{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } هذا حكم العاجز عن النكاح ، أمره الله أن يستعفف ، أن يكف عن المحرم ، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه ، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه ، ويفعل أيضا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله : { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } أي : لا يقدرون نكاحا ، إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم ، أو امتناعهم من تزويجهم [ وليس لهم ]{[563]} من قدرة على إجبارهم على ذلك ، وهذا التقدير ، أحسن من تقدير من قدر " لا يجدون مهر نكاح " وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف ، فإن في ذلك محذورين : أحدهما : الحذف في الكلام ، والأصل عدم الحذف .
والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالان ، حالة غنى بماله ، وحالة عدم ، فيخرج العبيد والإماء ومن إنكاحه على وليه ، كما ذكرنا .
{ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وعد للمستعفف أن الله سيغنيه وييسر له أمره ، وأمر له بانتظار الفرج ، لئلا يشق عليه ما هو فيه .
وقوله { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أي : من ابتغى وطلب منكم الكتابة ، وأن يشتري نفسه ، من عبيد وإماء ، فأجيبوه إلى ما طلب ، وكاتبوه ، { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ } أي : في الطالبين للكتابة { خَيْرًا } أي : قدرة على التكسب ، وصلاحا في دينه ، لأن في الكتابة تحصيل المصلحتين ، مصلحة العتق والحرية ، ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء نفسه . وربما جد واجتهد ، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما لا يحصل في رقه ، فلا يكون ضرر على السيد في كتابته ، مع حصول عظيم المنفعة للعبد ، فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمر إيجاب ، كما هو الظاهر ، أو أمر استحباب على القول الآخر ، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم ، لكونهم محتاجين لذلك ، بسبب أنهم لا مال لهم ، فقال : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه ، أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها ، وأمر الناس بمعونتهم .
ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة ، ورغب في إعطائه بقوله : { مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } أي : فكما أن المال مال الله ، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه ، فأحسنوا لعباد الله ، كما أحسن الله إليكم .
ومفهوم الآية الكريمة ، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة ، لا يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته ، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا ، بأن علم منه عكسه ، إما أنه يعلم أنه لا كسب له ، فيكون بسبب ذلك كلا على الناس ، ضائعا ، وإما أن يخاف إذا أعتق ، وصار في حرية نفسه ، أن يتمكن من الفساد ، فهذا لا يؤمر بكتابته ، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور .
ثم قال تعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ } أي : إماءكم { عَلَى الْبِغَاءِ } أي : أن تكون زانية { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال ، وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا ، يجب على سيدها منعها من ذلك ، وإنما هذا نهى لما كانوا يستعملونه في الجاهلية ، من كون السيد يجبر أمته على البغاء ، ليأخذ منها أجرة ذلك ، ولهذا قال : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيرا منكم ، وأعف عن الزنا ، وأنتم تفعلون بهن ذلك ، لأجل عرض الحياة ، متاع قليل يعرض ثم يزول .
فكسبكم النزاهة ، والنظافة ، والمروءة -بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها- أفضل من كسبكم العرض القليل ، الذي يكسبكم الرذالة والخسة .
ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة ، فقال : { وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فليتب إلى الله ، وليقلع عما صدر منه مما يغضبه ، فإذا فعل ذلك ، غفر الله ذنوبه ، ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب ، وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها .
ثم أرشد - سبحانه - الذين لا يجدون وسائل النكاح ، إلى ما يعينهم على حفظ فروجهم ، فقال : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
والاستعفاف : طلب العفة ، واختيار طريق الفضيلة التى من وسائلها ما أشار إليه - سبحانه - فى قوله : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } والمعنى : وعلى المؤمنين والمؤمنات " الذين لا يجدون نكاحا " أى : الذين لا يجدون الوسائل والأسباب التى توصلهم إلى الزواج بسبب ضيق ذات اليد ، أو ما يشبه ذلك ، عليهم أن يتحصنوا بالعفاف وأن يصونوا أنفسهم عن الفواحش ، وأن يستمروا على ذلك حتى يرزقهم الله - تعالى - من فضله رزقا ، يستعينون به على إتمام الزواج .
فهذه الجملة الحكيمة وعد كريم من الله - تعالى - للتائقين إلى الزواج ، العاجزين عن تكاليفه بأنه - سبحانه - سيرزقهم من فضله ما يعينهم على التمكن منه ، متى اعتصموا بطاعته ، وحافظوا على أداء ما أمرهم به .
قال صاحب الكشاف : " وما أحسن ما رتب هذه الأوامر : حيث أمر - أولا - بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر . ثم بالنكاح الذى يحصن به الدين ، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه " .
ثم حض - سبحانه - على إعانة الأرقاء لكى يتخلصوا من رقهم ويصيروا أحرارا . فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } .
والمراد بالكتاب هنا : المكاتبة التى تكون بين السيد وعبده ، بأن يقول السيد لعبده : إن أديت إلى كذا من المال فأنت حر لوجه الله ، فإذا قبل العبد ذلك وأدى ما طلبه منه سيده ، صار حرا .
أى : والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم - أيها الأحرار . . . . فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، أى : أمانة وقدرة على الكسب ، وأعينوهم على التحرر من رقهم بأن تعطوهم شيئا من المال الذى آتاكم الله إياه ، بفضله وإحسانه .
وهكذا نرى الإسلام يأمر أتباعه الذين رزقهم الله نعمة الحرية ، أن يعينوا مماليكهم على ما يمكنهم من الحصول على هذه النعمة .
ومن العلماء من يرى أن الأمر فى قوله - تعالى - : { فَكَاتِبُوهُمْ } وفى قوله { وَآتُوهُمْ } للوجوب ، لأنه هو الذى يتناسب مع حرص شريعة الإسلام على تحرير الأرقاء .
ثم نهى - سبحانه - عن رذيلة كانت موجودة فى المجتمع ، لكى يطهره منها ، فقال : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } .
قال الآلوسى : أخرج مسلم وأبو داود عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبى بن سلول يقال لها " مسيكة " وأخرى يقال لها " أميمة " كان يكرههما على الزنا ، فشكتا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .
وأخرج ابن مردويه عن على - رضى الله عنه - أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ، ويأخذون أجورهن ، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ، ونزلت الآية .
والفتيات جمع فتاة والمراد بهن هنا الإماء ، وعبر عنهن بقوله " فتياتكم " على سبيل التكريم لهن ، ففى الحديث الشريف : " لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى ولكن فتاى وفتاتى " .
والبغاء - بكسر الباء - زنى المرأة خاصة ، مصدر بغت المرأة تبغى بغاء إذا فجرت .
والتحصن : التصون والتعفف من الزنا .
والمعنى : ولا تكرهوا - أيها الأحرار - فتياتكم اللائى تملكوهن على الزنا إن كرهنه وأردن العفاف والطهر ، لكى تنالوا من وراء إكراههن على ذلك ، بعذ المال الذى يدفع لهن نظير افتراشهن .
وقوله - تعالى - { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس المقصود منه أنهن إن لم يردن التحصن يكرهن على ذلك ، وإنما المراد منه بيان الواقع الذى نزلت من أجله الآية ، وهو إكرامهم لإمائهم على الزنا مع نفورهن منه . ولأن الإكراه لا يتصور عند رضاهن بالزنا واختيارهن له ، وإنما يتصور عند كراهنتهن له ، وعدم رضاهن عنه ، ولأن فى هذا التعبير تعبيرا لهم ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : كيف يقع منكم إكراههن على البغاء وهن إماء يردن العفة ويأبين الفاحشة ؟ ألم يكن الأولى بكم والأليق بكرامتكم أن تعينوهن على العفاف والطهر ، بدل أن تكرهوهن على ارتكاب الفاحشة من أجل عرض من أعراض الحياة الدنيا ؟
وقوله - تعالى - : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته - بعباده .
أى : ومن يكره إماءه على البغاء فإن الله - تعالى - بفضله وكرمه من بعد إكراهكم لهن ، غفور رحيم لهن ، أما أنتم يا من أكرهتموهن على الزنا فالله وحده هو الذى يتولى حسابكم ، وسيجازيكم بما تستحقون من عقاب .
فمغفرة الله - تعالى - ورحمته إنما هى للمكرهات على الزنا ، لا للمكرهين لهن على ذلك .
قال بعض العلماء : قوله - تعالى - : { فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قيل : غفور لهن : وقيل غفور لهم . وقيل : غفور لهن ولهم .
والأظهر : أن المعنى لهن ، لأن المكره لا يؤاخذ بما يكره عليه ، بل يغفره الله له ، لعذره بالإكراه . فالموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره - بكسر الراء - لأنه غير معذور بفعله القبيح .
وقوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله } . هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [ بالتعفف ]{[21122]} عن الحرام ، كما قال - عليه الصلاة والسلام{[21123]} - : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغَضُّ للبصر ، وأحْصَنُ للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء " .
وهذه{[21124]} الآية مطلقة ، والتي في سورة النساء أخص منها ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ، إلى أن قال : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ النساء : 25 ] أي صبركم عن تزويج الإماء خير ؛ لأن الولد يجيء رقيقا ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال عكرمة في قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا } قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض{[21125]} حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [ والأرض ]{[21126]} حتى يغنيه الله .
وقوله : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا{[21127]} ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيِّده المال الذي شارطه على أدائه . وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمرُ إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير ، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه ، وإن شاء لم يكاتبه .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه .
وقال ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن رجل ، عن عطاء بن أبي رَبَاح : إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه{[21128]} ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان ، والحسن البصري .
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك ، أن يجيبه إلى ما طلب ؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر :
قال البخاري : وقال روح ، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء : [ أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا . وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء ]{[21129]} ، أتأثُرُه عن أحد ؟ قال : لا . ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره ، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ - وكان كثير المال ، فأبى .
فانطلق إلى عمر بن الخطاب فقال : كاتبه . فأبى ، فضربه بالدّرة ، ويتلو عمر ، رضي الله عنه : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا }{[21130]} ، فكاتبه{[21131]} هكذا ذكره البخاري تعليقا{[21132]} . ورواه عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا . وقال عمرو{[21133]} بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال : لا{[21134]} وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه ، فقال له عمر : لتكاتِبَنَّه . إسناد صحيح{[21135]} .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر ، عن الضحاك قال : هي عَزْمة .
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي ، رحمه الله ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :{[21136]} لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه " {[21137]} .
وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده . قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله ، وإذن منه للناس ، وليس بواجب .
وكذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية .
وقوله : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } ، قال بعضهم : أمانة . وقال بعضهم : صدقا . [ وقال بعضهم : مالا ]{[21138]} وقال بعضهم : حيلة وكسبا .
وروى أبو داود في كتاب المراسيل ، عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } قال : " إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كَلا{[21139]} على الناس " .
وقوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اختلف المفسرون فيه ، فقال قائلون : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، ثم قال بعضهم : مقدار الربع . وقيل : الثلث . وقيل : النصف . وقيل : جزء من الكتابة من غير واحد .
وقال آخرون : بل المراد من قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات . وهذا قول الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبيه ، ومقاتل بن حيان . واختاره ابن جرير .
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال : حَثَّ الناس عليه{[21140]} مولاه وغيره . وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي ، وقتادة .
وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب . وقد تقدَّمَ في الحديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة حق على الله عونهم " : فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وَكِيع ، عن ابن شَبِيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أنه كاتب عبدًا له ، يكنى أبا أمية ، فجاء بنجمه حين حل ، فقال : يا أبا أمية ، اذهب فاستعن به في مكاتبتك . قال : يا أمير المؤمنين ، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم ؟ قال : أخاف ألا أدرك ذلك . ثم قرأ : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال عكرمة : كان{[21141]} أول نجم أدّي في الإسلام .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسَةَ ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته . ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته ، وضع عنه ما أحب{[21142]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال : يعني : ضعوا عنهم من مكاتبتهم . وكذلك قال مجاهد ، وعطاء ، والقاسم بن أبي بَزَّة ، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ ، والسدي .
وقال محمد بن سيرين في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره ، عن علي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ربع الكتابة " {[21143]} .
وهذا حديث غريب ، ورفعه منكر ، والأشبه أنه موقوف على عليّ ، رضي الله عنه ، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي ، رحمه الله{[21144]} .
وقوله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية : كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة ، أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت . فلما جاء الإسلام ، نهى الله المسلمين{[21145]} عن ذلك .
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة - فيما ذكره غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف - في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [ المنافق ]{[21146]} فإنه كان له إماء ، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن ، ورغبة في أولادهن ، ورئاسة منه فيما يزعم [ قبحه الله ولعنه ]{[21147]}
[ ذكر الآثار{[21148]} الواردة في ذلك ]{[21149]}
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي ، حدثنا أبو عمرو اللخمي - يعني : محمد بن الحجاج - حدثنا محمد ابن إسحاق ، عن الزهري قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول ، يقال لها : معاذة ، يكرهها على الزنى ، فلما جاء الإسلام نزلت : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[21150]} وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر في هذه الآية : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها : مُسَيْكَة ، كان يكرهها على الفجور - وكانت لا بأس بها - فتأبى . فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية إلى قوله { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } {[21151]} .
وروى النسائي ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر نحوه{[21152]} وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا علي بن سعيد ، حدثنا الأعمش ، حدثني أبو سفيان ، عن جابر قال : كان لعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ جارية يقال لها : مسيكة ، وكان يكرهها على البغاء ، فأنزل الله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ، إلى قوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع ، فدل على بطلان قول من قال : " لم يسمع منه ، إنما هو صحيفة " حكاه البزار .
قال أبو داود الطيالسي ، عن سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية ، فولدت أولادًا من الزنى ، فقال لها : ما لك لا تزنين ؟ قالت{[21153]} لا والله لا أزني . فضربها ، فأنزل الله عز وجل : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } {[21154]} وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري : أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر ، وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا ، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية يقال لها : معاذة ، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة{[21155]} . وكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها ، رجاء أن تحمل للقرشي ، فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا }{[21156]}
وقال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة ، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك ، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي : من يَعْذُرني من محمد ، يغلبنا على مملوكتنا ؟ فأنزل الله فيهم هذا .
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما ، إحداهما اسمها مُسَيْكَة ، وكانت للأنصاريّ ، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة ، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرتا ذلك له ، فأنزل الله في ذلك { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } يعني : الزنى .
وقوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } هذا خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له . وقوله : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [ الْحَيَاةِ ] الدُّنْيَا } {[21157]} أي : من خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كسب الحجَّام ، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن{[21158]} - وفي رواية : " مهر البغي خبيث ، وكسب الحجَّام خبيث ، وثمن الكلب خبيث " {[21159]} وقوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ أي : لهن ، كما تقدم في الحديث عن جابر .
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم ]{[21160]} وإثمهن على من أكرههن : وكذا قال مجاهد ، وعطاء الخراساني ، والأعمش ، وقتادة .
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق ، عن عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال : لهن والله . لهن والله .
وعن الزهري قال : غفور لهن ما أُكْرهْن عليه .
وعن زيد بن أسلم قال : غفور رحيم للمكرهات .
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، حدثني ابن لَهِيعَة ، حدثني عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : في قراءة عبد الله بن مسعود : " فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ{[21161]} رَّحِيمٌ " وإثمهن على من أكرههن .
وفي الحديث المرفوع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . {[21162]}
{ وليستعفف } وليجتهد في العفة وقمع الشهوة . { الذين لا يجدون نكاحا } أسبابه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه . { حتى يغنيهم الله من فضله } فيجدوا ما يتزوجون به . { والذين يبتغون الكتاب } المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال ، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض . { مما ملكت أيمانكم } عبدا كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره . { فكاتبوهم } أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط ، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الارفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل . { إن علمتم فيهم خيرا } أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف ، وقد روي مثله مرفوعا وقيل صلاحا في الدين . وقيل مالا وضعفه ظاهر لفظا ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز . { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئا من أموالهم ، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول . وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث ، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا ، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنيا ، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري ، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة " هو لها صدقة ولنا هدية " { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم . { على البغاء } على الزنا ، كانت لعبد اله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . { إن أردن تحصنا } تعففا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه ، وإن جعل شرطا للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه ، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر . { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } أي لهن أوله إن تاب ، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرمة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص .