بعد هذا البيان ببيان استحقاقه تعالى للإخلاص وحده إلى عبادة الأوثان ، التي لا تدبر شيئا ، وليس لها من الأمر شيء .
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } لا يضره كفركم ، كما لا ينتفع بطاعتكم ، ولكن أمره ونهيه لكم محض فضله وإحسانه عليكم .
{ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } لكمال إحسانه بهم ، وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة لا يسعدون بعدها ، ولأنه خلقهم لعبادته ، فهي الغاية التي خلق لها الخلق ، فلا يرضى أن يدعوا ما خلقهم لأجله .
{ وَإِنْ تَشْكُرُوا } للّه تعالى بتوحيده ، وإخلاص الدين له { يَرْضَهُ لَكُمْ } لرحمته بكم ، ومحبته للإحسان عليكم ، ولفعلكم ما خلقكم لأجله .
وكما أنه لا يتضرر بشرككم ولا ينتفع بأعمالكم وتوحيدكم ، كذلك كل أحد منكم له عمله ، من خير وشر { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } في يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } إخبارا أحاط به علمه ، وجرى عليه قلمه ، وكتبته عليكم الحفظة الكرام ، وشهدت به عليكم الجوارح ، فيجازي كلا منكم ما يستحقه .
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بنفس الصدور ، وما فيها من وصف برٍّ أو فجور ، والمقصود من هذا ، الإخبار بالجزاء بالعدل التام .
ثم بين - سبحانه - أنه غنى عن خلقه ، وأنهم هم الفقراء إليه فقال : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } .
أى : إن تكفروا - أيها الناس - بعد أن سقنا لكم من الأدلة ما سقنا على صحة الإِيمان وفساد الكفر ، فإن الله - تعالى - غنى عنكم وعن إيمانكم وعبادتكم وعن الخلق أجمعين .
ومع ذلك فإنه - سبحانه - لرحمته بكم ، لا يرضى لعباده الكفر ، أى : لا يحبه منهم ولا يحمده لهم ، ولا يجازى الكافر المجازاة التى يجازى بها المؤمن فإن المؤمن له جنات النعيم ، أما الكافر فله نار الجحيم .
وإن تشكروا الله على نعمه - أيها الناس - بأن تخلصوا له العبادة والطاعة وتستعملوا نعمه فيما خلقت له ، يرض لكم هذا الشكر ، ويكافئكم عليه مكافأة جزيلة . بأن يزيدكم من نعمه وإحسانه وخيره .
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أى : ولا تحمل نفس يوم القيامة حمل أخرى ، وِإنما كل نفس تجازى على حسب أعمالها فى الدنيا .
{ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ } أى : فيخبركم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فى دنياكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى : عليم بما تخفيه الصدور من أسرار ، وبما تضمره القلوب من أقوال وأفعال . . لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
قال الجمل فى حاشيته : قوله : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } معنى عدم الرضا به ، لا يفعل فعل الراضى ، بأن يأذن فيه ويقر عليه ، ويثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ، ويذم عليه ، ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته ، إذ لا يخرج شئ عنها .
أو المعنى : ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله - تعالى - فى شأنهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فيكون الكلام عاما فى اللفظ خاصا فى المعنى ، كقوله - تعالى - : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } أى بعض العباد وبذلك ترى هذه الآية الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته ، وعلى أن من شكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن عاقبة هذا الكشر تعود على الشاكر بالخير الجزيل ، أما من جحد نعم الله - تعالى - وأشرك معه فى العبادة غيره ، فإن عاقبة هذا الجحود ، تعود على الجاحد بالشرك الوبيل ، وبالشفاء فى الدنيا والآخرة .
يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى : أنه الغني عما سواه من المخلوقات ، كما قال موسى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] . وفي صحيح مسلم : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا " .
وقوله { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي : لا يحبه ولا يأمر به ، { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي : يحبه منكم ويزدكم من فضله .
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل نفس عن نفس شيئا ، بل كل مطالب بأمر نفسه ، { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : فلا تخفى عليه خافية .
{ إن تكفروا فإن الله غني عنكم } عن إيمانكم . { ولا يرضى لعباده الكفر } لاستضرارهم به رحمة عليهم . { وإن تشكروا يرضه لكم } لأنه سبب فلا حكم ، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك ، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها . { ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون } بالمحاسبة والمجازاة . { إنه عليم بذات الصدور } فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم .
قال ابن عباس : هذه الآية مخاطبة للكفار الذي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . و «عباده » : هم المؤمنون .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس ، لأن الله تعالى غني عن جميع الناس وهم فقراء إليه ، وبين بعد البشر عن رضى الله إن كفروا بقوله : { إن تكفروا } .
واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله : { ولا يرضى لعباده الكفر } فقالت فرقة : الرضى بمعنى الإرادة واللام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان وحتمه له : و «عباده » على هذا ملائكته ومؤمنو البشر والجن ، وهذا يتركب على قول ابن عباس . وقالت فرقة : الكلام عموم صحيح ، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله ، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه ديناً لهم ، فهذا يتركب على الاحتمال الذي تقدمك آنفاً . ومعنى : لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به خيراً ، فالرضى على هذا هو صفة فعل لمعنى القبول ونحوه . وتأمل الإرادة فإنها حقيقة ، إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضى ، فإنما حقيقة فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا .
وقوله تعالى : { وإن تشكروا يرضه لكم } عموم ، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي : «يرضهُ » بضمة على الهاء مشبعة . وقرأ ابن عامر وعاصم «يرضه » بضمة على الهاء غير مشبعة ، واختلف عن نافع وأبي عمرو . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : «يرضهْ » بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز ، قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، وأنث «الوازرة » و «الأخرى » لأنه أراد الأنفس . والوزر الثقل ، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته .
ثم أخبرهم تعالى بأن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم ، أي إلى ثوابه أو عقابه ، فيوقف كل أحد على أعماله ، لأنه المطلع على نيات الصدور وسائر الأفئدة . و «ذات الصدور » : ما فيه من خبيئة ، ومنه قولهم : الذيب مغبوط بذي بطنه .