{ 41 } { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ، فإنه يخرج من السجن { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } أي : يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا ، وذلك مستلزم لخروجه من السجن ، { وَأَمَّا الْآخَرُ } وهو : الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه .
{ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } فإنه عبر [ عن ] الخبز الذي تأكله الطير ، بلحم رأسه وشحمه ، وما فيه من المخ ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور ، بل يصلب ويجعل في محل ، تتمكن الطيور من أكله ، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما ، أنه لا بد من وقوعه فقال : { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي : تسألان عن تعبيره وتفسيره .
بعد كل ذلك شرع في تفسير رؤياهما ثقة في قوله ، فقال : { ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا } وهو ساقى الملك ، فيخرج من السجن برئيا ويسقى " ربه " أى : سيده الملك " خمرا " .
{ وَأَمَّا الآخر } وهو خباز الملك وصاحب طعامه " فيصلب " أى : فيقتل ثم يصلب { فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ } بعد موته .
ولم يعين يوسف - عليه السلام - من هو الذي سيسقى ربه خمرا ، ومن هو الذي سيصلب ، وإنما اكتفى بقوله " أما أحدكما . . . وأما الآخر " تلطفا معهما ، وتحرجا من مواجهة صاحب المصير السئ بمصيره ، وإن كان في تعبيره ما يشير إلى مصير كل منهما بطريق غير مباشر .
ثم أكد لهما الأمر واثقا من صدق العلم الذي علمه الله إياه ، فقال : { قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } .
والاستفتاء : مصدر استفتى إذا طلب الفتوىو من غيره في أمر خفى عليه فهمه أى : ثم التفسير الصحيح لرؤييكما اللتين سألتمانى عن تأويلهما .
يقول لهما : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ، ولكنه لم يعينِّه لئلا يحزن ذاك ، ولهذا أبهمه في قوله : { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا .
ثم أعلمهما أن هذا قد فُرغ منه ، وهو واقع لا محالة ؛ لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر ، فإذا عُبِّرَت وَقَعت .
وقال الثوري ، عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : لما قالا ما قالا وأخبرهما ، قالا ما رأينا شيئا . فقال : { قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }
ورواه محمد بن فضيل{[15182]} عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود به ، وكذا فسره مجاهد ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . وحاصله أن من تحلَّم بباطل وفَسّره ، فإنه يُلزَم بتأويله ، والله أعلم ، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن معاوية بن حَيْدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر{[15183]} فإذا عُبِّرت وقعت " {[15184]} وفي مسند أبي يَعْلَى ، من طريق يزيد الرَّقاشي ، عن أنس مرفوعا : " الرؤيا لأول عابر " {[15185]}
{ يا صاحبي السجن أما أحدكما } يعني الشرابي . { فيسقي ربه خمرا } كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه . { وأما الآخر } يريد به الخباز . { فيُصلب فتأكل الطير من رأسه } فقالا كذبنا فقال { قُضي الأمر الذي تستفتيان } أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه ، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده ، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما .
ثم نادى { يا صاحبي السجن } ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب ، فروي أنه قال لنبو : أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك ، وقال لمجلث : أما أنت فتصلب ، وذلك كله بعد ثلاث ، فروي أنهما قالا له ما رأينا شيئاً وإنما تحالمنا لنجربك ؛ وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب ؛ وقيل : كانا رأيا ثم أنكرا .
وقرأت فرقة : «يَسقي ربه » من سقى ، وقرأت فرقة من أسقى ، وهما لمعنى واحد{[6688]} لغتان وقرأ عكرمة والجحدري : «فيُسقَى ربه خمراً » بضم الياء وفتح القاف أي ما يرويه{[6689]} .
وأخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله تعالى : إن الأمر قد قضي ووافق القدر .
افتتح خطابهما بالنداء اهتماماً بما يلقيه إليهما من التعبير ، وخاطبهما بوصف { صاحبي السجن } أيضاً .
ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف عليه السّلام في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جَمع التأويلَ في عبارة واحدة مجملة ، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبَها قصداً لتلقيه ما يسوء بعدَ تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام ، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمراً هو رَائي عَصر الخمر ، وأن الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبزٍ على رأسه .
وإذا كان نظم الآية على غير ما صَدر من يوسف عليه السّلام كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السّلام ، وكان كلاماً معيّناً فيه كل من الفتيين بأن قال : أما أنتَ فكيْت وكيْت ، وأما أنت فكَيْت وكيْت ، فحُكي في الآية بالمعنى .
وجملة { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } تحقيق لما دلت عليه الرؤيا ، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما ، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما .
والاستفتاء : مصدر استفتَى إذا طلب الإفتاء . وهو : الإخبار بإزالة مشكل ، أو إرشاد إلى إزالة حيرة . وفعله أفتى مُلازم للهمز ولم يسمع له فعل مُجرد ، فدلا ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنًى ، قالوا : أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب ، فكأنّ الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فَتِيّا أي قوياً . واسم الخبر الصادر من المفتي : فتوى بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصوراً ، وبضم الفاء مع الياء مقصوراً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا}، وهو الساقي، قال له يوسف: تكون في السجن... ثم تخرج فتكون على عملك، فتسقي سيدك خمرا،
{وأما الآخر}، وهو الخباز، {فيصلب فتأكل الطير من رأسه}...
{قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}، رأيتما أو لم تريا، فقد وقع بكما ما عبرت لكما.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه، مخبرا عن قيل يوسف للّذَيْن دخلا معه السجن: {يا صَاحِبَيِ السّجْنِ أمّا أحَدُكمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْرا}، هو الذي رأى أنه يعصر خمرا، {فيسقي ربه}، يعني: سيده، وهو ملكهم، {خمرا}، يقول: يكون صاحب شرابه...
وأما الآخر، وهو الذي رأى أن على رأسه خبزا تأكل الطير منه {فيصلب فتأكل الطير من رأسه}...
{قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ}، يقول: فرغ من الأمر الذي فيه استفتيتما، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية. أقبل على حاجتهما تمكيناً لما ذكره وتأكيداً للذي قرره، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير، فقال: {ياصاحبي السجن} أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة. ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال: {أما أحدكما} وهو الساقي فيخلص ويقرب {فيسقي ربه} أي سيده الذي في خدمته {خمراً} كما كان {وأما الآخر} وهو الخباز. ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك، بنى للمفعول قوله: {فيصلب} ويعطب {فتأكل} أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل {الطير من رأسه} والآية من الاحتباك: ذكر ملزوم السلامة والقرب أولاً دليلاً على العطب ثانياً، وملزوم العطب ثانياً دليلاً على السلامة أولاً... فكأنه قيل: انظر جيداً ما الذي تقول! وروي أنهما قالا: ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب، فقال مشيراً بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه: {قضي الأمر} وبينه بقوله: {الذي فيه} أي لا في غيره {تستفتيان} أي تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما، لم أقله عن جهل ولا غلط. وما أحسن إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر.
والأحد: المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف...
والفتيا: الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته -ذكره الرماني...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يا صاحبي السجن أما أحدكما} وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا {فيسقي ربه خمرا} يعني بربه مالك رقبته وهو الملك لا ربوبية العبودية فملك مصر في عهد يوسف لم يدع الربوبية والألوهية كفرعون موسى وغيره، بل كان من ملوك العرب الرعاة الذين ملكوا البلاد عدة قرون {وأما الآخر} وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه {فيصلب فتأكل الطير من رأسه} أي الطير التي تأكل اللحوم كالحدأة، وهذا التأويل قريب من أصل رؤيا كل منهما وقد يكون من خواطرهما النومية وتأويلهما على كل حال من مكاشفات يوسف ويؤكد قوله. {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} فهذا نبأ زائد على تعبير رؤياهما ورد مورد الجواب عن سؤال كأنه يخطر ببالهما أو أسئلة في صفة ذلك التعبير وهل هو قطعي أم ظني يجوز غيره ومتى يكون؟ فهو يقول لهما: إن الأمر الذي يهلكهما أو يشكل عليكما وتستفتياني فيه قد قضي وبت فيه وانتهى حكمه. والاستفتاء في اللغة السؤال عن المشكل المجهول، والفتوى جوابه سواء أكان نبأ أم حكما، وقد غلب في الاستعمال الشرعي في السؤال عن الأحكام الشرعية، ومن الشواهد على عمومه {أفتوني في رؤياي} [يوسف: 43] وهي مشتقة من الفتوة الدالة على معنى القوة والمضاء والثقة. قلت إن هذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على ما عبر به رؤياهما داخلة في قسم المكاشفة ونبأ الغيب مما علمه الله تعالى وجعله آية له ليثقوا بقوله وهم أولو علم وفن وسحر، ومعناها أنه علم بوحي ربه أن الملك قد حكم في أمرهما بما قاله لا من باب تأويل الرؤيا على تقدير كون ما رأيا من النوع الصادق منها لا من أضغاث الأحلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتح خطابهما بالنداء اهتماماً بما يلقيه إليهما من التعبير، وخاطبهما بوصف {صاحبي السجن} أيضاً.
ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف عليه السّلام في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جَمع التأويلَ في عبارة واحدة مجملة، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبَها قصداً لتلقيه ما يسوء بعدَ تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمراً هو رَائي عَصر الخمر، وأن الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبزٍ على رأسه.
وإذا كان نظم الآية على غير ما صَدر من يوسف عليه السّلام كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السّلام، وكان كلاماً معيّناً فيه كل من الفتيين بأن قال: أما أنتَ فكيْت وكيْت، وأما أنت فكَيْت وكيْت، فحُكي في الآية بالمعنى.
وجملة {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} تحقيق لما دلت عليه الرؤيا، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما.
والاستفتاء: مصدر استفتَى إذا طلب الإفتاء. وهو: الإخبار بإزالة مشكل، أو إرشاد إلى إزالة حيرة. وفعله أفتى مُلازم للهمز ولم يسمع له فعل مُجرد، فدلا ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنًى، قالوا: أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب، فكأنّ الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فَتِيّا أي قوياً...