{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }
هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب ، أي : فلا تطمعوا في إيمانهم وحالتهم{[91]} لا تقتضي الطمع فيهم ، فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه ، فيضعون له معاني ما أرادها الله ، ليوهموا الناس أنها من عند الله ، وما هي من عند الله ، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله ، فكيف يرجى منهم إيمان لكم ؟ ! فهذا من أبعد الأشياء .
ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً آخر من ألوان رذائلهم . ويتمثل هذا اللون في تحريفهم للكلم عن مواضعه ، واشترائهم بآيات الله ثمناً قليلاً ، وذلك لقسوة قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم ، وبيعهم الدين بالقليل من حطام الدنيا ، قال - تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ . . . }
الآيات الكريمة التي معنا قد افتتحت بتيئيس المؤمنين من دخول اليهود في الإِسلام ولكن هذا التيئيس قد سبق بما يدعمه ويؤيده ، فقد بينت الآيات السابقة عليها " موقف اليهود الجحودي من نعم الله - عز وجل - كما بينت تنطعهم في الدين ، وسوء إدراكهم لمقاصد الشريعة ، وقساوة قلوبهم من بعد أن رأوا من الآيات البينات ما رأوا .
وبعد هذا البيان الموحي بالقنوط من استجابتهم للحق ، خاطب الله المؤمنين بقوله :
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
ومعنى الآية الكريمة : أفتطمعون - أيها المؤمنون - بعد أن وصفت لكم من حال اليهود ما وصفت من جحود ونكران ، أن يدخلوا في الإِسلام . والحال أنه كان فريق من علمائهم وأحبارهم يسمعون كلام الله ثم يميلونه عن وجهه الصحيح من بعد ما فهموه ، وهم يعلمون أنهم كاذبون بهذا التحريف على الله تعالى ، أو يعلمون ما يستحقه محرفه من الخزي والعذاب الأليم .
فالخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، والاستفهام يقصد به الإِنكار عليهم ، إذ طمعوا في استجابة اليهود لدعوة الحق ، بعد أن علموا سوء أحوالهم ، وفساد نفوسهم . والنهي عن الطمع في إيمانهم لا يقتضي عدم دعوتهم إلى الإِيمان ، فالمؤمنون مأمورون بدعوتهم إليه ، لإِقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم ، ولقطع عذرهم في الآخرة . وقد تصادف الدعوة إلى الإِسلام نفوساً منصفة تستجيب لدعوة الحق ، وتهتدي إلى الطريق المستقيم ، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم هو وأصحابه من بعده . ولكن اليهود صموا آذانهم عن الحق بعد ما عرفوه فأصبحت دعوتهم إلى الإِسلام غير مجدية ، وهنا يأتي النهي عن الطمع في إيمانهم بهذه الآية وأمثالها .
وجملة { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله } حالية ، مشتملة على بيان أحد الأسباب الداعية إلى القنوط من إيمانهم ، وبذلك يكون التقنيط من إيمانهم قد علل بعلتين :
إحداهما : ما سبق هذه الآية من تصوير لأحوالهم السيئة .
والثانية : ما تضمنته هذه الجملة الكريمة من تحريفهم لكلام الله عن علم وتعمد .
والمراد بالفريق في قوله تعالى : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أحبارهم وعلماؤهم الذين عاصروا الرسل الكرام ، فسمعوا منهم ، أو الذين أتوا بعدهم فنقلوا عنهم .
والتحريف أصله انحراف الشيء عن جهته وميله عنها إلى غيرها . والمراد به هنا : إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به ، بالتغيير والتبديل في الألفاظ ، أو بالكتمان والتأويل الفاسد ، والتفسير الباطل .
وقوله تعالى : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } زيادة تشنيع عليهم ، حيث إنهم حرفوا كلام الله بعد فهمهم له عن تعمد وسوء نية ، وارتكبوا هذا الفعل الشنيع ، رغم علمهم بما يستحقه مرتكبه من عقوبة دنيوية وأخروية .
ففي هذين القيدين من النعي عليهم ما لا مزيد عليه ، حيث أبطل بهما عذر الجهل والنسيان ، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان .
وإنما كان قيام الفريق من أحبار اليهود بتحريف الكتاب سبباً في اليأس من إيمان عامتهم ، لأن هؤلاء العامة المقلدين ، قد تلقوا دينهم عن قوم فاسقين ، دون أن يلتفتوا إلى الحق ، أو يتجهوا إلى النظر في الأدلة الموصلة إليه ، وأمثال هؤلاء الذين شبوا على عماية التقليد ، وغواية الشيطان ، لا يرجى منهم الوصول إلى نور الحق ، وجلال الصدق ، ولأن أمة بلغ الحال بعلمائها - وهم مظهر محامدهم - أن يجرؤوا على كلام الله فيحرفوه لا تنتظر من دهمائها أن يكونوا خيراً منهم حالا أو أسعد مآلا .
وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب ، والالتواء واللجاجة ، والكيد والدس ، والقسوة والجدب ، والتمرد والفسوق . .
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ ) . .
كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي . صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة ، ولا يلين لها ممس ، ولا تنبض فيها حياة . . وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية . . وفي ظل هذا التصوير ، وظل هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور . . يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة ، وبالقنوط من الطمع :
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ ) . .
إلا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء . فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء . وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله . تحرفه عن علم وإصرار . فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة ، تتحرج من هذا التحريف والالتواء .
والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون ، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه ، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته . لا عن جهل بحقيقة مواضعه ، ولكن عن تعمد للتحريف ، وعلم بهذا التحريف . يدفعهم الهوى ، وتقودهم المصلحة ، ويحدوهم الغرض المريض ! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد [ ص ] وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام - ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم ، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا دعوة الإسلام ، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب !
هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تَعبدون } [ البقرة : 83 ] فجميع الجمل من قوله تعالى : { أفتطمعون } إلى قوله : { وإذ أخذنا } داخلة في هذا الاستطراد .
والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي على جملة { ثم قست } [ البقرة : 74 ] أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم فكأنَّه قيل : فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فَاعْجَبُوا من طمعكم ، وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } [ البقرة : 87 ] .
والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس ، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل { أَنْ } .
فإن قلت ، كيف يُنهى عن الطمع في إيمانهم أو يُعَجَّب به والنبيء والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائماً ؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق عِلْمِ الله بعدم وقوعه ؟
قلت : إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضاً ، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفساً نيّرة فتنفعها ، فإن استبعاد إيمانه حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلكَ المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما عَلِمَ الله عدَم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جواباً واضحاً وهو أن الله تعالى وإن عَلِمَ عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما عَلمه فيه والأوامر الشرعية لم تجئ بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أُمر مع علم الله بأنه لا يؤمن ، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة التكليف بما علم الله عدم وقوعه ، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعدَ ذلك حظ .
واللام في قوله : { لكم } لتضمين { يؤمنوا } معنى يُقِرُّوا وكأنَّ فيه تلميحاً إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [ البقرة : 146 ] الآية فما أبدعَ نسج القرآن . ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل { يؤمنوا } مُنزَّلاً منزلة اللازم تعريضاً بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم .
وقوله : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } جملة حالية هي قيدُ إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد عُلل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما عَلِمْناه ، والثانية بالتقييد بما عَلَّمَنَاه .
وقوله : { فريق منهم } يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أو من الحاضرين في زمن نزول الآية .
وسماعهم كلامَ الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده . أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام . وأيًّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم .
والتحريف أصله مصدر حَرَّف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق ، ولمَّا شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق . قال الأشتر :
بقَّيْتُ وفْرى وانحرفتُ عن العُلا *** ولَقِيتُ أَضْيَافِي بوَجْهٍ عَبُوسٍ
ومن فروع هذا التشبيه قولهم : زَاغ ، وحاد ومَرق ، وألْحَد وقوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } [ الحج : 11 ] . فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به ، إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف .
وقوله : { وهم يعلمون } حال من { فريق } وهو قيد في القَيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون ، وأن قوماً توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحداً وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث ، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها ، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم ، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائمهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغاً شنيعاً فاعلم أن العامة أفظع وأشنع ، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع .