تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

فجاءت أخت موسى ، فقالت لهم : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }

{ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا } وهو القبطي لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها ، وجد رجلين يقتتلان ، واحد من شيعة موسى ، والآخر من عدوه قبطي { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } فدعا الله وسأله المغفرة ، فغفر له ، ثم فر هاربا لما سمع أن الملأ طلبوه ، يريدون قتله .

فنجاه الله من الغم من عقوبة الذنب ، ومن القتل ، { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } أي : اختبرناك ، وبلوناك ، فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك ، وأطوارك ، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه ، حين أرادوا قتله ، فتوجه إلى مدين ، ووصل إليها ، وتزوج هناك ، ومكث عشر سنين ، أو ثمان سنين ، { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي : جئت مجيئا قد مضى به القدر ، وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان ، ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا ، وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام ، ولهذا قال : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

ثم بين - سبحانه - المنة الرابعة على موسى فقال : { إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ . . . } .

وكان ذلك بعد أن التقط آل فرعون موسى من فوق الشاطىء ، وبعد أن امتنع عن الرضاعة من أى امرأة سوى أمه .

أى : وكان من مظاهر إلقاء محبتى عليك ، ورعايتى لك ، أن أختك بعد أن أمرتها أمك بمعرفة خبرك ، سارت فى طرقات مصر فأبصرتك فى بيت فرعون وأنت تمتنع عن الرضاعة من أى امرأة ، فقالت أختك لفرعون وامرأته { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } .

أى : ألا تريدون أن أرشدكم إلى امرأة يقبل هذا الطفل الرضاعة منها ، وتحفظه وترعاه ، والفاء فى قوله : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ } هى الفصيحة . أى : التى تفصح عن كلام مقدر .

والمعنى : بعد أن قالت أختك لفرعون وامرأته : هل أدلكم على من يكفله . أجابوها بقولهم : دلينا عليها ، فجاءت بأمك فرجعناك إليها كى تسر برجوعك ، ويمتلىء قلبها فرحا بلقائها بك بعد أن ألقتك فى اليم ، ولا تحزن بسبب فراقك عنها .

ثم حكى - سبحانه - المنة الخامسة فقال : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } وكان ذلك عندما استنصر به رجل من قومه على رجل من أعدائه .

أى : وقتلت نفسا هى نفس القبطى ، عندما استعان بك عليه الإسرائيلي فنجيناك من الغم الذى نزل بك بسبب هذا القتل .

قال الآلوسى : وقد حل له هذا الغم من وجهين : خوف عقاب الله - تعالى - حيث لم يقع القتل بأمره - سبحانه - وخوف القصاص ، وقد نجاه الله من ذلك بالمغفرة حين قال : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } وبالمهاجرة إلى مدين .

والغم فى الأصل : ستر الشىء ، ومنه الغمام لستره ضوء الشمس . ويقال : لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود . .

وقوله - عز وجل - : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } بيان للمنة السادسة التى امتن الله - تعالى - بها على موسى - عليه السلام - .

والفتون : جمع فَتْن كالظنون جمع ظن . والفتن : الاختبار والابتلاء تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم جودته من رداءته .

والمعنى : واختبرناك وابتليناك - يا موسى - بألوان من الفتن والمحن .

ونظم - سبحانه - هذا الفتن والاختبار فى سلك المنن ، باعتبار أن الله - تعالى - ابتلاه بالفتن ثم نجاه منها ، ونجاه من شرورها .

وقد ساق الإمان ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية حديثا طويلا سماه بحديث الفتون ، ذكر فيه قصة مولد موسى ، وإلقائه فى اليم ، وتربيته فى بيت فرعون ، وقتله القبطى ، وهروبه إلى مدين ، وعودته منها إلى مصر . وتكليف الله - تعالى - له بالذهاب إلى فرعون ، ودعوته إلى عبادة الله وحده . . . الخ .

وقوله - تعالى - : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } أى : فلبثت عشر سنين فى قرية أهل مدين ، تعمل كأجير عند الرجل الصالح . ثم جئت بعد ذلك إلى المكان الذى ناديتك فيه { على قَدَرٍ } أى على وفق الوقت الذى قدرناه لمجيئك ، وحددناه لتكليمك واستنبائك ، دون أن تتقدم أو تتأخر ، لأن كل شىء عندنا محدد ومقدر بوقت لا يتخلف عنه .

قال - تعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقال - سبحانه - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وقال - عز وجل - : { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

ولم أحطك في قصر فرعون ، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف . بل جمعتك بها وجمعتها بك :

( إذ تمشي أختك فتقول : هل أدلكم على من يكفله ? فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ) . .

وكان ذلك من تدبير الله إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات . وفرعون وزوجه وقد تبنيا الطفل الذي ألقاه اليم بالساحل - مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر - يبحثان له عن مرضع . فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم : هل أدلكم على من يكفله ? وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها . وهكذا يتم تدبير الله للطفل وأمه التي سمعت الإلهام فقذفت بفلذة كبدها في التابوت ، وقذفت بالتابوت في اليم ، فألقاه اليم بالساحل . ليأخذه عدو لله وله ، فيكون الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف ، وتكون النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني إسرائيل . بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس ولا معين !

ومنة أخرى : ( وقتلت نفسا فنجيناك من الغم ، وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى . واصطنعتك لنفسي ) . .

ذلك حين كبر وشب في قصر فرعون ، ثم نزل المدينة يوما فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والآخر مصري ، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعا . ولم يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه . فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة - وهو المصنوع على عين الله منذ نشأته ؛ وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه . . فربه يذكره هنا بنعمته عليه ، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم . ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد ؛ فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص ? وامتحنه بالغربة ومفارقة الأهل والوطن ؛ وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم ، وهو الذي تربى في قصر أعظم ملوك الأرض ، وأكثرهم نزفا ومتاعا وزينة . .

وفي الوقت المقدر . عندما نضج واستعد ، وابتلى فثبت وصبر ؛ وامتحن فجاز الامتحان . وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر ، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه . .

في ذلك الوقت المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين ، وهو يظن أنه هو جاء : ( فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ) .

جئت في الوقت الذي قدرته لمجيئك . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

{ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فجعناك غلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن }

وأخت موسى : مريم ابنة عمران . وفي التّوراة : أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج . وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صِين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد . وذلك سنة 1417 قبل المسيح .

وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل تُصنَعَ . وقرأه أبو جعفر بسكون اللاّم على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني ، أي وقلنا : لتصنع .

وقوله على عيني } ( على ) منه للاستعلاء المجازي ، أي المصاحبة المتمكنة ، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .

والعَين : مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى : { واصنع الفلك بأعيننا } [ هود : 37 ] ، وقول النابغة :

عهدتك ترعاني بعينٍ بصيرة *** وتبعثُ حُراساً عليّ وناظِرا

وقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته ، وفصّلت في سورة القصص .

والاستفهام في { هَلْ أدُلُكُمْ } للعَرْض . وأرادت ب { مَن يَكْفُلُهُ } أمّه . فلذلك قال { فرجعناك إلى أُمِّكَ } .

وهذه منّة عليه لإكمال نمائه ، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلاّ ساعات قلائل ، أكرمها الله بسبب ابنها .

وعطفُ نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة ، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها . وانتفاءَ حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى . وتقديم قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن ؛ روعي فيه مناسبة تعقيب { فرجعناك إلى أُمِّكَ } بما فيه من الحكمة ، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول : { هل أدلكم على من يكفله في بيتها ، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة ، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج .

{ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى }

جملة { وقَتَلْتَ } عطف على جملة { ولقد منّنا عليك مرة أخرى } لأنّ المذكور في جملة { وقتلت نفساً } منّة أخرى ثالثة .

وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة ، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة ، وهي قتل النّفس ليكون لقوله { فنجيناك } موقع عظيم من المنّة ، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثلُه .

وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص .

والغمّ : الحزن . والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه ، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين ، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم . ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك .

والفُتون : مصدر فَتن ، كالخُروج ، والثُبور ، والشُكور ، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو { فتنّاك } ، وتنكيرهُ للتعظيم ، أي فتوناً قويّاً عظيماً .

والفتون كالفتنة : هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته . وتقدّم عند قوله تعالى : { والفتنة أشدّ من القتل } في سورة البقرة ( 191 ) . ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر ، فيكون في الشرّ وفي الخير . وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ . ويظهر أن التنوين في فتوناً للتقليل ، وتكون جملة { وفتناك فُتُوناً } كالاستدراك على قوله { فنجيناك مِنَ الغَمّ } ، أي نجيناك وحصل لك خوف ، كقوله { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب } [ القصص : 18 ] فذلك الفتون .

والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى : { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب إلى قوله : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقّب قال رب نجنّي من القوم الظالمين } [ القصص : 18 21 ] .

وذكر الفتون بين تعداد المن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى ، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم تَرِد إليهم دعوة إلهية حينئذ . فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلَى موسى بالخوف والغربة عتاباً له على إقدامه على قتل النفس ، كما قال في الآية الأخرى : { قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } [ القصص : 15 16 ] . وعباد الله الذين أراد بهم خيراً ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالاً يكسبونه ، ويُسمى مثل ذلك بالابتلاء ، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئةَ ضمير لتحمّل المصاعب ، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام . ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله { فَلِبثْتَ سِنينَ في أهلِ مَديَنَ ثمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يامُوسى } فبين له كيف كانت عاقبة الفتون .

أو يكون الفتون مشتركاً بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] ، أي واختبرناك اختباراً ، والاختبار : تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر ، ولهذا اختير هنا دون الفتنة .

وأهل مدين : قوم شعيب . ومَدْيَن : اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيْكة على شاطىء البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة ، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علماً للمكان فمن ثمّ أضيف إليه ( أهل ) . وقد تقدم في سورة الأعراف .

ومعنى { جئتَ } حضرتَ لدينا ، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي .

و ( على ) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن ؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه .

والقدَر : تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة ، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل ، قال النّابغة :

فريع قلبي وكانتْ نظرةً عرضت *** يوماً وتوفيق أقدار لأقدار

أي موافقة ما كنتُ أرغبه .

فقوله { ثم جئت على قدر يا موسى } يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً ، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله ، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير .

فهذا تقدير خاص ، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه .

وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات ، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام . وقد انتبَه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز :

أتى الخلافة إذْ كانت له قَدراً *** كما أتَى ربّه موسى على قَدَر