إبراهيم بن نصر ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله{[23729]} القرَشي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار{[23730]} عن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، قال : كان البَدلُ في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك وأبادلُك بامرأتي : أي : تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي . فأنزل الله : { وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } قال : فدخل عيينة بن حصن{[23731]} على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده عائشة ، فدخل بغير إذن ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين الاستئذان ؟ " فقال يا رسول الله ، ما استأذنت على رجل من مُضَر منذ أدركت . ثم قال : من هذه الحُمَيْراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه عائشة أم المؤمنين " . قال : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق{[23732]} ؟ قال : " يا عيينة إن الله قد حرم ذلك " . فلما أن خرج قالت عائشة : مَنْ هذا ؟ قال : هذا أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه " .
ثم قال البزار إسحاق{[23733]} بن عبد الله : لين الحديث جدا ، وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه ، وبينا العلة فيه{[23734]} .
هذه آية الحجاب ، وفيها أحكام وآداب شرعية ، وهي مما وافق تنزيلها قول{[23735]} عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] . وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [ التحريم : 5 ] ، فنزلت كذلك{[23736]} .
وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر ، وهي قضية رابعة .
وقد قال{[23737]} البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، عن يحيى ، عن حُمَيْد ، أن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب{[23738]} .
وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول قتادة والواقدي وغيرهما .
وزعم أبو عُبَيدة معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط : أن ذلك كان في سنة ثلاث ، فالله أعلم .
{ لا يحل لك النساء } بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي ، وقرأ البصريان بالتاء . { من بعد } من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا ، أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى . { ولا أن تبدل بهن من أزواج } فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى و { من } مزيدة لتأكيد الاستغراق . { ولو أعجبك حسنهن } حسن الأزواج المستبدلة ، وهو حال من فاعل { تبدل } دون مفعوله وهو { من أزواج } لتوغله في التنكير ، وتقديره مفروضا اعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولا . وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجا من أجناس آخر . { إلا ما ملكت يمينك } استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء ، وقيل منقطع . { وكان الله على كل شيء رقيبا } فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم .
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع ، على أن حذف ما أضيفت إليه { بعدُ } ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه ، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو : إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله ، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] الخ . وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان ، أي من بعد هذا الوقت ، والأول الراجح .
و { بعد } يجوز أن يكون بمعنى ( غير ) كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وهو استعمال كثير في اللغة ، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها ، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } أي غيرهن ، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال : « نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات » فقال : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } فأحل الله المملوكات المؤمنات { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } [ الأحزاب : 50 ] . ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك . ويجوز أن يكون { بعدُ } مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق .
وبناء { بعدُ } على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوففٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في « شرحه على قطر الندى » ، فيجوز أن يكون التقدير : من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر : من غير مَن ذكرن ، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن ، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن ( وكن تسعاً ) ، أو مَن اخترتهن .
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً ، أي بعد اليوم أو الساعة ، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : خالصة لك } [ الأحزاب : 50 ] .
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت : « ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء » . وقال حديث حسن . ( وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة ) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها : ما مات ، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة .
و { النساء } إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج ، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة :
حذارا على أن لا تُنال مقادتي *** ولا نِسوتي حتى يَمُتْنَ حرائرا
أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن .
وقوله : { ولا أن تبدل بهن } أصله : تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً ، يقال : بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد ، ومادة البدل تقتضي شيئين : يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر ، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف { مِن } ، وتقدم عند قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } في سورة البقرة ( 108 ) .
والمعنى : أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها ، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى ، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها ، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن ، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين ، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال . فالمعنى : أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة .
والمعنى : ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى .
وضمير { بهن } عائد إلى ما أضيف إليه { بعد } المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة .
والمعنى : ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها .
و { مِن } مزيدة على المفعول الثاني ل { تبدل } لقصد إفادة العموم . والتقدير : ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله : { إلا ما ملكت يمينك } . وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج ، فشملها حكمهن ، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف .
وقرأ الجمهور { لا يحل } بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل . وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم .
وجملة { ولو أعجبك حسنهن } في موضع الحال والواو واوه ، وهي حال من ضمير { تبدل } . و { لو } للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية ، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولو افتدى به } في آل عمران ( 91 ) .
والمعنى : لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك .
وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء .
وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة ، إذ قالت للنبيء : ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك . وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله : { وكان الله على كل شيء رقيباً } أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه ، فهو يجازي على حسب ذلك . وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم .
والاستثناء في قوله : { إلا ما ملكت يمينك } منقطع . والمعنى : لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال . والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ { النساء } في قوله : { لا يحل لك النساء } ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يحل لك النساء من بعد} أزواجك التسع اللاتي عندك لا يحل لك أن تزداد عليهن.
{ولا أن تبدل بهن} يعني نساءه التسع {من أزواج ولو أعجبك حسنهن}..
{إلا ما ملكت يمينك} الولاية...
{وكان الله على كل شيء} من العمل {رقيبا}: حفيظا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:"لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهنّ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة... عن ابن عباس، قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ "إلى "رَقيبا" قال: نُهيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه الأُوَل شيئا...
وقال آخرون: إنما معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء بعد التي أحللنا لك بقولنا "يا أيهَا النبّيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ" إلى قوله "اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ". وكأنّ قائلي هذه المقالة وجهوا الكلام إلى أن معناه: لا يحلّ لك من النساء إلا التي أحللناها لك...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك...
وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي: "إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ" إلى قوله: "وَامْرأةً مُؤْمنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبيّ".
وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ" عَقيب قوله: "إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ" وغير جائز أن يقول: قد أحللت لك هؤلاء، ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الآيتين، فَعَلَ الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك ولا برهان ولا دلالة على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى، ولا تقدّم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة، لم يجز أن يقال: إحداهما ناسخة الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن لقول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ من بعد المسلمات يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، معنى مفهوم، إذ كان قوله "مِنْ بَعْدُ" إنما معناه: من بعد المسميات المتقدم ذكرهنّ في الآية قبل هذه الآية، ولم يكن في الآية المتقدم فيها ذكر المسميات بالتحليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر إباحة المسلمات كلهنّ، بل كان فيها ذكر أزواجه وملك يمينه الذي يفيء الله عليه، وبنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ، فتكون الكوافر مخصوصات بالتحريم، صحّ ما قلنا في ذلك، دون قول من خالف قولنا فيه...
وقوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ"، اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد المسلمات، لا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من الكوافر... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبدّل بأزواجك اللواتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ، بأن تطلقهنّ، وتنكح غيرهنّ...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ولا أن تطلق أزواجك فتستبدل بهنّ غيرهنّ أزواجا.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لما قد بيننا قبل من أن قول الذي قال معنى قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ" لا يحلّ لك اليهودية أو النصرانية والكافرة، قول لا وجه له.
فإذ كان ذلك كذلك فكذلك قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" كافرة لا معنى له، إذ كان من المسلمات من قد حرم عليه بقوله "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ" الذي دللنا عليه قبل...فإن قال قائل: أفلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج امرأة على نسائه اللواتي كنّ عنده، فيكون موجها تأويل قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ" إلى ما تأوّلت، أو قال: وأين ذكر أزواجه اللواتي كنّ عنده في هذا الموضع، فتكون الهاء من قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" من ذكرهن وتوهم أن الهاء في ذلك عائدة على النساء، في قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ"؟ قيل: قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من شاء من النساء اللواتي كان الله أحلهنّ له على نسائه اللاتي كن عنده يوم نزلت هذه الآية، وإنما نُهي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يفارق من كان عنده بطلاق أراد به استبدال غيرها بها، لإعجاب حسن المستبدلة له بها إياه إذ كان الله قد جعلهنّ أمّهات المؤمنين وخيرهن بين الحياة الدنيا والدار الآخرة، والرضا بالله ورسوله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فحرمن على غيره بذلك، ومنع من فراقهنّ بطلاق، فأما نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه، بل أحلّ الله له ذلك على ما بين في كتابه. وقد رُوي عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبض حتى أحلّ الله له نساء أهل الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء تعني أهل الأرض...
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن الله حرّم على نبيه بهذه الآية طلاق نسائه اللواتي خيرهنّ فاخترنه، فما وجه الخبر الذي رُوي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها، وأنه أراد طلاق سودة حتى صالحته على ترك طلاقه إياها، ووهبت يومها لعائشة؟ قيل: كان ذلك قبل نزول هذه الآية.
والدليل على صحة ما قلنا، من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيه طلاقهن، الرواية الواردة أن عمر دخل على حفصة معاقبَها حين اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، كان من قيله لها: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك، فكلمته فراجعك، فوالله لئن طلّقك، أو لو كان طلّقك لا كلّمته فيك، وذلك لا شك قبل نزول آية التخيير، لأن آية التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على اعتزالهنّ.
وأما أمر الدلالة على أن أمر سَوْدة كان قبل نزول هذه الآية، أن الله إنما أمر نبيه بتخيير نسائه بين فراقه والمُقام معه على الرضا بأن لا قَسْم لهن، وأنه يُرْجِي من يشاء منهنّ، ويُؤْوي منهنّ من يشاء، ويُؤْثر من شاء منهنّ على من شاء، ولذلك قال له تعالى ذكره: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ"، ومن المحال أن يكون الصلح بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى على تركها يومها لعائشة في حالِ لا يومَ لها منه.
وغير جائز أن يكون كان ذلك منها إلا في حالِ كان لها منه يومٌ هوَ لها حقّ كان واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداؤه إليها، ولم يكن ذلك لهنّ بعد التخيير لما قد وصفت قبل فيما مضى من كتابنا هذا.
فتأويل الكلام: لا يحلّ لك يا محمد النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك في الآية قبلُ، ولا أن تُطَلق نساءك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الاَخرة، فتبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدّل به منهنّ، إلا ما ملكت يمينك. و"أن" في قوله "أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" رفع، لأن معناها: لا يحلّ لك النساء من بعد، ولا الاستبدال بأزواجك، و"إلا" في قوله: "إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ" استثناء من النساء. ومعنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك، إلا ما ملكت يمينك من الإماء، فإن لك أن تَمْلك من أيّ أجناس الناس شئت من الإماء.
وقوله: "وكان اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ رَقِيبا" يقول: وكان الله على كل شيء ما أحلّ لك، وحرّم عليك، وغير ذلك من الأشياء كلها، حفيظا لا يعزُب عنه علم شيء من ذلك، ولا يؤوده حفظ ذلك كله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا اخْتَرْتَهُنَّ أثبت اللَّهُ لهن حُرْمة، فقال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} فكما اخترْنَكَ فلا تَخْتَرْ عليهن امرأةً أخرى تطييباً لقلوبهن، ونوعاً للمعادلة بينه وبينهن، وهذا يدل على كَرَمِه -والحِفَاظ كَرَمٌ ودَيْن.
{وكان الله على كل شيء رقيبا} أي حافظا عالما بكل شيء قادرا عليه، لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة، ثم بما قد يشق عليه صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه، وختم ذلك بما يسر أزواجه، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال: {لا يحل لك النساء} ولما كان تعالى شديد العناية به صلى الله عليه وسلم لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه، فأثبت الجار فقال: {من بعد} أي من بعد من معك من هؤلاء التسع -كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله، فتكون الآية منسوخة بما تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال من آية {إنا أحللنا لك أزواجك} وفي رواية أخرى عنه من بعد {اللاتي أحللنا لك} بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها.
ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع، لا بقيد المعينات، قال: {ولا أن تبدل بهن} أي هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله: {من} أي شيئاً من {أزواج} أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع، فعلم بهذا أن الممنوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه فهم منها، لا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها.
ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت، أكد المعنى وحققه، وصرح به في قوله حالاً من فاعل "تبدل ": {ولو أعجبك حسنهن} أي النساء المغايرات لمن معك، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله: {إلا ما ملكت يمينك} أي فيحل لك منهن ما شئت، وقد ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام.
ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال: {وكان الله} أي الذي لا شيء أعظم منه، وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى، ولا يكون الرقيب إلا قريباً، ولا أقرب من قرب الحق سبحانه، فلا أرعى من رقبته، وهو من أشد الأسماء وعيداً.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا شكر من اللّه الذي لم يزل شكورًا لزوجات رسوله رضي اللّه عنهن، حيث اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، أن رحمهن وقصر رسوله عليهن فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} زوجاتك الموجودات.
{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا تطلق بعضهن فتأخذ بدلها؛ فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.
{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: السراري فذلك جائز لك؛ لأن المملوكات في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه {بعدُ} ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50] الخ. وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح.
و {بعد} يجوز أن يكون بمعنى (غير) كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} أي غيرهن، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: « نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} فأحل الله المملوكات المؤمنات {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب: 50]. ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون {بعدُ} مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق.
وبناء {بعدُ} على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوفٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في « شرحه على قطر الندى»، فيجوز أن يكون التقدير: من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر: من غير مَن ذكرن، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن (وكن تسعاً)، أو مَن اخترتهن.
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله: خالصة لك} [الأحزاب: 50].
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت: « ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء». وقال حديث حسن. (وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها: ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة.
و {النساء} إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء...
أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن.
وقوله: {ولا أن تبدل بهن} أصله: تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، يقال: بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد، ومادة البدل تقتضي شيئين: يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف {مِن}، وتقدم عند قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} في سورة البقرة (108).
والمعنى: أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال. فالمعنى: أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة.
والمعنى: ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى.
وضمير {بهن} عائد إلى ما أضيف إليه {بعد} المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة.
والمعنى: ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها.
و {مِن} مزيدة على المفعول الثاني ل {تبدل} لقصد إفادة العموم. والتقدير: ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله: {إلا ما ملكت يمينك}. وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف.
وقرأ الجمهور {لا يحل} بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم.
وجملة {ولو أعجبك حسنهن} في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير {تبدل}. و {لو} للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى، وقد تقدم في قوله تعالى: {ولو افتدى به} في آل عمران (91).
والمعنى: لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك.
وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء.
وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة، إذ قالت للنبيء: ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك. وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله: {وكان الله على كل شيء رقيباً} أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم.
والاستثناء في قوله: {إلا ما ملكت يمينك} منقطع. والمعنى: لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ {النساء} في قوله: {لا يحل لك النساء} ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وكان الله على كل شيء رقيبا... شعور أزواج الرسول عليه السلام برقابة الله عليه وعليهن ضمانة إضافية لهناء عيشهن، وإحسان بالغ من الله إليهن.
وقوله تعالى في نفس السياق: {ولو أعجبك حسنهن}، توكيد لوصف (البشرية) الذي لا يعد وصمة وإنما يعد كمالا، في حق (الإنسان الكامل) الذي هو الرسول الأعظم، فقد اصطفاه الله لرسالته واختار أن يكون (بشرا رسولا)، وفيه إشارة إلى أن النظر إلى المخطوبة عند خطبتها جائز، وإلى أن حسن المرأة من جملة الدوافع الطبيعية للزواج بها، وإن اعتبار هذا العنصر لا حرج فيه في نظر الإسلام، لكن يجب أن يكون مدعما بعنصر (التدين) الذي هو صمام الأمان، من تقلبات القلوب وطوارئ الزمان.