تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

{ 43 - 44 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ *يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }

أي : ألم تشاهد ببصرك ، عظيم قدرة الله ، وكيف { يُزْجِي } أي : يسوق { سَحَابًا } قطعا متفرقة { ثُمَّ يُؤَلِّفُ } بين تلك القطع ، فيجعله سحابا متراكما ، مثل الجبال .

{ فَتَرَى الْوَدْقَ } أي : الوابل والمطر ، يخرج من خلال السحاب ، نقطا متفرقة ، ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر ، فتمتلئ بذلك الغدران ، وتتدفق الخلجان ، وتسيل الأودية ، وتنبت الأرض من كل زوج كريم ، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه .

{ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه حكمه القدري ، وحكمته التي يحمد عليها ، { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } أي : يكاد ضوء برق ذلك السحاب ، من شدته { يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين ، وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر ، كامل القدرة ، نافذ المشيئة ، واسع الرحمة ؟ .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

ثم لفت - سبحانه - بعد ذلك أنظار عباده إلى مظاهر قدرته فى هذا الكون ، حيث يزجى السحاب ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله ركاما . . . وحيث نوع مخلوقاته مع أنها جميعا من أصل واحد فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ . . . . } .

قوله - تعالى - { يُزْجِي } من الإزجاء بمعنى الدفع بأناة ورفق . يقال : زجى الراعى إبله تزجية ، إذا ساقها برفق . وأزجت الريح السحاب ، أى : دفعته .

والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - ورأيت بعينيك ، أن الله - تعالى - يسوق بقدرته السحاب الذى فى الجو ، سوقا رفيقا إلى حيث يريد .

{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أى : يسوق - سبحانه - السحاب سوقا هادئا سهلا . ثم بعد ذلك يصل بعضه ببعض ، ويجمع بعضه مع بعض ، ثم بعد ذلك { يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أى : متراكما بعضه فوق بعض . يقال ركم فلان الشىء يركمه ركما ، إذا جمعه ، وألقى بعضه على بعض ، ومنه : الرمل المتراكم ، أى : المجتمع .

وهذا الذى حكاه القرآن من سوق الله - تعالى - للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله - تعالى - ، الذى أحسن كل شىء خلقه .

وقوله - سبحانه - : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } بيان لما يترتب على هذا السوق الرفيق ، والتجمع الدقيق من آثار .

والودق : المطر . وهو فى الأصل مصدر ودَق السحاب يدِق وَدْقاً ، إذا نزل منه المطر . والخلال : جمع خلل - كجبال وجبل - والمارد بها التفوق والشقوق .

قال القرطبى : فى " الودق " قولان : أحدهما : أنه البرق . . . والثانى : أنه المطر . وهو قول الجمهور يقال : ودقت السحابة فهى وادقة . وودق المطر يدق ودقا . أى : قطر .

أى : يسوق الله - تعالى - السحاب إلى حيث يشاء بقدرته ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض ، فترى - أيها العاقل - المطر يخرج من فتوق هذا السحاب المتراكم ومن فروجه ، تارة بشدة وعنف ، وتارة بهدوء ورفق .

وقوله - تعالى - : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ . . . } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - .

أى : وينزل - سبحانه - من جهة السماء قطعا من السحاب الكثير من البرد ، وهو شىء ينزل من السحاب يشبه الحصى ، ويسمى حب الغمام : وحب المزن

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين " من " الأولى ، والثانية ، والثالثة فى قوله { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } ؟

قلت الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان ، أو الأوليان للابتداء ، والآخرة للتبعيض .

فإن قلت : ما معنى " من جبال فيها من برد " ؟ قلت : فيه معنيان : أحدهما : أن يخلق الله فى السماء جبال برد . كما فى الأرض جبال حجر ، والثانى : أن يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من ذهب .

وقوله - تعالى - : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أى : فيصيب بالذى ينزله من هذا البرد من يشاء إصابته من عباده ، ويصرفه عمن يشاء صرفه عنهم ، إذ الإصابة والصرف بمقتضى حكمته وإرادته .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } . والسنا : شدة الضوء . يقال : سنا الشىء يسنو سنا ، إذا أضاء .

أى : يكاد ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف والتراكم . . . يخطف الأبصار من شدة إضاءته ، وزيادة لمعانه وسرعة توهجه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة ، وهو الإزجاء { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي : يجمعه بعد تفرقه ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } أي : متراكمًا ، أي : يركب بعضه بعضًا ، { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } أي : من خَلَله . وكذا{[21286]} قرأها ابن عباس والضحاك .

قال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًّا ، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث [ الله ]{[21287]} اللواقح فتلقح السحاب . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله .

وقوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } : قال بعض النحاة : " من " الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة : لبيان الجنس . وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله : { مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } ومعناه : أن في السماء جبالَ بَرَد ينزل الله منها البرد . وأما من جعل الجبال ههنا عبارة{[21288]} عن السحاب ، فإن " من " الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا ، لكنها بَدَل من الأولى ، والله أعلم .

وقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } يحتمل أن يكون المراد بقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ } أي : بما ينزل من السماء من نوعي البرد والمطر{[21289]} فيكون قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ } رحمة لهم ، { وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } أي : يؤخر عنهم الغيث .

ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ } أي : بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم . ويصرفه عمن يشاء [ أي : ]{[21290]} رحمة بهم .

وقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ } أي : يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته .


[21287]:- زيادة من ف.
[21288]:- في ف ، أ : "كناية".
[21289]:- في ف : "المطر والبرد".
[21290]:- زيادة من ف ، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

{ ألم تر أن الله يزجي سحابا } يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد . { ثم يؤلف بينه } بأن يكون قزعا فيضم بعضه إلى بعض ، وبهذا الإعتبار صح بينه إذ المعنى بي أجزائه ، وقرأ نافع برواية ورش " يولف " غير مهموز . { ثم يجعله ركاما } متراكما بعضه فوق بعض . { فترى الودق } المطر . { يخرج من خلاله } من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل ، وقرىء من " خلله " . { وينزل من السماء } من الغمام وكل ما علاك فهو سماء . { من جبال فيها } من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها . { من برد } بيان للجبال والمفعول محذوف أي { ينزل } مبتدأ { من السماء من جبال فيها من برد } بردا ، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبغيض واقعة موقع المفعول ، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحابا ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا ، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا والإنزال بردا ، ووقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا . وينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله :

{ فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء } والضمير لل{ برد } . { يكاد سنا برقه } ضوء برقه ، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و{ برقه } بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع . { يذهب بالأبصار } بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد ، وقرئ { يذهب } على زيادة الباء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزۡجِي سَحَابٗا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيۡنَهُۥ ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ رُكَامٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٖ فِيهَا مِنۢ بَرَدٖ فَيُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ وَيَصۡرِفُهُۥ عَن مَّن يَشَآءُۖ يَكَادُ سَنَا بَرۡقِهِۦ يَذۡهَبُ بِٱلۡأَبۡصَٰرِ} (43)

«الرؤية في هذه الآية رؤية عين والتقدير أن أمر الله وقدرته ، و { يزجي } معناه يسوق ، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف كما قال الفرزدق » على مزاحيف تزجيها مخارير{[8738]} « ، والبضاعة المزجاة التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل ، ومنه قول حبيب في الشيب ، » ونحن نزجيه « ، وسيبويه أبداً يقول في كلامه فأنت تزجيه إلى كذا أي تسوقه ثقيلاً متباطئاً ، وقوله { يؤلف بينه } أي بين مفترق السحاب نفسه لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً ، وهذا كما تقول جلست بين الدور ولو أضيفت » بين «إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر ، لا تقول جلست بين الدار إلا أن تريد وبين كذا{[8739]} ، وورش عن نافع لا يهمز » يولف «وقالون عن نافع والباقون يهمزون » يؤلف «وهو الأصل ، و » الركام «الذي يركب بعضه بعضاً ويتكاثف ، والعرب تقول إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج { الودق } منه ومن ذلك قوله تعالى : { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً }{[8740]} [ النبأ : 14 ] ومن ذلك قول حسان بن ثابت : [ الكامل ]

كلتاهما حلب العصير . . . فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل{[8741]}

ويروى للمِفصل بكسر الميم وبفتح الصاد ، فالمِفصل واحد المفاصيل والمفصل اللسان{[8742]} ويروى بالقاف ، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به أي هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب ، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن العنبري للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ، و { الودق } المطر ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]

فلا مزنة ودقت ودقها . . . ولا أرض أبقل إبقالها{[8743]}

وقرأ جمهور الناس » من خلاله «وهو جمع خلل كجبل وجبال ، وقرأ ابن عباس والضحاك » من خلله « ، وقرأ عاصم والأعرج » وينزّل «على المبالغة والجمهور على التخفيف ، وقوله { من جبال فيها من برد } قيل تلك حقيقة وقد جعل الله تعالى في السماء جبالاً { من برد } وقالت فرقة ذلك مجاز وإنما أراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من المال وجبال من العلم أي في الكثرة مثل الجبال ، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة { من } في قوله : { من برد } وهو قول ضعيف ، و { من } في قوله { من السماء } في لابتداء الغاية ، وفي قوله { من الجبال } هي للتبعيض ، وفي قوله { من برد } هي لبيان الجنس ، و » السنا «مقصور ، الضوء والسناء ، ممدود ، المجد والارتفاع في المنزلة ، وقرأ الجمهور » سنا «بالقصر ، وقرأ طلحة بن مصرف » سناء «بالمد والهمز .

وقرأ طلحة أيضاً «بُرَقةَ » بضم الباء وفتح الراء وهي جمع «بُرْقة » بضم الباء وسكون الراء فعلة وهي القدر من البرق كلقمة ولقم وغرفة وغرف ، وقرأ الجمهور «يَذهب » بفتح الياء ، وقرأ أبو جعفر «يُذهب » بضمها من أذهب كأن التقدير يذهب النفوس بالأبصار نحو قوله { ينبت بالدهن }{[8744]} [ المؤمنون : 20 ] ويحتمل أن يكون مثل قوله { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }{[8745]} [ الحج : 25 ] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها ثم اقتضت لفظ الآية الإخبار عن تقبله الليل والنهار والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام وباقي الآية بين .


[8738]:هذا عجز بيت قاله الفرزدق من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن عبد الملك، ويهجو يزيد بن المهلب، والبيت بتمامه مع بيت قبله: مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور على عمائمنا يلقى وأرحلنا على مزاحف نزجيها محاسير والبيتان في اللسان، والرواية فيه وفي الديوان: "على زواحف"، والحاصب: الريح الشديدة تحمل الحصباء، والزواحف: النيقان التي أصابها التعب والإعياء، يقال: ناقة زحوف من إبل زحف، وناقة مزحاف من إبل مزاحيف ومزاحف، وتزجي: تسوق وتدفع دفعا رفيقا، وهو موضع الشاهد هنا، وفي الحديث الشريف (كان يتخلف في السير فيزجي الضعيف)، أي يسوقه ليلحق بالرفاق، والفرزدق يصور هنا رحيله مع صحبه إلى يزيد بن عبد الملك في شمال الشام، والريح ترميمهم بالثلج المتساقط كأنه نديف القطن، وهو يتناثر على عمائمهم وأرحلهم، وهم يقومون بهذه الرحلة على إبل تزحف من شدة الإعياء والتعب فيسوقونها سوقا رفيقا رحمة بها.
[8739]:وقيل: إن [بينه] في الآية لجماعة السحاب، كما تقول: هذا الشجر قد جلست بينه؛ لأنه جمع، وتذكير الكناية يأتي تبعا للفظ، قال الفراء في (معاني القرآن): هو واحد في اللفظ ومعناه جمع؛ ألا ترى قوله {ينشئ السحاب الثقال}؟ ألا ترى أن واحدته سحابة، فإذا ألقيت الهاء كان بمنزلة نخلة ونخل وشجرة وشجر، وأنت قائل: فلان بين الشجر وبين النخل".
[8740]:الآية (14) من سورة (النبأ).
[8741]:هذا البيت من قصيدة حسان التي تقول في مطلعها: "أسألت رسم الدار أم لم تسأل"، وقبل هذا البيت يقول في وصف الخمر: إن التي ناولتني فرددتها قتلت، قتلت، فهاتها لم تقتل وقد ورد بيت الشاهد هنا في لسان العرب بروايتين، إحداهما كما هنا، والثانية تقول: (كلتاهما عرق الزجاجة فاسقني)، والضمير في (كلتاهما) راجع إلى النوعين اللذين ذكرهما في البيت السابق، التي قتلت ـ أي مزجت بالماء فخفت حدتها ـ والتي لم تقتل، والعصير: ما تعصر من الشيء أو تحلب منه عند عصره. والحلب: المحلوب، وحلب العصير: الخمر، يطلب منه أن يقدم له خمرا خالصة غير ممزوجة لأنها هي التي تؤثر فيه.
[8742]:ذكر ذلك صاحب اللسان واستشهد عليه ببيت حسان هذا، ثم ذكر أن في الصحاح: المفصل ـ بكسر الميم ـ هو اللسان، وأنشد ابن بري هذا البيت شاهدا على ذلك، ومعنى هذا أنه ضبطه بالكسر للميم.
[8743]:هذا البيت لعامر بن جوين الطائي، وهو في اللسان (ودق)، وقد استشهد به على أن الودق: المطر كله شديده وهينه، وأنه يقال: ودق يدق ودقا، والمزن: السحاب عامة، وقيل: السحابة البيضاء، وقيل: السحاب الممطر، وأبقل إبقالها: أنبتت البقل، ولم يقل أبقلت لأن تأنيث الأرض ليس بتأنيث حقيقي، وقيل: إن هذا إذا أسند الفعل للظاهر نحو طلعت الشمس وطلع الشمس، أما إذا أسند للضمير فيستوي فيه الحقيقي والمجازي ويتعين التأنيث نحو: الشمس طلعت، ولا يجوز: الشمس طلع، وهذا البيت شاذ أو مؤول، نص على ذلك النحويون.
[8744]:من الآية (20) من سورة (المؤمنون)، وقد قيل فيها إن الباء زائدة على قراءة [تنبت] بضم الباء، فيكون التقدير: تنبت الدهن، وقيل: إن التقدير: تنبت جناها ومعه الدهن، فالمفعول محذوف، راجع تفسير هذه الآية في هذا الجزء صفحة (343).
[8745]:من الآية (25) من سورة (الحج).