{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : لا تطرد عنك ، وعن مجالستك ، أهل العبادة والإخلاص ، رغبة في مجالسة غيرهم ، من الملازمين لدعاء ربهم ، دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها ، ودعاء المسألة ، في أول النهار وآخره ، وهم قاصدون بذلك وجه الله ، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل ، فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم ، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم ، وإدنائهم ، وتقريبهم ، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء ، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلاء .
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : كلٌّ له حسابه ، وله عمله الحسن ، وعمله القبيح . { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، أشد امتثال ، فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نفسَه معهم ، وأحسن معاملتهم ، وألان لهم جانبه ، وحسن خلقَه ، وقربهم منه ، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم .
وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن أناسا [ من قريش ، أو ] من أجلاف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك ، فاطرد فلانا وفلانا ، أناسا من فقراء الصحابة ، فإنا نستحيي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء ، فحمله حبه لإسلامهم ، واتباعهم له ، فحدثته نفسه بذلك . فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء .
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
أى : لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ لا أطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك ؟ فنزلت هذه الآية .
ففى الآية الكريمة نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه . لأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للاسلام لينال بقوتهم قوة ، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة فى الإيمان والعمل الصالح ، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه فى كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله ، فكيف يطردون من مجالس الخير ؟
ثم قال تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } .
أى : إن الله تعالى هو الذى سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شىء ، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شىء ، فهم مجزبون بأعمالهم ، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك ، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الضالين . إذ انهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك ، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما تلك هى صفاتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كفى قوله { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى فى قوله :
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
وقيل : الضمير للمشركين . والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين .
وهنا تخريج آخر لقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } بأن المعنى : ما عليك شىء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء ، وما من حسابك فى الفقر والغنى عليهم من شىء ، أى أ ، ت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعاً سواء منهم الفقير والغنى ، فكيف تطرد فقيراً لفقره ، وتقرب غنيا لغناه ؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين ، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك .
وقوله { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب للنهى عن الطرد ، وقوله { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب لنفى الحساب .
ثم قال تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } .
والمعنى : ومثل ذلك الفتن . أى الابتلاء والاختبار ، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء فى شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا ! وقد رد الله عليهم بقوله { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } أى : أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
وقوله : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفة عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك ، كما قال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28 ] .
وقوله { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي : يعبدونه ويسألونه { بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قال سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : المراد بذلك الصلوات المكتوبات .
وهذا كقوله [ تعالى ]{[10700]} { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] أي : أتقبل منكم .
وقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : يبتغون بذلك العمل وجه الله الكريم ، فهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات .
وقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } كما قال نوح ، عليه السلام ، في جواب الذين قالوا : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } [ قال ]{[10701]} { وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } [ الشعراء : 112 ، 113 ] ، أي : إنما حسابهم على الله ، عَزَّ وجل ، وليس على من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء .
وقوله : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن فعلت هذا والحالة هذه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن السُّدِّي ، عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود ، عن خباب في قول الله ، عَزَّ وجل : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين{[10702]} فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم ، فأتوه فخلوا به ، وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت . قال : " نعم " . قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا ، قال : فدعا بالصحيفة ودعا عليًا ليكتب ، ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريل فقال : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ] }{[10703]} فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ، ثم دعانا فأتيناه .
ورواه ابن جرير ، من حديث أسباط ، به . {[10704]}
وهذا حديث غريب ، فإن هذه الآية مكية ، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر .
وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قال سعد : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم ابن مسعود ، قال : كنا نسبق إلى النبي{[10705]} صلى الله عليه وسلم ، وندنو منه ونسمع منه ، فقالت قريش : يدني هؤلاء دوننا ، فنزلت : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ }
رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان ، وقال : على شرط الشيخين . وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح ، به{[10706]}