تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

{ 53 - 54 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

يأمر تعالى عباده المؤمنين ، بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في دخول بيوته فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ } أي : لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها ، لأجل الطعام . وأيضًا لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي : منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه ، أو سعة صدر بعد الفراغ منه . والمعنى : أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين :

الإذن لكم بالدخول ، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : قبل الطعام وبعده .

ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال : { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي : انتظاركم الزائد على الحاجة ، { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي : يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته ، واشتغاله فيه { فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } أن يقول لكم : { اخرجوا } كما هو جاري العادة ، أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم ، { و } لكن { اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }

فالأمر الشرعي ، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء ، فإن الحزم كل الحزم ، اتباع الأمر الشرعي ، وأن يجزم أن ما خالفه ، ليس من الأدب في شيء . واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم ، بما فيه الخير لكم ، والرفق لرسوله كائنًا ما كان .

فهذا أدبهم في الدخول في بيوته ، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته ، فإنه ، إما أن يحتاج إلى ذلك ، أو لا يحتاج إليه ، فإن لم يحتج إليه ، فلا حاجة إليه ، والأدب تركه ، وإن احتيج إليه ، كأن يسألن متاعًا ، أو غيره من أواني البيت أو نحوها ، فإنهن يسألن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } أي : يكون بينكم وبينهن ستر ، يستر عن النظر ، لعدم الحاجة إليه .

فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال ، وكلامهن فيه التفصيل ، الذي ذكره اللّه ، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } لأنه أبعد عن الريبة ، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر ، فإنه أسلم له ، وأطهر لقلبه .

فلهذا ، من الأمور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها ، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته ، ممنوعة ، وأنه مشروع ، البعد عنها ، بكل طريق .

ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة : { وَمَا كَانَ لَكُمْ } يا معشر المؤمنين ، أي : غير لائق ولا مستحسن منكم ، بل هو أقبح شيء { أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } أي : أذية قولية أو فعلية ، بجميع ما يتعلق به ، { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } هذا من جملة ما يؤذيه ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم ، له مقام التعظيم ، والرفعة والإكرام ، وتزوج زوجاته [ بعده ]{[719]}  مخل بهذا المقام .

وأيضا ، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ، والزوجية باقية بعد موته ، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده ، لأحد من أمته . { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } وقد امتثلت هذه الأمة ، هذا الأمر ، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه ، وللّه الحمد والشكر .


[719]:- زيادة من: ب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

ثم ساقت السورة الكريمة بعد لك ألوانا من التشريعات الحكيمة ، والأداب القويمة ، التى تتعلق بدخول بيوت النبى صلى الله عليه وسلم ، وبحقوق أزواجه صلى الله عليه وسلم فى حياته وبعد مماته ، وبوجوب احترامه وتوقيره صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي . . . } روايات متعددة منها ، ما ثبت فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال : وافقت ربى فى ثلاث . فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله - تعالى - : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ، فأنزل الله آية الحجاب . وقلت لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ما تمالأن عليه فى الغيرة { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } فنزل كذلك .

وروى البخارى عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا . فلما رأى ذلك قام ، فلما قام صلى الله عليه وسلم قام معه من قام ، وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبى صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فانطلقت فجئت فأخبرت النبى صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بينى وبينه ، فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي . . . } الآية .

قال ابن كثير : وكان وقت نزولها فى صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش : التى تولى الله - تعالى - تزويجها بنفسه ، وكان ذلك فى ذى القعدة من السنة الخامسة ، فى قول قتادة والواقدى وغيرهما .

والمراد ببيوت النبى : المساكن التى اعدها صلى الله عليه وسلم لسكنى أزواجه .

والاستثناء فى قوله - تعالى - : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } استثناء مفرغ من أعم الأحوال .

وقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ } حال من ضمير { تَدْخُلُواْ } و { إِنَاهُ } أى : نضجه وبلوغه الحد الذى يؤكل معه . يقال : أنَى الطعام يأنَى أنْياً وإِنى - كقلى يقلى - إذا نضج وكان معدا للأكل .

والمعنى : يامن آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان ، لا تدخلوا بيوت النبى صلى الله عليه وسلم فى حال من الأحوال ، إلا فى حال الإِذن لكم بدخولها من أجل حضور طعام تدعون إلى تناوله ، وليكن حضوركم فى الوقت المناسب لتناوله ، لا قبل ذلك بأن تدخلوا البيوت بدون استئذان ، فإذا وجدوا طعاما يعد ، انتظروا حتى ينضج ليأكلوا منه .

فالنهى فى الآية الكريمة مخصوص بمن دخل من غير دعوة ، وبمن دخل بدعوة ولكنه مكث منتظرا للطعام حتى ينضج ، دون أن تكون هناك حاجة لهذا الانتظار . أما إذا كان الدخول بدعوة أو لحضور طعام بدون انتظار مقصود لوقت نضجه ، فلا يتناوله النهى .

قال الآلوسى : والآية على ما ذهب إليه جمع من المفسرين ، خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبى صلى الله عليه وسلم فيدخلون وقعدون منتظرين لإِدراكه ، فهى مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم فى المستقبل . فالنهى مخصوص بمن دخل بغير دعوة ، وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فى تفيد النهى عن الدخول بإذن لغير طعام ، ولا من الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر .

وقوله - سبحانه - { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } استدراك على ما فهم من النهى عن الدخول بغير إذن ، وفيه إشعار بأن الإِذن متضمن معنى الدعوة .

أى : لا تدخلوا بدون إذن ، فإذا أذن لكم ودعيتم إلى الطعام فادخلوا لتناوله وقوله - تعالى - { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } بيان للون آخر من ألوان الآداب الحكيمة التى شرعها الإِسلام فى تناول الطعام عند الغير .

أى : إذا دعيتم لحضور طعام فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم فادخلوا ، فإذا ما انتهيتم من طعامكم عنده ، فتفرقوا ولا تمكثوا فى البيت مستأنسين لحديث بعضكم مع بعض ، أو لحديثكم مع أهل البيت .

فقوله { مُسْتَأْنِسِينَ } مأخوذ من الأنس بمعنى السرور والارتياح للشئ . تقول : أنست لحديث فلان ، فإذا سررت له ، وفرحت به .

وأطلق - سبحانه - نفى الاستئناس للحديث ، من غير بيان صاحب الحديث ، للإِشعار بأن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإِطلاق ، ما دام ليس هناك من حاجة إلى هذا المكث . وهذا أدب عام لجميع المسلمين .

واسم الإِشارة فى قوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } يعود إلى الانتظار والاستئناس للحديث ، والدخول بغير إذن . والجملة بمثابة التعليل لما قبلها .

أى : إن ذلكم المذكور كان يؤذى النبى صلى الله عليه وسلم كان يستحيى أن يصرح لكم بذلك ، لسمو خلقه ، وكما أدبه ، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يستحيى أن يقول لكم كلاما تدركون منه أنه يريد انصرافكم .

وقوله - تعالى - : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } أى : والله - تعالى - لا يستحيى من إظهار الحق ومن بيانه ، بل من شأنه - سبحانه - أن يقول الحق ، ولا يسكت عن ذلك .

وإذا كان الرسول صلى الله عليه سولم قد منعه حياؤه من أن يقول قولا تفهمون منه ضجره من بقائكم فى بيته بعد تناول طعامكم عنده . . . فإن الله - تعالى - وهو خالقكم لا يمتنع عن بيان الحق فى هذه الأمور وفى غيرها ، حتى تتأدبوا بأدب القويم . ثم ذكر - سبحانه - بعض الآداب التى يجب عليهم أن يلتزموها مع نساء نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ . . } .

أى : وإذا طلبتم - أيها المؤمنون - من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم شيئا يتمتع به سواء أكان هذا الشئ حسيا كالطعام أم معنويا كمعرفة بعض الأحكام الشرعية .

. إذا سألتموهن شيئا من ذلك فليكن سؤالكم لهن من وراء حجاب ساتر بينكم وبينهن . .

لأن سؤالكم إياهن بهذه الطريقة ، أظهر لقلوبكم وقلوبهن ، وأبعد عن الوقوع فى الهواجس الشيطانية التى قد تتولد عن مشاهدتكم لهن ، ومشاهدتهن لكم . .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } .

أى : وما صح وما استقام لكم - أيها المؤمنون - أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأى لون من ألوان الأذى ، سواء أكان بدخول بيوته بغير إذنه ، أم بحضوركم إليها انتظارا لنضج الطعام بجلوسكم بعد الأكل بدون مقتض لذلك ، أم بغير ذلك مما يتأذى به صلى الله عليه وسلم .

كما أنه لا يصح لكم بحال من الأحوال أن تنكحوا أزواجه من بعده ، أى : من بعد وفاته .

{ إِنَّ ذلكم } أى : إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده { كَانَ عِندَ الله } - تعالى - ذنبا { عَظِيماً } وإثما جسيما ، لا يقادر قدره .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

قال{[23739]} البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله الرَّقاشي ، حدثنا مُعْتَمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلَز ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فَطَعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو [ كأنه ]{[23740]} يتهيأ{[23741]} للقيام فلم يقوموا . فلما رأى ذلك قام ، فلما قام [ قام ]{[23742]} مَنْ قام ، وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت ، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقي [ الحجاب ]{[23743]} بيني وبينه ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية .

وقد رواه أيضا في موضع آخر ، ومسلم والنسائي ، من طرق ، عن معتمر بن سليمان ، به{[23744]} . ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، [ بنحوه {[23745]} . ثم قال {[23746]} : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ] {[23747]} قال : بُني [ على ] {[23748]} النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلْتُ على الطعام داعيا ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوتُ حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقلت : يا نبي الله ، ما أجد أحدا أدعوه . قال : " ارفعوا طعامكم " ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة ، فقال : " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " . قالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ، بارك الله لك ؟ فَتَقَرّى حجر نسائه كُلّهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع رسول الله{[23749]} صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة [ في البيت ]{[23750]} يتحدثون . وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فخرج منطلقا نحو حُجْرة عائشة ، فما أدري أخبرتُه أم أخبر أن القوم خَرَجُوا ؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسْكُفة الباب داخله ، وأخرى خارجة ، أرْخَى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب .

انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب [ الستة ]{[23751]} ، سوى النسائي في اليوم والليلة ، من حديث عبد الوارث{[23752]} .

ثم رواه عن إسحاق - هو ابن منصور - عن عبد الله بن بكر{[23753]} السهمي ، عن حُمَيد ، عن أنس ، بنحو ذلك{[23754]} ، وقال : " رجلان " انفرد به من هذا الوجه . وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس .

وقال ابن أبي حاتم{[23755]} : حدثنا أبي ، حدثنا أبو المظفر ، حدثنا جعفر بن سليمان ، عن الجعد - أبي عثمان اليَشْكُرِي - عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه ، فصنعت أم سليم حيسا ثم وضعته{[23756]} في تَوْر ، فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرئه مني السلام ، وأخبره أن هذا منا له قليل - قال أنس : والناس يومئذ في جَهد - فجئت به فقلت : يا رسول الله ، بعثت بهذا أم سُلَيم إليك ، وهي تقرئك السلام ، وتقول : أخبره أن هذا منا له قليل ، فنظر إليه ثم قال : " ضعه " فوَضَعته في ناحية البيت ، ثم قال : " اذهب فادع لي فلانا وفلانا " . وسمى رجالا كثيرا ، وقال : " ومَنْ لقيتَ من [ المسلمين " . فدعوتُ مَنْ قال لي ، ومَنْ لقيت من ]{[23757]} المسلمين ، فجئت والبيت والصُّفَّة والحجرة مَلأى من الناس - فقلت : يا أبا عثمان ، كم كانوا ؟ فقال : كانوا زهاء ثلاثمائة - قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جِئْ به " . فجئتُ به إليه ، فوضع يده عليه ، ودعا وقال : " ما شاء الله " . ثم قال : " ليتَحَلَّق عَشَرة عَشَرة ، وليسموا{[23758]} ، وليأكل كل إنسان مما يليه " . فجعلوا يسمون ويأكلون ، حتى أكلوا كلهم . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارفعه " . قال : فجئتُ فأخذت التَّورَ فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ، وزَوجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مُولّية وجهها إلى الحائط ، فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس حياء - ولو أعلموا{[23759]} كان ذلك عليهم عزيزًا - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على حُجَره وعلى نسائه ، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثَقَّلوا عليه ، ابتدروا الباب فخرجوا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ، ودخل البيت وأنا في الحجرة ، فمكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا ، وأنزل الله عليه القرآن ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } إلى قوله : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } . قال أنس : فقرأهن عَليّ قبل الناس ، فأنا أحْدثُ الناس بهن عهدا .

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن جعفر بن سليمان ، به{[23760]} . وقال الترمذي : حسن صحيح وعَلَّقه البخاري في كتاب النكاح فقال :

وقال إبراهيم بن طَهْمَان ، عن الجَعْد أبي عثمان ، عن أنس ، فذكر نحوه{[23761]} .

ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الجعد ، به{[23762]} . وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك ، عن شَرِيك ، عن بيان بن بشر ، عن أنس ، بنحوه .

وروى{[23763]} البخاري والترمذي ، من طريقين آخرين ، عن بَيَان بن بشر الأحَمَسِي الكوفي ، عن أنس ، بنحوه{[23764]} .

ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، من حديث أبي نَضْرَة العبدي ، عن أنس بن مالك ، بنحوه{[23765]} ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ، ومن حديث الزهري ، عن أنس ، بنحو ذلك{[23766]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليزيد " اذهب فاذكرها علي " . قال : فانطلق زيد حتى أتاها ، قال : وهي تُخَمِّر عجينها ، فلما رأيتُها عَظُمت في صدري . . . وذكر تمام الحديث ، كما قدمناه عند قوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا } ، وزاد في آخره بعد قوله : وَوَعَظ القوم بما وعظوا به . قال هاشم في حديثه : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } .

وقد أخرجه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة{[23767]} ، به{[23768]} .

وقال{[23769]} ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثني عمي عبد الله بن وهب ، حدثني يونس عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كُنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح - وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك . فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة . حرْصًا أن{[23770]} ينزل الحجاب ، قالت{[23771]} : فأنزل الله الحجاب{[23772]} .

هكذا وقع في هذه الرواية . والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم ، من حديث هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جَسيمَةً لا تخفَى على مَنْ يعرفها ، فرآها عمر بن الخطاب فقال : يا سودة ، أما والله ما تَخْفَين علينا ، فانظري كيف تخرجين ؟ قالت : فانكفأت راجعة ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عَرْق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ، إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا . قالت : فأوحى الله إليه ، ثم رُفعَ عنه وإن العَرْق في يده ، ما وضعه . فقال : " إنه قد أذنَ لكن أن تخرجن لحاجتكن " . لفظ البخاري{[23773]} .

فقوله : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } : حَظَر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام ، حتى غار الله لهذه الأمة ، فأمرهم بذلك ، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والدخول على النساء " {[23774]} .

ثم استثنى من ذلك فقال : { إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } .

قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير متحينين نضجه واستواءه ، أي : لا ترقبوا الطعام حتى{[23775]} إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ، فإن هذا يكرهه الله ويذمه . وهذا دليل على تحريم التطفيل ، وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا في ذم الطفيليين . وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها .

ثم قال تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا أحدكم أخاه فَلْيجب ، عُرسًا كان أو غيره " {[23776]} . وأصله في الصحيحين وفي الصحيح أيضا ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دُعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إليَّ كُرَاع لقبلت ، فإذا فَرَغتم من الذي دُعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل ، وانتشروا في الأرض " {[23777]} ؛ ولهذا قال : { وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث ، ونسُوا أنفسهم ، حتى شَقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال [ الله ]{[23778]} تعالى : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ }{[23779]} .

وقيل : المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه{[23780]} كان يشق عليه ويتأذى به ، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه ، عليه السلام ، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } أي : ولهذا نهاكم عن ذلك وزجرَكم عنه .

ثم قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } أي : وكما نهيتكم عن الدخول عليهن ، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ، ولو كان لأحدكم{[23781]} حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب .

وقال{[23782]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن مِسْعَر ، عن موسى بن أبي كثير ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : كنت آكل مع النبي{[23783]} صلى الله عليه وسلم حَيْسًا في قَعْب ، فمر عمر فدعاه ، فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال : حَسِّ{[23784]} - أو : أوّه - لو أطاع فيكن ما رأتك{[23785]} عين . فنزل الحجاب{[23786]} .

{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي : هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب .

وقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } : قال{[23787]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا مهْرَان ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } قال : نزلت في رَجُل هَمّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم . قال رجل لسفيان : أهي عائشة ؟ قال : قد ذكروا ذاك .

وكذا قال مقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك ؛ ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه{[23788]} أنه يحرم على غيره تزويجها من بعده ؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين ، كما تقدم . واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته{[23789]} هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين ، مأخذهما : هل دخلت هذه في عموم قوله : { مِنْ بَعْدِهِ } أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره - والحالة هذه - نزاعا ، والله أعلم .

وقال{[23790]} ابن جرير : حدثني [ محمد ]{[23791]} بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عامر ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنت{[23792]} الأشعث - يعني : ابن قيس - فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنها لم يُخَيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحجبها ، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها . قال : فاطمأن أبو بكر ، رضي الله عنهما{[23793]} وسكن{[23794]} .

وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك ، وشدد فيه وتوعد عليه بقوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } ،


[23739]:- في ت: "وروى".
[23740]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
[23741]:- في ت: "تهيأ".
[23742]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
[23743]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
[23744]:- صحيح البخاري برقم (4791) وبرقم (6239 ، 6271) وصحيح مسلم برقم (1428) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11420)
[23745]:- صحيح البخاري برقم (4792).
[23746]:- في ت: "قال البخاري".
[23747]:-- زيادة من ت ، ف ، أ.
[23748]:- زيادة من ت ، ف ، والبخاري ، وفي أ: "بنى الله على النبي".
[23749]:- في ت: "النبي".
[23750]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
[23751]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[23752]:- صحيح البخاري برقم (4793) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10101).
[23753]:- في أ: "بكير".
[23754]:- صحيح البخاري برقم (4794).
[23755]:- في ت: "روى مسلم والنسائي".
[23756]:- في ت ، ف: "جعلت".
[23757]:- زيادة من ف ، أ.
[23758]:- في ت ، ف ، أ: "ويسموا".
[23759]:- في ت ، ف ، أ: "علموا".
[23760]:- صحيح مسلم برقم (1428) وسنن الترمذي برقم (3218) وسنن النسائي (6/136).
[23761]:- صحيح البخاري برقم (5163).
[23762]:- صحيح مسلم برقم (1428).
[23763]:- في أ: "ورواه".
[23764]:- صحيح البخاري برقم (5170) وسنن الترمذي برقم (3219).
[23765]:- في أ: "بنحوه ولم يخرجوه".
[23766]:- تفسير الطبري (22/27).
[23767]:- في هـ ، أ: "جعفر بن سليمان" والتصويب من ت ، ف ، ومسلم.
[23768]:- المسند (3/195) ، وصحيح مسلم برقم (1428) ، وسنن النسائي (6/79)".
[23769]:- في ت: "وروى".
[23770]:- في ف ، أ: "حرصا أن أن".
[23771]:- في ت: "قال".
[23772]:- تفسير الطبري (22/28).
[23773]:- المسند (6/56) وصحيح البخاري برقم (4795) وصحيح مسلم برقم (2170).
[23774]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (5232) ومسلم في صحيحه برقم (2172) من حديث عقبة بن عامر ، رضي الله عنه.
[23775]:- في أ: "الطعام إذا طبخ حتى".
[23776]:- صحيح مسلم برقم (1429).
[23777]:- في صحيح البخاري برقم (2568) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
[23778]:- زيادة من ف.
[23779]:- بعدها في أ: "والله لا يستحيي من الحق".
[23780]:- في أ: "إذن".
[23781]:- في ت: "لأحدهم".
[23782]:- في ت: "وروى".
[23783]:- في ت: "رسول الله".
[23784]:- في هـ: "خير" وفي ت ، ف ، أ: "حسن" والمثبت من النهاية لابن الأثير 1/385.
[23785]:- في ت ، أ: "ما رأتكن".
[23786]:- ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11419) من طريق زكريا بن يحيى عن ابن أبي عمر ، به.
[23787]:- في ت: "روى".
[23788]:- في ف ، أ: "زوجاته".
[23789]:- في ت: "حياتها".
[23790]:- في ت: "وروى".
[23791]:- زيادة من ف ، أ ، والطبري.
[23792]:- في أ: "قتيلة ابنة".
[23793]:- في ت ، ف: "عنه".
[23794]:- تفسير الطبري (22/29).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم . { إلى طعام } متعلق ب { يؤذن } لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : { غير ناظرين إناه } غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل { لا تدخلوا } أو المجرور في { لكم } . وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك . { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز أحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم . { ولا مستأنسين لحديث } لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على { ناظرين } أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين . { إن ذلكم } اللبث . { كان يؤذي النبي } لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه . { فيستحي منكم } من إخراجكم بقوله : { والله لا يستحيي من الحق } يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ " لا يستحي " بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء . { وإذا سألتموهن متاعا } شيئا ينتفع به . { فاسألوهن } المتاع . { من وراء حجاب } ستر . روي " أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت " . وقيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت . { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الخواطر النفسانية الشيطانية . { وما كان لكم } وما صح لكم . { أن تؤذوا رسول الله } أن تفعلوا ما يكرهه . { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } من بعد وفاته أو فراقه ، وخص التي لم يدخل بها ، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير . { إن ذلكم } يعني إيذاءه ونكاح نسائه . { كان عند الله عظيما } ذنبا عظيما ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال : { إن تبدوا شيئا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا ، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ، قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك{[9558]} ، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة{[9559]} والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[9560]} ، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفاً ، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة -رصاً على الحجاب{[9561]}-

وقالت له زينب بنت جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب{[9562]} .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث : منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، و{ عسى ربه إن طلقكن }{[9563]} . الحديث{[9564]} .

وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، و { ناظرين } معناه منتظرين و { إناه } مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل خاتمة تمام{[9565]}

وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه » وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله { ولا مستأنسين } عطف على قوله { غير ناظرين } و { غير } منصوبة على الحال من الكاف والميم في { لكم } أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير » بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم {[9566]} » ، وقرأ الأعمش «آناءة » على جمع «أنى » بمدة بعد النون{[9567]} ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله { والله لا يستحيي } معناه لا يقع منه ترك قوله { الحق } ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع » عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال ، وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله{[9568]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها{[9569]} فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر{[9570]} ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر ، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .


[9558]:أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والنسائي،وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه-من طرق- عن أنس رضي الله عنه.(الدر المنثور)، وفي(فتح القدير): أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
[9559]:أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه.
[9560]:ذكره البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند.
[9561]:أخرجه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها-(فتح القدير، والدر المنثور)، قال ابن كثير: هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب، كما رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
[9562]:أخرجه ابن جرير،عن ابن مسعود من طريق عطاء بن السائب، وذكره السيوطي في الدر المنثور، من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الحافظ بن في حجر في تخريج(الكشاف):"رواه الثعلبي من رواية مجاهد عن الشعبي".
[9563]:من الآية (5) من سورة التحريم).
[9564]:أخرجه البخاري في الصلاة، وفي تفسير آل عمران، ومسلم في فضائل الصحابة، والدارمي في المناسك، والإمام أحمد في مسنده(1-23، 36)، ولفظه:(وافقت ربي عز وجل في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقلت:يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة:"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت كذلك. هذا وقد ذكر-في رواية لمسلم- قصة أسارى بدر، وهي نقطة رابعة حصلت فيها الموافقة.
[9565]:نسبه في التاج إلى عمرو بن حسان، ونسبه في القرطبي إلى الشيباني، وذكره مع بيت قبله وهو: وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام واستشهد به في اللسان غير منسوب، قال:"ابن الأنباري: الأنى من بلوغ الشيء منتهاه، مقصور يكتب بالياء، وقد أنى ياني، وقال: تمخضت المنون...البيت"، أي: أدرك وبلغ، وهكذا قال صاحب التاج، وعلى هذا فإن(أنى) في البيت فعل ماض بمعنى أدرك وبلغ. ومعنى البيت أن كل شيء له أوان ينتهي عنده، كما أن كل ما تحمل من النساء لا بد أن تلد عندما تتم حملها.
[9566]:يرى الفراء أن[غير] بالنصب نعت للقوم، وهم معرفة، و[غير] نكرة، فنصبت على الفعل، كقوله تعالى:{أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد}، ثم قال:"ولو خفضت{غير ناظرين} كان صوابا، لأن قبلها[طعام] وهو نكرة، فتجعل فعلهم تابعا للطعام، كما تقول العرب: رأيت زيدا مع امرأة محسن إليها، محسنا إليها".
[9567]:في (أنى) لغات، تكون بكسر الهمزة، و(أنى) بفتحها، و(أناء) بفتح الهمزة والمد، وعلى هذه جاء قول الحطيئة: وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناء.
[9568]:هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة المبشرين بالجنة، مشهور، استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وكان عمره ثلاثا وستين سنة.(تقريب التهذيب). هذا وقد ذكر السيوطي الحديث في(الدر المنثور) من طريق ابن مردويه عن ابن عباس، وقال الحافظ بن حجر في (تخريج الكشاف):"وروى ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم...الحديث، قال السيوطي في(الدر):قال: سفيان: ذكروا أنها عائشة رضي الله عنها"ا هـ. كلام الحافظ. وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن:"قال ابن عباس: قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء-في نفسه-: لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي، قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله، قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا، فكفر الله عنه". هذا مجمل ما روي عن طلحة في هذه القصة، ولكن ابن عطية رحمه الله ينفيها عنه كما رأينا، والقرطبي يقول بعد أن حكى الخبر عن النحاس:"ولا يصح"، وقال الإمام أبو العباس:"وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله"، والآية صريحة في تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس بعد وفاته، قال الشافعي:"ومن استحل ذلك كان كافرا".
[9569]:أي: لم يدخل بها، يقال: بنى الرجل بامرأته وعليها بمعنى:دخل بها.
[9570]:قال القرطبي:"أما زوجاته صلى الله عليه وسلم اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية تزوجها عكرمة بن أبي جهل"، وقيل: إن الذي تزوجها هو الأشعث بن قيس الكندي- لاحظ اسمها كما نقله ابن عطية-،وقيل: بل إن الذي تزوجها هو مهاجر بن أبي أمية.قال القاضي أبو الطيب:"ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع".