{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
لما أمر تعالى بالتقوى ، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره ، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج ، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله ، لا منسوبا إلى حذق العبد ، والوقوف مع السبب ، ونسيان المسبب ، فإن هذا هو الحرج بعينه .
وفي قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور :
أحدها : الوقوف بعرفة ، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج ، فالإفاضة من عرفات ، لا تكون إلا بعد الوقوف .
الثاني : الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ، وهو المزدلفة ، وذلك أيضا معروف ، يكون ليلة النحر بائتا بها ، وبعد صلاة الفجر ، يقف في المزدلفة داعيا ، حتى يسفر جدا ، ويدخل في ذكر الله عنده ، إيقاع الفرائض والنوافل فيه .
الثالث : أن الوقوف بمزدلفة ، متأخر عن الوقوف بعرفة ، كما تدل عليه الفاء والترتيب .
الرابع ، والخامس : أن عرفات ومزدلفة ، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها ، وإظهارها .
السادس : أن مزدلفة في الحرم ، كما قيده بالحرام .
السابع : أن عرفة في الحل ، كما هو مفهوم التقييد ب " مزدلفة "
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي : اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال ، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فهذه من أكبر النعم ، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان .
ثم بين - سبحانه - أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود بالزاد المادي متى توافرت التقوى ، فقال - تعالى - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } .
الجناح : أصله من جنح الشيء إذا مال : يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها والمراد بالجناح هنا الإِثم والذنب ، لأنه لما كان الإِثم يميل بالإِنسان عن الحق إلى الباطل سمى جناحاً .
والابتغاء : الطلب بشدة ، وجملة { أَن تَبْتَغُواْ } في موضع جر بتقدير في .
والفضل : الزيادة وتكون في الخير والشر إلأا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول .
والمراد به هنا : المال الحلال المكتسب عن طريق التجارة المشروعة أو غيرها من وجوه الرزق الحلال .
أي : لا إثم ولا حرج عليهكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيباً عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج .
وقد ذكر المفسرون أن الناس كانوا يتحاشون من التجارة في الحج ، حتى إنهم كانوا يتجنبون البيع والشراء في العشر الأوائل من ذي الحجة ، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك .
روى البخاري عن ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعظام متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإِسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } .
وقال ابن كثير : وروى الإِمام أحمد عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نُكْرَى فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وترمون الجمخار وتحلقون رءوسكم وتقضون المناسك قال : قلت بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " أنتم حجج " .
فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلأى ذلك في موسم الحج ، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله .
ثم قال - تعالى - : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } .
الفاء في قوله : فإذا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج . . } وأفضتم . اندفعتم بكثرة متزاحمين . وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضاً فانتشر وسال من حافتي الوادي والإِناء والإِفاضة في الحديث الاندافع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ومنه قوله - تعالى - { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق .
والتقدير : أفضتم أنفسكم فحذف المفعول للعلم به .
والمراد : خروجهم من عرفات بشيء ، من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة .
وعرفات : اسم للجبل المعروف ، قيل سمي بذلك لأن الناس يتعارفون به فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم .
وقد اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأكبر ففي الحديث الشريف " الحج عرفة " ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة .
قال القرطبي : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد ذلك قبل الزوال . وأجمعوا على تمام الحج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس فإنه قال : لابد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه . والحجة للجمهور مطلق قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } : فإنه لم يختص ليلا من نهار . وحديث عروة بن مضرس قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جَمْع - أي من المزدلفة - قلت : يا رسول الله ، جئتك من جبل طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي . . فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهاراً فقد تم "
ومن في قوله : { مِّنْ عَرَفَاتٍ } ابتدائية . أي ، فإذا أفضتم خارجين من عرافت إلى المشعر الحرام .
والمشعر الحرام : هو المزدلفة وقيل هو موضع بها . والمشعر : اسم مشتق من الشعور أي : العلم ، أو من الشعار أي : العلامة .
ووصف المشعر بوصف الحرام لأنه من أرض الحرم ، وهو منسك له حرمة وتقديس .
والمزدلفة من الازدلاف وهو القرب وسميت بذلك لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من منى .
وتسمى المزدلفة - أيضاً - " جَمْع " لاجتماع الناس في هذا المكان أو جمعهم فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير . وتسمى كذلك " قزح " .
ويرى الحنفية والشافعية أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن ، ومن فاته لا يبطل حجه ويجب عليه دم .
ويرى أكثر المالكية أن الوقوف بها سنة مؤكدة .
ويرى بعض التابعين وبعض الشافعية أن الوقوف بها ركن كالوقوف بعرفات .
والمعنى : فإذا سرتم - يا معشر الحجاج - من عرفات متدافعين متزاحمين متجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله - تعالى - بالتلبية والتهليل والدعاء بقلوب مخبتة ، ونفوس صافية ، لأن ذكر الله - تعالى - في تلك المواطن المقدسة والأوقات الفاضلة من شأنه أن يرفع الدرجات ، ويوصل إلى أعلا المقامات .
ثم قال - تعالى - : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } الكاف للتشبيه : ومعنى التشبيه في مثل هذا التركيب المشابهة في التساوي في الحسن والكمال . كما تقول : اخدمه كما أكرمك تعني : لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه .
والمعنى : اذكروا الله - تعالى - ذكراً حسناً مماثلا لهدايته لكم ، وأنتم تعلمون أن هذه الهداية شأنها عظيم فبسببها خرجتم من الظلمات إلى النور ، فيجب عليهكم أن تكثروا من ذكر الله ومن الثناء عليه .
قال الآلوسي : و " ما " تحتمل أن تكون مصدرية فمحل { كَمَا هَدَاكُمْ } النصب على المصدرية ، بحذف الموصوف . أي : ذكراً مماثلا لهداكم . . . وتحتمل أن تكون كافلة فلا محل لها من الإِعراب . والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة ، لذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها . وقيل : إن الكاف للتعليل ، وما مصدرية . أي ، اكذروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه - تعالى - لكم .
و { وَإِن } في قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } هي المخففة من الثقيلة والضمير في { مِّن قَبْلِهِ } يعود إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية وما دخلت عليه .
والمراد بالضلال هنا : الجهل بالإِيمان وبالتكاليف التي كلف الله بها عباده .
أي : اذكروا الله - تعالى - ذكراً مشابهاً لهدايته لكم ، وإنكم لولا هذه الهداية لهلكتم فأكثروا من ذكره وشكره عليها .
ثم يمضي في بيان أحكام الحج وشعائره ، فيبين حكم مزاولة التجارة أو العمل بأجر بالنسبة للحاج . وحكم الإفاضة ومكانها . وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها :
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم ) . .
قال البخاري - بإسناده - عن ابن عباس . قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية . فتأثموا أن يتجروا في الموسم . فنزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم )في مواسم الحج .
وروى أبو داود - بإسناده من طريق آخر - إلى ابن عباس . قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ، يقولون : أيام ذكر . فأنزل الله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . .
وفي رواية عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نكري . فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون بالمعروف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي [ ص ] فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .
وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر [ رواها ابن جرير ] قال : قلت : يا أمير المؤمنين . كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
وهذا التحرج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة ، والتحرج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء أو العمل بأجر في الحج . . هو طرف من ذلك التحرج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغا في الجاهلية ، وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه . وهي الحالة التي تحدثنا عنها في أوائل هذا الجزء ، عند الكلام عن التحرج من الطواف بالصفا والمروة .
وقد نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج ، وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله :
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . .
ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق : إنه لا يرزق نفسه بعمله . إنما هو يطلب من فضل الله ، فيعطيه الله . فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة ؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله ، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق . ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه ، وهو يبتغي الرزق ، فهو إذن في حالة عبادة لله ، لا تتنافى مع عبادة الحج ، في الاتجاه إلى الله . . ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء . . وكل حركة منه عبادة في هذا المقام .
لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج ، فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام :
( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج . . روى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير ، عن عطاء ، عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي . قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " . .
ووقت الوقوف بعرفة من الزوال [ الظهر ] يوم عرفة - وهو اليوم التاسع من ذي الحجة - إلى طلوع الفجر من يوم النحر . . وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد ، وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة . استنادا إلى حديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي . عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال : " أتيت رسول الله [ ص ] بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل طيء . أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه . فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله [ ص ] : " من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه " .
وقد سن رسول الله [ ص ] للوقوف هذا الوقت - على أي القولين - ومد وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النحر - وهو العاشر من ذي الحجة - ليخالف هدي المشركين في وقوفهم بها . . روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي - بإسناده - عن المسور ابن مخرمة قال : " خطبنا رسول الله [ ص ] وهو بعرفات . فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال : أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر . ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها . وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ، مخالفا هدينا هدي أهل الشرك " . .
والذي ورد عن فعل رسول الله [ ص ] أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة ، وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله - في صحيح مسلم - " فلم يزل واقفا - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس وبدتالصفرة قليلا ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله [ ص ] وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " كلما اتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا . ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام . فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " . .
وهذا الذي فعله رسول الله [ ص ] هو الذي تشير إليه الآية :
( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
والمشعر الحرام هو المزدلفة . والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات . ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم ؛ وهو مظهر الشكر على هذه الهداية . ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم :
( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها . . لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال . . ضلال في التصور ، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة ، ونسبة بنوة الملائكة إلى الله ، ونسبة الصهر إلى الله مع الجن . . إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة ، التي كانت تنشىء بدورها اضطرابا في العبادات والشعائر والسلوك : من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة . ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها . ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة . . وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية . . تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) إلى إزالتها كما سيجيء . وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تكن تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي . وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية ، والعلاقات الزوجية ، وعلاقات الأسرة بصفة عامة . وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع . . وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام .
( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ؛ ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام ، والذي هداهم الله إليه بهذا الدين ، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال . .
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل . . من هم بغير الإسلام ؟ وما هم بغير هذه العقيدة ؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام ، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم . ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا ، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي . . وإن البشرية كلها لتتيهفي جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي . . لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان ، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة ، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال !
وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي ، على البشرية كلها في جميع تصوراتها ، وجميع مناهجها ، وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا ، ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث ، ومن عنت ومن شقوة ، ومن ضآلة ، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله ! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله !
فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين ، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } ( 198 )
وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح } الآية ، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر ، و { تبتغوا } معناه تطلبون بمحاولتكم .
وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء : إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة ، فأباح الله تعالى ذلك ، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح( {[1881]} ) .
وقال مجاهد : «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون ، فنزلت الآية في إباحة ذلك » .
وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج : «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء » ، وقرأ ابن ( {[1882]} )عباس وابن مسعود وابن الزبير : «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج » .
وقوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات } أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس ، فإنه قال : «لا بد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه » وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة ، ومنه أفاض الرجل في الكلام ، ومنه فاض الإناء ، وأفضته ، ومنه المفيض في القداح ، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل النون ، فإذا سميت به شخصاً ترك ، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به ، فإن كان { عرفات } اسماً تلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه ، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به( {[1883]} ) ، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفاتِ » دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف ، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة ، وسميت تلك البقعة { عرفاتَ } لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له ، قال السدي .
وقال ابن عباس : «سميت بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام : هذا موضع كذا ، فيقول قد عرفت » ، وقيل : سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك( {[1884]} ) ، وفيها يقول الشاعر :
تزودت من نعمان عود أراكة . . . لهند ولكن من يبلغه هندا ؟( {[1885]} )
و { المشعر الحرام } جمع كله ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة( {[1886]} ) ، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد ، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر ، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنة ، بفتح الراء وضمها ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، والمزدلفة كلها مشعر ، وارتفعوا عن بطن محسر »( {[1887]} ) وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته ، وفي المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه ، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم .
وقال مالك : «من مر به ولم ينزل فعليه دم » ،
وقال الشافعي : «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم ، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه » ؟ .
وقال الشعبي والنخعي : من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج .
وقوله : { واذكروه كما هداكم } تعديد للنعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام ، والكاف في { كما } نعت لمصدر محذوف و[ ما ] مصدرية أو كافة( {[1888]} ) ، و { إن } مخففة من الثقيلة ، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، هذا قول سيبويه .
وقال الفراء : «هي النافية( {[1889]} ) بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ » والضمير في { قبله } عائد على الهدي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يحجون منهم الحاج والتاجر، فلما أسلموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كانت تقوم قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا قبل الحج وبعد الحج، فأنزل الله عز وجل: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}: في مواسم الحج، يعني التجارة، فرخص الله سبحانه في التجارة.
{فإذا أفضتم من عرفات}: بعد الغروب، {فاذكروا الله}: تلك الليلة {عند المشعر الحرام}، فإذا أصبحتم، يعني بالمشعر حيث يبيت الناس بالمزدلفة، فاذكروا الله، {واذكروه كما هداكم}: لأمر دينه. {وإن كنتم من قبله}: من قبل أن يهديكم لدينه {لمن الضالين} يعني عن الهدى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ليس عليكم أيها المؤمنون جناح. والجناح: الحرج... عن ابن عباس:"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ": وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.
"أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ": أن تلتمسوا فضلاً من عند ربكم، يقال منه: ابتغيت فضلاً من الله ومن فضل الله أبتغيه ابتغاء: إذا طلبته والتمسته، وبغيته أبغيه بغيا...وقيل: إن معنى ابتغاء الفضل من الله: التماس رزق الله بالتجارة، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البرّ بذلك، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا برّ في ذلك وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء...عن مجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ": قال: في الموسم.
حدثنا طليق بن محمد الواسطي، قال: أخبرنا أسباط، قال: أخبرنا الحسن بن عمرو، عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري فهل لنا حجّ؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعروف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم؟ فقلنا: بلى. قال: جاء رجل إلى النبي: صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ} إلى آخر الآية، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنْتُمْ حُجّاجٌ».
"فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ": فإذَا أفَضْتُمْ فإذا رجعتم من حيث بدأتم...
واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات عرفات؛ فقال بعضهم: قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سباسب، فتجمع بما حولها. وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها. وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلاً، وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف.
{فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ}: فإذَا أفَضْتُمْ فكررتم راجعين من عرفة إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه، فاذْكُرُوا اللّهَ يعني بذلك الصلاة، والدعاء عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ. وقد بينا قبل أن المشاعر هي المعالم من قول القائل: شعرت بهذا الأمر: أي علمت، فالمشعر هو المَعْلَم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحجّ وفروضه التي أمر الله بها عباده...عن ابن أبي نجيح، قال: يستحبّ للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال: فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هَدَاكُمْ.
فأما المشعر فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مَأزِمي عرفة إلى محسر، وليس مأزما عرفة من المشعر.
{وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضالّينَ}: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه، والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحقّ وبعد الضلالة كذكره إياكم بالهدى، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله: كمَا هَدَاكُمْ.
وأما قوله: "وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالّينَ "فإن من أهل العربية من يوجه تأويل «إن» إلى تأويل «ما»، وتأويل اللام التي في «لَمِنَ» إلى «إلا».
فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه إلا من الضالين. ومنهم من يوجه تأويل «إن» إلى «قد»، فمعناه على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الإفاضة هي: الإسراع في المشي في اللغة، وقيل: الإفاضة: الانحدار...
وقوله: {واذكروه كما هداكم}: يحتمل وجوها:
يحتمل الأمر بالذكر أمرا بالشكر على ما أنعم عليه من أنواع النعم.
ويحتمل: {اذكروه كما هداكم} وأرشدكم لأمر المناسك.
ويحتمل الأمر بالتوحيد؛ كأنه قال: وحدوه كما وفقكم لدينه. وعلى هذا يخرج قوله: {وإن كنتم من قبله لمن الضالين}: عن الهدى وعن المناسك وعن معرفة النعم والشكر، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: معناه فإذا رجعتم من حيث بَدَأْتُم.
والثاني: أن الإفاضة: الدفع عن اجتماع، كفيض الإناء عن امتلاء.
والثالث: أن الإفاضة الإسراع من مكان إلى مكان...
واختلفوا في تسمية المكان عرفة على أربعة أقاويل:
والرابع: أنه سُمِّيَ بذلك لعلو الناس فيه، والعرب تسمي ما علا (عرفة) و (عرفات)، ومنه سُمِّيَ عُرف الديك لعلوه...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
مزدلفة هي المشعر الحرام وذِكْرُ الله تعالى عندها فرض يعصي من خالفه ولا حج له، لأنه لم يأت بما أمر إلا أن إدراك صلاة الفجر فيها مع الإمام هو الذكر المفترض ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {ليس عليكم جناح} الآية، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر.
و {تبتغوا}: معناه تطلبون بمحاولتكم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْإِفَاضَةُ: السُّرْعَةُ بِالدَّفْعِ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا دَفْعٌ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِفَاضَةِ، وَالْإِسْرَاعُ هَيْئَةٌ فِي الْإِفَاضَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَعَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ». وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَنَّهُ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ»...
{مِنْ عَرَفَاتٍ}: مَوْضِعٌ مَعْلُومُ الْحُدُودِ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ». وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت: جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْت نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ»...
هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ، فَقَالَ: «هَذَا قُزَحُ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ، وَجَمْعٌ، كُلُّهَا مَوْقِفٌ»...
اعلم أن الشبهة كانت حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه:
أحدها: أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج.
وثانيها: أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية، فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية
وثالثها: أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سببا لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سببا لحرمة التجارة مع قلة الحاجة إليها كان أولى
ورابعها: عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلا عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج، فلهذا السبب بين الله تعالى ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة...
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء، خمسة منها مختصة به، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره،
أما الخمسة الأولى فأحدها: عرفة، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مشتق من المعرفة،...
في اشتقاق عرفة أنه من الاعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والاستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة...
والقول الثالث:... أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى: {يدخلهم الجنة عرفها لهم} أي طيبها لهم، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة، قال عليه الصلاة والسلام: « خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» الثاني: يوم إياس الكفار من دين الإسلام
وهو أيضا يوم وفد الوافدين {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا} وفي الخبر « الحاج وفد الله، والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره»...
واعلم أن الوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به فمن فاته الوقوف في وقته وموضوعه فقد فاته الحج ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس من يوم عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار فقد كفى...
[و] الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج، وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به فلم يكن آتيا بالحج المأمور به... وسائر الفقهاء...اتفقوا على أن الحج لا يحصل إلا بالوقوف بعرفة...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج؛ حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر، وحتى سمّوا من تولّى متجرا في الحج: الداج دون الحاج؛ فأباح الله ذلك؛ وعلى إباحة ذلك، دل قوله: {وأذّن في الناس بالحج}... إلى قوله {ليشهدوا منافع لهم} وقوله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}...
قال بعض الأئمة: ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا، لأنه مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم، ومندرجا تحت قوله: (خذوا عني مناسككم)، فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله عز وجل: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} متصل بما قبله موقع الاستدراك والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى وعمل البر والخير وهو خير الزاد، ثم من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضا بأن غير المتقي لا لب له ولا عقل، وهو أن أيام الحج لا يباح فيها غير أعمال البر والخير، فيحرم فيها ما كانت عليه العرب في الجاهلية من التجارة والكسب في الموسم، كما يحرم الرفث والفسوق والجدال الذي هو من لوازم التجارة غالبا، والترفه بزينة اللباس المخيط والحلق والإفضاء إلى النساء، فأزال هذا الوهم من الفهم وعلمنا أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور لأنه لا ينافي الإخلاص له في هذه العبادة، وإنما الذي ينافي الإخلاص هو أن يكون القصد إلى التجارة، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحج. هذا ما عليه الجماهير... وقال الأستاذ الإمام: كان بعض المشركين وبعض المسلمين في أول الإسلام يتأثمون في أيام الحج من كل عمل حتى كانوا يقفلون حوانيتهم، فعلمهم الله تعالى أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص، وقال إن قوله تعالى: {من ربكم} يشعر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضل من الله تعالى نوع من أنواع العبادة، ويروى أن سيدنا عمر قال في هذا المقام لسائل: وهل كنا نعيش إلا بالتجارة؟
أقول لكن قال بعض العلماء إن نفي الجناح يقتضي أن هذه الإباحة رخصة وأن الأولى تركها في أيام الحج. وهذا لا ينافي ما قاله إذا أريد بأيام الحج الأيام التي تؤدي فيها المناسك بالفعل لا كل أيام شوال وذي القعدة وذي الحجة أو عشره الأول، وذلك أن لكل وقت عبادة لا تزاحمها فيها عبادة أخرى كالتلبية للحجاج والتكبير في أيام العيد والتشريق، والتلبية عند الإحرام في الصلاة، وهو ذكر الحج الخاص الذي يكرر في أثنائه إلى انتهاء الوقوف بعرفة أو إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يستحب التكبير، وللعلماء خلاف في التحديد...
والمعنى أنه يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام فيها بالدعاء والتكبير والتهليل والتلبية، وقيل بصلاة العشاءين جميعا، وليس هو المتبادر بل قالوه لينطبق على قولهم الأمر للوجوب مع قولهم إن الذكر هناك غير واجب.
(وأقول): الظاهر أنه واجب للآية وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيان المناسك مع قوله: (خذوا عني مناسككم) أو (لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لا أحج بعد حجتي هذه) هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث جابر (رض) وهو كقوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) فكل ما التزمه صلى الله عليه وسلم في صلاته فهو واجب مبين لما أجمل في كتاب الله وأما المسنون من أعماله فما لم يلتزمه وما صحت فيه الرخصة عنه كقوله (وقفت هنا وعرفة كلها موقف ومنى كلها منحر) وفي حديثه عنده أيضا (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى مطلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء "أي ناقته المجدوعة وهذا اسمها وهو بالفتح والقصر ويمد "حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس) الحديث وهو دليل على أن المشعر الحرام هو قزح وأن الذكر غير صلاة العشاءين جمعا. والبيت بمزدلفة "وتسمى جمعا" من جملة المناسك. قال الأستاذ الإمام: أمر بالذكر عند المشعر الحرام للاهتمام به لأنهم ربما تركوه بعد المبيت ولم يذكر المبيت لأنه كان معروفا لا يخشى التهاون فيه والقرآن لم يبين كل المناسك بل المهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الباقي بالعمل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}.. ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق: إنه لا يرزق نفسه بعمله. إنما هو يطلب من فضل الله، فيعطيه الله. فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق. ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه، وهو يبتغي الرزق، فهو إذن في حالة عبادة لله، لا تتنافى مع عبادة الحج، في الاتجاه إلى الله.. ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء.. وكل حركة منه عبادة في هذا المقام. لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج، فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام ...
... وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل.. من هم بغير الإسلام؟ وما هم بغير هذه العقيدة؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم. ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي.. وإن البشرية كلها لتتيه في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي..
[و] لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال! وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي، على البشرية كلها في جميع تصوراتها، وجميع مناهجها، وجميع نظمها -بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا، ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا- حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث، ومن عنت ومن شقوة، ومن ضآلة، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي -فيما يدعي- أنه لم يعد في حاجة إلى إله! أو لم يعد على الأقل -كما يزعم- في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله!... فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى: {واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و إباحة طلب المال في الحج لا يقتصر على الاتجار الأحادي، أو طلب المال من الآحاد فقط، بل يشمل العمل على التبادل الجماعي، ونمو الاقتصاد بين الأقاليم الإسلامية، فأهل الخبرة بشؤون المال من الحجاج يتصل بعضهم ببعض من الأقاليم المختلفة، ويعرف أهل كل إقليم ما عند الآخرين من فاضل الرزق الذي تخرجه أرض الله، وما ينقصهم من أسباب الحياة، ويتبادلون الفائض، ويسدون النقص وهو ما يسمى في لغة العصر الحاضر التبادل التجاري، فيعم الخير، ولا يكون إقليم من الأقاليم الإسلامية في نقص من الموارد،و آخر في الكثير منها. و هذه تكون إحدى منافع الحج المادية التي اشتمل عليها قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} (الحج 28) لقد قال بعض العلماء: إن الاتجار وطلب المال هو من قبيل الرخصة، لأن الله لم يطلبه بل نفى الإثم، فقد قال: [ليس عليكم جناح] ونفي الإثم يشير إلى أنه عفو، لا مباح، أي أن الأولى تركه، ونحن نخالف أصحاب هذا الرأي لأن الرخصة تقتضي أن تكون هناك عزيمة مانعة من الكسب، ولم يقم دليل على منع الكسب، فيبقى على الإباحة الأصلية، وجاءت الآية الكريمة مؤكدة لهذه الإباحة بنفي الإثم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ الذين يتوهمون أن الاتجار مانع من الحج، ولا يكون الفعل من قبيل العفو إلا إذا كان موضعه غير مباح، ولكنه لأحوال خاصة نفى الإثم نحو كل لهو باطل إلا لعب الرجل بقوسه..إلخ.
وطلب المال الحلال أمر مباح بإطلاق، ولقد قال رجل لعمر رضي الله عنه: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟...
فما نفى عنه الإثم هنا ذكر فائدة هناك، فكان مشروعا على سبيل الإباحة من الآحاد، وأحسب أنه مطلوب على سبيل الوجوب من الجماعات الإسلامية، فهو من قبيل المباح من الجزء المطلوب بالكل، أي أنه مباح للآحاد أن يتجروا في الحج، وواجب على جماعات كل إقليم وأهل الخبرة منهم أن يقيموا أسباب التبادل التجاري، فالحج فرصته المهيأة لهم، ولا فرصة سواه، أو تبلغ درجته...
{فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} الفاء هنا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله تعالى: [فمن فرض فيهن الحج...197] (البقرة) إلخ.. و إذا كان الخطاب للصحابة الأولين فعلى غيرهم أن يعرف فضل الهداية،و إن لم يسبقها ضلال،فليذكر الله إذ وفقه من أول الأمر، وكان في الإمكان أن يكون من الضالين. و إن جعلنا الخطاب في الآية لجماعة المسلمين عامة الماضين واللاحقين الذين توارثوا الهداية الإسلامية ولم يسبق إليهم شرك، ولم يكونوا من أهل الوثنية، يكون الذكر لأن الله جنبهم إياها، فباعد عنهم أسبابها، فإن معنى الهداية هو إنقاذ نفوسهم من وساوس الشيطان، فإن له على كل قلب لمة، فإن أصابت من كتب الله عليه الضلال انحدر فيه، وإن أصابت من كتب الله عليه الهداية تذكر الله وعظمته، فساق الله إليه هدايته، ويكون المعنى اذكروا الله سبحانه وتعالى ذكرا مساويا لهدايتكم مشابها لها، وبقدرها، وإنكم لولا هذه الهداية كنتم من الحائرين، ولولا نور الحق لبقيتم في حيرتكم أو لسرتم في مخارف الشيطان...
ولما كان الله سبحانه بسعة لطفه ورحمته يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة أن يتعاون الناس، أذن لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين تيسيراً لهم. ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يرخص الله لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم؟ لأن تلك مصلحة ضرورية. فهب أن الناس جميعا امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضا فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج، والله -سبحانه وتعالى- بيّن ذلك ووضحه بقوله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين 198}...
وهو جل شأنه يريد منك ألا يكون في عملك المباح حرج؛ فنفى الجناح عنه؛ فأنت قد جئت ومعك الأكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول، فلا يكون فيه شائبة ظلم كالاستغلال لحاجة الحجيج، لذلك أسماه (فضلاً) يعني أمرا زائداً عن الحاجة...
وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل لا يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل، فكله من عند الله. إياك أن تقول: قوة أسباب، وإياك أن تقول: ذكاء أو احتياط، فلا شيء من ذلك كله؛ لأن الرزق كله من الله هو فضل من الله. ولا ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب؛ لأنه هو الخالق وهو المربي. ونحن مربوبون له، فلا غضاضة أن تطلب الفضل من الله...