تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف ، فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم{[67]}  وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه ، فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولكن هذا التقييم{[68]}  على وجه الإنصاف والتنزل معكم ، فهذا آية كبرى ، ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] ، أن كانت وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله . فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله .

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي ، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل ، الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من كل الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام ، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم .

وفي قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال ، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق{[69]}  إن كان صادقا في طلب الحق .

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، لم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه .

وكذلك الشاك غير الصادق{[70]}  في طلب الحق ، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه ، فهذا في الغالب أنه لا يوفق .

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ، قيامه بالعبودية ، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين .

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال ، فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }

وفي قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة ، وفيها أيضا ، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار ، لأنه قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها ، لم تكن معدة للكافرين وحدهم ، خلافا للخوارج والمعتزلة .

وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه ، وهو الكفر ، وأنواع المعاصي على اختلافها .


[67]:- هكذا في أ، وفي ب: شطب قوله (بأفصحكم ولا بأعلمكم) وفي هامش النسخة بخط المؤلف جملة أخرى هي (من جنس آخر) فتكون الجملة هكذا (ليس من جنس آخر).
[68]:- هكذا وردت الكلمة في هامش أ، وهي ليست في ب، ويبدو أن المراد وهذا العرض.
[69]:- في ب: باتباعه.
[70]:- في ب: الذي ليس بصادق.

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

ثم قال - تعالى - : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } . المعنى : فإن لم تفعلوا أي : تعارضوا القرآن ، وتبين لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته ، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة " .

والوقود : ما يلقى في النار لإِضرامها كالحطب ونحوه ، والحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال - تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك ؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لا تكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .

والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به .

وقال : فإن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، لأن قوله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } جار مجرى الكناية التي تعطي اختصاراً ووجازة تغني عن طول المكنى عنه ، ولأن الإِتيان ما هو إلا فعل من الأفعال ، تقول : أتيت فلانا . فيقال لك : نعم ما فعلت .

وجملة { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته . فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال .

قال الإِمام الرازي : ( فإن قيل : فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : { فاتقوا النار } قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإِيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ، لإِنابه اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار ) .

ومعنى { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } هيئت لهم ، لأنهم الذين يخلدون فيها ، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين - أيضاً لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإِخبار بالغيب ، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر . قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة ؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به ، فكان معجزة ) .

وقال بعض العلماء : ( هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدى الكافرين بالتزيل الكريم ) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص :

{ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال في سورة الإِسراء : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }

وقال في سورة يونس : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وكل هذه الآيات مكية . ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } . . إلخ . فعجزوا عن آخرهم ، وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقه وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال . . . ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد ، ولم ينهض - لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإِفراط في المضارة والمضادة . وقد جرد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة أولا ، والسيف آخراً فلم يعارضوا إلا السيف وحده ، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة ، وبذلك يظهر أن في قوله - تعالى - { وَلَن تَفْعَلُواْ } معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا . . .

وحيث عجزت عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . . فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله . . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

" ولن " : لنفي التأبيد{[1371]} أي : ولن تفعلوا ذلك أبدًا . وهذه - أيضًا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا{[1372]} وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ !

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ،

كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته .

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في الترغيب : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ } [ الإسراء : 68 ] ، { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16 ، 17 ] وقال في الزجر : { فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه . ولهذا قال تعالى : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } الآية [ الأعراف : 157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم .

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا{[1373]} يوم القيامة » لفظ{[1374]} مسلم . وقوله : «وإنما كان الذي أوتيته وحيًا » أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز{[1375]} للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ]{[1376]} والله أعلم . وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .

[ وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ] {[1377]} .

وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أما الوَقُود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [ الجن : 15 ] وقال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] .

والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها .

قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد{[1378]} عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين . رواه ابن جرير ، وهذا لفظه . وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين{[1379]} .

وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .

وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقال أبو جعفر محمد بن علي : [ هي ]{[1380]} حجارة من كبريت . وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم .

[ وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية [ الأنبياء : 98 ] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك . وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [ الإسراء : 97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مؤذ في النار " وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف{[1381]} ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما : أن كل من آذى الناس دخل النار{[1382]} ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ]{[1383]} .

وقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أنّ الضمير في { أُعِدَّتْ } عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان .

و{ أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [ محمد ]{[1384]} بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .

وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : { أُعِدَّتْ } أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : " تحاجت الجنة والنار " ومنها : " استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف " ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها » وهو عند مسلم{[1385]} وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .

/خ24


[1371]:في جـ، ب، أ، و: "التأبيد في المستقبل".
[1372]:في جـ، ط، أ: "أبد الآبدين ودهر الداهرين".
[1373]:في جـ: "تبعا".
[1374]:صحيح البخاري برقم (4981)، وصحيح مسلم برقم (152).
[1375]:في ط: "المفهم".
[1376]:زيادة من جـ، ط، ب، أ.
[1377]:زيادة من جـ، ط، ب.
[1378]:في جـ: "الرزاز".
[1379]:تفسير الطبري (1/381) وتفسير ابن أبي حاتم (1/85) والمستدرك (2/61).
[1380]:زيادة من جـ.
[1381]:رواه الخطيب في تاريخ بغداد (11/299) من طريق المفيد عن الأشج، عن علي رضي الله عنه به مرفوعًا.
[1382]:في أ: "عذب في النار".
[1383]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1384]:زيادة من جـ.
[1385]:صحيح مسلم برقم (2844).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة } لما بين لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وميز لهم الحق عن الباطل ، رتب عليه ما هو كالفذلكة له ، وهو أنكم إذا اجتهدتم في معارضته وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساوي أو يدانيه ، ظهر أنه معجز والتصديق به واجب ، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب ، فعبر عن الإتيان المكيف بالفعل الذي يعم الإتيان وغيره إيجازا ، ونزل لازم الجزاء منزلته على سبيل الكناية تقريرا للمكنى عنه ، وتهويلا لشأن العناد ، وتصريحا بالوعيد مع الإيجاز ، وصدر الشرطية بإن التي للشك والحال يقتضي إذا الذي للوجوب ، فإن القائل سبحانه وتعالى لم يكن شاكا في عجزهم ، ولذلك نفى إتيانهم معترضا بين الشرط والجزاء تهكما بهم وخطابا معهم على حسب ظنهم ، فإن العجز قبل التأمل لم يكن محققا عندهم . و{ تفعلوا } جزم ب{ لم } لأنها واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضيا صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع فكأنه قال :

فإن تركتم الفعل ، ولذلك ساغ اجتماعهما . { ولن } كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف مقتضب عند سيبويه والخليل في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أصله لا أن ، وعند الفراء لا فأبدلت ألفها نونا . والوقود بالفتح ما توقد به النار ، وبالضم المصدر وقد جاء المصدر بالفتح قال سيبويه : وسمعنا من يقول وقدت النار وقودا عاليا ، واسم بالضم ولعله مصدر سمي به كما قيل : فلان فخر قومه وزين بلده ، وقد قرئ به والظاهر أن المراد به الاسم ، وإن أريد به المصدر فعلى حذف مضاف أي : وقودها احتراق الناس ، والحجارة : وهي جمع حجر . كجمالة جمع جمل وهو قليل غير منقاس ، والمراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعا في شفاعتها والانتفاع بها واستدفاع المضار لمكانتهم ، ويدل عليه قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } . عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكافرون بما كنزوه . أو بنقيض ما كانوا يتوقعون زيادة في تحسرهم . وقيل : الذهب والفضة التي كانوا يكنزونها ويغترون بها ، وعلى هذا لم يكن لتخصيص إعداد هذا النوع من العذاب بالكفار وجه ، وقيل : حجارة الكبريت وهو تخصيص بغير دليل وإبطال للمقصود ، إذ الغرض تهويل شأنها وتفاقم لهبها بحيث تتقد بما لا يتقد به غيرها ، والكبريت تتقد به كل نار وإن ضعفت ، فإن صح هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلعله عني به أن الأحجار كلها لتلك النار كحجارة الكبريت لسائر النيران . ولما كانت الآية مدنية نزلت بعد ما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم { نارا وقودها الناس والحجارة } . وسمعوه صح تعريف النار . ووقوع الجملة صلة " بإزائها " فإنها يجب أن تكون قصة معلومة .

{ أعدت للكافرين } هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم . وقرئ " أعتدت " من العتاد بمعنى العدة ، والجملة استئناف ، أو حال بإضمار قد من النار لا الضمير الذي في وقودها ، وإن جعلته مصدرا للفصل بينهما بالخبر . وفي الآيتين ما يدل على النبوة من وجوه :

الأول : ما فيهما من التحدي والتحريض على الجد وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد ، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن ، ثم إنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادة لم يتصدوا لمعارضته ، التجأوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج .

الثاني : أنهما يتضمنان الإخبار عن الغيب على ما هو به ، فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر .

الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم لو شك في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة ، مخافة أن يعارض فتدحض حجته وقوله تعالى { أعدت للكافرين } دل على أن النار مخلوقة معدة الآن لهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )

وقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } ، دخلت «إن » على { لم } لأن { لم تفعلوا } معناه تركتم الفعل ، ف «إن » لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال ، و { تفعلوا } جزم ب { لم } ، وجزمت ب { لم } لأنها أشبهت «لا » في التبرية في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل . ( {[342]} )

وقوله : { ولن تفعلوا } نصبت { لن } ، ومن العرب من تجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات : [ البسيط ]

فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد( {[343]} ) . . . وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي : «لن ترعْ »( {[344]} ) هذا على تلك اللغة ، وفي قوله : { لن تفعلوا } إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها .

وقوله تعالى : { فاتقوا النار } ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة . ( {[345]} )

وقرأ الجمهور : «وَقودها » بفتح الواو( {[346]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة : «وقودها » بضم الواو في كل القرآن ، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج ، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر ، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر .

قال ابن جني : «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها ، لأن الوقود بالضم مصدر ، وليس بالناس ، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر ، ومثله ولعت به » لوعاً «بفتح الواو ، وكله شاذ ، والباب هو الضم » .

وقوله : { الناس } عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها .

وروي عن ابن مسعود في { الحجارة } أنها حجارة الكبريت( {[347]} ) وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .

وفي قوله تعالى : { أعدت }( {[348]} ) رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد( {[349]} ) البلوطي الأندلسي ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة . ( {[350]} )

وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد ، إذ فعلهم كفر ، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم ، ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم . ( {[351]} )

وقرأ ابن أبي عبلة : «أَعدَّها الله للكافرين » .


[342]:- أي: والعامل لا يدخل في العامل، ولكن لما كانت (إن) لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال سهل دخولها على (لم)، والمعنى فإن تركتم الفعل إلخ. وقد جاء في (البحر المحيط)(1-160): "وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل (لم) الجزم: قال: وجزمت (لم)..." إلخ كلام ابن عطية هنا.
[343]:- وفي بعض الروايات الأخرى: (فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد) وأول البيت: هذا الثناء فإن تسمع به حسنا و(أبيت اللعن) نوع من التحية- فكأنه قال: أبيت أن تفعل ما تلعن عليه من الأمور، و(الصفد): العطاء. والنابغة هو زياد بن معاوية.
[344]:- أخرجه الإمام البخاري في باب "فضل قيام الليل"- وفي مناقب ابن عمر- وأخرجه الإمام مسلم كذلك في فضائل ابن عمر، وروي الحديث بلم وبلن مجزوما على لغة قليلة حكاها الكسائي.
[345]:- اتقاء النار: كناية عن ترك العناد، وترك العناد قد يؤدي إلى الإيمان بالله والرسول، والطاعة لله والرسول، أي إذا استبنتم العجز فآمنوا وأطيعوا اتقاء للنار التي وقودها الناس والحجارة، والكناية باب من أبواب البلاغة، وفائدتها الإيجاز الذي هو حلية القرآن.
[346]:- أي: (الواو) الأولى في (وقود).
[347]:- أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله [وقودها الناس والحجارة] حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله. وأخرج ابن جرير أيضا عن عمرو ابن ميمون مثله. وأخرج الإمام أحمد والإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم). قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: (فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)، انتهى.
[348]:- أي هُيِّئت، فهي مخلوقة من الآن، وكذلك الجنة، وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة، لأن الإعداد لا يكون إلا للموجود.
[349]:- هو منذر بن سعيد القاضي الأندلسي المعروف بالبلوطي من موضع يعرف بفحص البلوط من نواحي قرطبة، يكنى أبا الحكم. كان عالما بالقرآن، وحافظا لما قالت العلماء في تفسيره، وأحكامه، ووجوه حلاله وحرامه، كثير التلاوة له، حاضر الشاهد لآياته، وله فيه كتب منها كتاب "الأحكام"، وكتاب "الناسخ والمنسوخ" قال عنه أبو حيان التوحيدي في تفسيره: "البحر المحيط"1/108-109-: "وكان معتزليا في أكثر الأصول، ظاهرا في الفروع، وسرى إليه ذلك من قول كثير من المعتزلة-، ولي قضاء الجماعة بقرطبة سنة 338هـ وتوفي سنة 355هـ. وكان خطيبا بليغا، وشاعرا محسنا. انظر ترجمته في "نفح الطيب".
[350]:- قال جار الله الزمخشري: فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى، منها نار بهذه الصفات؟ قلت: بل هي نيران شتى منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: [قوا أنفسكم وأهليكم نارا]، [فأنذرتكم نارا تلظى]، ولعل لكفار الجن وشياطينهم نار وقودها الشياطين، كما أن لكفرة الإنس نار وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب.
[351]:- من ذلك قوله تعالى: [وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا].