ثم قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : الأزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا { وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } أي : يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة لا يخرجن منها { فإن خرجن } من أنفسهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز حكيم } أي : من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة بما قبلها وهي قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقيل لم تنسخها بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة ، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج ، ومراعاة للزوجة ، والدليل على أن ذلك مستحب أنه هنا نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول ، فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن أحكام الزواج وما يتعلق به من طلاق ووصية وعدة وغير ذلك من أحكام بقوله - تعالى - :
{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً . . . }
الآية الكريمة من هذه الآيات تبين بعض الحقوق التي شرعها الله - تعالى - للمرأة التي توفي عنها زوجها .
والمعنى : لقد شرع الله لكم فيما شرع من أحكام ، أن على المسلم قبل أن يحضره الموت أن يوصى لزوجته التي على قيد الحياة بما تنتفع به انتفاعاً مستمراً لمدة حول من وفاته ، ولا يصح أن يخرجها أحد من مسكن الزوجية .
وقوله : { وَصِيَّةً } فيه قراءتان مشهورتان .
القراءة الأولى بالنصب ، والتقدير : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً فليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية لأزواجهم .
والقراءة الثانية بالرفع والتقدير : فعليهم وصية لأزواجهم .
وعلى قراءة النصب تكون كلمة { وَصِيَّةً } مفعولا مطلقاً أو مفعولا به ، وعلى قراء الرفع تكون مبتدأ محذوف الخبر . وقوله : { لأَزْوَاجِهِمْ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة { وَصِيَّةً } على القراءتين . أي : وصية كائنة لأزواجهم .
والمراد بقوله : { مَّتَاعاً } ما تتمتع به الزوجة من السكن والنفقة بعد وفاة زوجها بوصية منه . وهو منصوب على المصدر أي متعوهن متاعاً أوم على المفعولية . أي جعل الله لهن ذلك متاعاً .
وقال - سبحانه - : { مَّتَاعاً إِلَى الحول } للتنصيص على أن هذه المدة تمتد حولا كاملا منذ وفاة زوجها ، إذ كلمة حول تدل على التحول أي حتى تعود الأيام التي حدثت فيها الوفاة . وقوله : " غير إخراج " حال من أزواجهم أي غير مخرجات من مسكن الزوجية ، فلا يصح لورثة الميت أن يخرجوهن من مسكن الزوجية بغير رضاهن ، لأن بقاءهن في مسكن الزوجية حق شرعه الله لهن ، فلا يجوز لأحد أن يسلبه منهن بغير رضاهن .
ثم قال - تعالى - : { فَإِنْ خَرَجْنَ } من منزل الزوجية برضاهن ورغبتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي فلا إثم عليكم أيها المسلمون { فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } أي فيما فعلن في أنفسهن من أمور لا ينكرها الشرع كالتزين والتطيب والتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام .
هذا ، وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهان مشهوران :
أما الاتجاه الأول : فيرى أصحابه أن هذه الآية منسوخة لأنها توجب على الزوج حين مشارفة الموت أن يوصي لزوجته بالنفقة والسكني حولا ، ويجب عليها الاعتداد حولان ، وهي مخيرة بين السكنى في بيته حولا ولها النفقة ، وبين أن تخجر منه ولا نفقة لها ، ولم يكن لها ميراث من زوجها قالوا : وكان هذا الحكم في ابتداء الإِسلام . وقد نسخ وجوب الوصية بالنفقة والسكنى بآية المواريث وبحديث " ألا لا وصية لوارث " حيث جعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى ونسخ وجوب العدة حولا بقوله - تعالى - قبل ذلك : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } الآية .
قالوا : ومما يشهد لذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : نسخت بآية الميراث بما فرض الله لن من الربع والثمن " ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشراً " .
وقد حكى هذا الرأي صاحب الكشاف فقال : والمعنى : أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصلوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا ، أي : ينفق عليهن من تركته ولا يخرجهن من مساكنهن . وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } وقيل نسخ ما زاد منه على هذا المقدار . ونسخت النفقة بالإِرث الذي هو الربع والثمن .
واختلف في السكني فعند أبي حنيفة لا سكنى . ثم قال : فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة والمتأخرة ؟ قلت : قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل . كقوله - تعالى - : { سَيَقُولُ السفهآء } مع قوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } وعلى هذا الاتجاه سار جمهور المفسرين .
أما الاتجاه الثاني : فيرى أصحابه أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة وممن ذهب إلى هذا الاتجاه مجاهد ، فقد قال ما ملخصه : دلت الآية الأولى وهي { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها . ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول ، وأن ذلك من باب الوصية للزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا ولا يمنعن من ذلك لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فإذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ } .
ومن المفسرين الذين أيدوا هذا الاتجاه الإِمام ابن كثير فقد قال - بعد أن ساق قول مجاهد - وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإِمام أبو العباس بن تيمية .
كما أيده أيضاً الإِمام الفخر في تفسيره ، فقد قال بعد أن ساق بعض الأدلة التي تثبت ضعف قول من قال بالنسخ : " فكان المصير إلى قول مجاهد ألوى من التزام النسخ من غير دليل " .
والخلاصة أن أصحاب هذا الاتجاه الثاني لا يرون معارضة بين هذه الآية وبين آية { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } لأن الآية التي معنا لا تتحدث عن عدة المتوفي عنها زوجها وإنما تتحدث عن حقها في البقاء في منزل الزوجية بعد وفاة زوجها ، وأن هذا الحق ثابت لها فإن شاءت بقيت فيه ، وإن شاءت خرجت منه على حسب ما نراه مصلحة لها ، ولأنها لا يوجد من ألفاظها أو معانيها ما يلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة .
أما الآية الثانية فنراها واضحة في الأمر بالتربص أربعة أشهر وعشراً ، وهي العدة التي يجب أن تمتنع فيها المرأة التي مات عنها زوجها عن التزين والتعرض للزواج . إذن فلا تعارض بين الآيتين ومتى انتفى التعارض انتفى النسخ .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن تعدى حدوده ، إذ هو القاهر فوق عباده ، حكيم فيما شرع لهم من آداب وأحكام فينبغي أن يمتثل الناس أوامره ويجتنبوا ما نهاهم عنه .
وتؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحكام الزواج والطلاق ؛ وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى . وهي العبادة ممثلة في كل طاعة . ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام :
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا : وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج . فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم . وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون . .
والآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله ، مدة حول كامل ، لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء . . وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة . فالعدة فريضة عليها . والبقاء حولا حق لها . . وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك . ولا ضرورة لافتراض النسخ ، لاختلاف الجهة كما رأينا . فهذه تقرر حقا لها إن شاءت استعملته . وتلك تقرر حقا عليها لا مفر منه :
( فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ) . .
وكلمة ( عليكم ) توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسؤولة عن كل ما يقع فيها . فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها . وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون . . ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها ، وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها . فهي المسؤولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة . والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها . . والتعقيب :
للفت القلوب إلى قوة الله . وحكمته فيما يفرض وما يوجه . وفيه معنى التهديد والتحذير . .
موقع هذه الآية هنا بعد قوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } [ البقرة : 243 ] إلى آخرها في غاية الإشكال فإن حكمها يخالف في الظاهر حكم نظيرتها التي تقدمت ، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } يزداد موقعها غرابة إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع .
والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولاً في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث ، روي هذا عن ابن عباس ، وقتادة والربيع وجابر بن زيد . وفي البخاري في كتاب التفسير عن عبد الله بن الزبير قال : « قلت لعثمان هذه الآية ، { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم } قد نسختها الآية الآخرى فلم تكتبها ، قال : لا أغير شيئاً منه عن مكانه بابن أخي » فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية ، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها ، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لقول عثمان « لا أغير شيئاً منه عن مكانه » ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث .
وفي البخاري قال مجاهد « شرع الله العدة أربعة أشهر وعشراً تعتد عند أهل زوجها واجباً ، ثم نزلت { وصية لأزواجهم } فجعل الله لها تمام السنة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين ، فكان ذلك حقها في تركة زوجها ، ثم نسخ ذلك بالميراث » فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولاً : إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولاً مراعاة لما كانوا عليه ، ويكون الحول تكميلاً لمدة السكنى لا للعدة ، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب ، وهو المقبول .
واعلموا أن العرب في الجاهلية كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولاً ، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب ، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى : { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [ البقرة : 234 ] عن « الموطأ » ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة ، وشرع عدة الوفاة والإحداد ، فلما ثقل ذلك على الناس ، في مبدأ أمر تغيير العادة ، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله ، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج ، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها ، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقاً عليها لا تستطيع تركه ، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث ، فاللَّه لما أراد نسخ عدة الجاهلية ، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم ، أقر الاعتداد بالحول ، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة ، لكنه أوقفه على وصية الزوج عند وفاته لزوجه بالسكنى ، وعلى قبول الزوجة ذلك ، فإن لم يوص لها أو لم تقبل ، فليس عليها السكنى ، ولها الخروج ، وتعتد حيث شاءت ، ونسخ { وصية } السكنى حولاً بالمواريث ، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعاً بحديث الفُريعة .
وقوله : { وصية لأزواجهم } قرأه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ويعقوب وخلف : برفع ( وصية ) على الابتداء ، محولاً عن المفعول المطلق ، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله ، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم : حمد وشكر ، و { صبر جميل } [ يوسف : 18 ] كما تقدم في تفسير { الحمد لله } [ الفاتحة : 18 ] وقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] ولما كان المصدر في المفعول المطلق ، في مثل هذا ، دالاً على النوعية ، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكراً ، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء ، بل المقصود النوع ، وعليه فقوله : { لأزواجهم } خبر ، وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : { وصيّةً } بالنصب فيكون قوله : { لأزواجهم } متعلقاً به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله لإفادة الأمر .
وظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين ، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة مثل الوصية التي في قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } [ البقرة : 180 ] فعلى هذا الاعتبار إذا لم يوص المتوفَّى لزوجه بالسكنى فلا سكنى لها وقد تقدم أن الزوجة مع الوصية مخيرة بين أن تقبل الوصية ، وبين أن تخرج . وقال ابن عطية : قالت فرقة منهم ابن عباس والضحاك وعطاء والربيع : أن قوله { وصية لأزواجهم } هي وصية من الله تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولاً ، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] وقوله : { وصية من الله } [ النساء : 12 ] فذلك لا يتوقف على إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات ، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه ، وعليه يتعين أن يكون { لأزواجهم } متعلقاً بوصية ، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به ، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول .
وقوله : { متاعاً إلى الحول } : تقدم معنى المتاع في قوله : { متاعاً بالمعروف حقا على المحسنين } [ البقرة : 236 ] والمتاع هنا هو السكنى ، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعاً ، وانتصب متاعاً على نزع الخافض ، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع . و ( إلى ) مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول ، وتقديره متاعاً بسكنى إلى الحول ، كما دل عليه قوله : { غير إخراج } .
والتعريف في الحول تعريف العهد ، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها ، فهو كتعريفه في قول لبيد{[188]} :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر
وقوله : { غير إخراج } حال من { متاعاً } مؤكدة ، أو بدل من { متاعاً } بدلاً مطابقاً ، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده ، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية :
خباءٌ على المنابر فُرسا *** نٌ عليها وقالَةٌ غيرُ خُرْس
وقوله : { فإن خرجن فلا جناح عليكم } هو على قول فرقة معناه : فإن أبين قبول الوصية فخرجن ، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من الخروج وغيره من المعروف عدا الخطبة والتزوج ، والتزين في العدة ، فذلك ليس من المعروف . وعلى قول الفرقة الأخرى التي جعلت الوصية من الله ، يجب أن يكون قوله : { فإن خرجن } عطفاً على مقدر للإيجاز ، مثل : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن أي من تزوج وغيره من المعروف عدا المنكر كالزنا وغيره ، والحاصل أن المعروف يفسر بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها .
قال ابن عرفة في « تفسيره » « وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة ، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى ، فصار هنالك معهوداً » . وأحسب هذا غير مستقيم ، وأن التعريف تعريف الجنس ، وهو والنكرة سواء ، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى علي بفتح ياء { يتوفون } وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن } [ البقرة : 234 ] الآية .