تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } أي : تعالت عظمته وتقدست أسماؤه ، { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } فعلموا من جد الله وعظمته ، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا ، لأن له العظمة والكمال{[1244]}  في كل صفة كمال ، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك ، لأنه يضاد كمال الغنى .


[1244]:- في ب: والجلال.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

قد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذى ، عن ابن عباس أنه قال : " انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : مالكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا لشئ حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربهما ، فمر النفر - من الجن - الذى أخذوا نحو تهامة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا إليه وقالوا : هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء " .

فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا آحدا ، وأنزل الله - تعالى - على نبيه { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .

وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتانى داعى الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن . . "

وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها : أنه لما مات أبو طالب ، خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإِيمان . . فأغروا به سفهاءهم ، يسبونه ويستهزئون به . .

فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - هو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه ، فلما فرغ من صلاته ، ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله - تعالى - خبرهم عليه . .

وهناك روايات أخرى فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم . .

ويبدو لنا من مجموع الروايات ، أن لقاء النبى صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد ، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم ، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن .

قال الآلوسى : وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات فى عددهم وفى غير ذلك . وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين .

.

قال القرطبى : واختلف أهل العلم فى أصل الجن . فعن الحسن البصرى : أن الجن ولد إبليس ، والإِنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء فى الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .

وعن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس . .

وقال بعض العلماء : عالم الجن من العوالم الكونية ، كعالم الملائكة وقد أخبر الله - تعالى - أنه خلقه من مارج من نار ، أى : أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه ، أى : بصورته الجبلية ، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ، كما رئى جبريل حين تشكل بشكل آدمى .

وأخبر - سبحانه - بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة . وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل . .

وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، وأن منهم شياطين متمردين ، ومن هؤلاء إبليس اللعين .

ولم يختلف أهل الملل فى وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا فى حقيقتهم ، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس ، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجوبة ، وكثير منها لا يرى بالحواس . ألا ترى الروح - وهى مما لا شك فى وجودها فى الإِنسان والحيوان - لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها . .

وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، كما بعث إلى الإِنس ، فدعاهم إلى التوحيد ، وأنذرهم وبلغهم القرآن ، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا فى القرآن والسنة . .

وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقول الناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن . فقال : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .

وفى هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شئ هام ، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه ، والامتثال للمأمور به ، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به .

والنفر : الجماعة من واحد إلى عشرة ، وأصله فى اللغة الجماعة من الإِنس فأطلق على الجماعة من الجن وعلى وجه التشبيه .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، إن الله - تعالى - قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل : أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن . .

فقالوا - على سبيل الفرح والإِعجاب لما سمعوا - : { إِنَّا سَمِعْنَا } من الرسول صلى الله عليه وسلم { قُرْآناً عَجَباً } أى : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن ، بديع الأسلوب ، عظيم القدر .

هذا القرآن { يهدي إِلَى الرشد } أى : إلى الخير والصواب والهدى { فَآمَنَّا بِهِ } إيمانا حقا ، لا يخالطه شك أو ريب { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أى : فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ولن نشرك معه فى العبادة أحدا كائنا من كان هذا الحد .

والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، دعوة مشركى قريش إلى الإِيمان بالحق الذى جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به ، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإِنس .

وضمير " أنه " للشأن ، وخبر " أن " جملة { استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، وتأكيد هذا الخبر بأن ، للاهتمام به لغرابته . ومفعول " استمع " محذوف لدلالة قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } عليه .

ووصفهم للقرآن بكونه { قُرْآناً عَجَباً . يهدي إِلَى الرشد } يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا ، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن ، وأسلوبه الحكيم ، ومعانيه البديعة . . ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله : { فَآمَنَّا بِهِ . . . } .

والتعبير بقوله - تعالى - : { فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا . . } يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، أو لإِخوانهم الذين رجعوا إليهم ، كما فى قوله - تعالى - فى سورة الأحقاف : { قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ويحتمل أنهم قالوا ذلك فى أنفسهم على سبيل الإِعجاب ، كما فى قوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك ، لأن هذا هو الذى يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم ، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به .

ثم حكى - سبحانه - أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به ، أخذوا فى الثناء على الخالق - عز وجل - فقال حكاية عنهم : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } .

ولفظ " وأن " قد تكرر فى هذه السورة الكريمة أكثر من عشرمرات ، تارة بالإِضافة إلى ضمير الشأن ، وتارة بالإِضافة إلى ضمير المتكلم .

ومن القراء السبعة من قرأة بفتح الهمزة ، ومنهم من قرأه بكسرها ، فمن قرأ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور فى قوله { فَآمَنَّا بِهِ . . . } فكأنه قيل : فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا . . ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكى بعد القول ، أى : قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، وقالوا : إنه تعالى جد ربنا . .

قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } قرأه حمزة والكسائى وأبو عامر وحفص بفتح " أنّ " وقرأه الباقون بالكسر .

وتلخيص هذا أن " أنّ " المشددة فى هذه السورة على ثلاثة أقسام : قسم ليس معه واو العطف ، فهذا لا لخلاف بين القراء فى فتحه أو كسره ، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع . . . } لا خلاف فى فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } لا خلاف فى كسره لأنه محكى بالقول .

القسم الثانى أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف فى فتحها ، وهى قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ . . . } وهذا هو القسم الثالث . والثانية وهى قوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله . . . } كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون .

والاثنتا عشرة الباقية ، فتحها بعضهم ، وكسرها بعضهم وهى قوله : - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } وقوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ . . . . } { وَأَنَّا ظَنَنَّآ . . . } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ . . . } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ . . . } { وَأَنَّا لَمَسْنَا . . . } { وَأَنَّا كُنَّا . . . } { وَأَنَّا لاَ ندري . . . . } { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون . . . } { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى . . . } { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } .

وقوله : { تعالى } من التعالى وهو شدة العلو . و { جَدُّ رَبِّنَا } الجد - بفتح الجيم - العظمة والجلال .

قال القرطبى : الجد فى اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد فى عيوننا . أى : عظم . فمعنى جد ربنا : عظمته وجلاله .

وقيل معنى " جد ربنا . . " غناه ، ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود ، أى : محظوظ . وفى الحديث : " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أى : ولا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما تنفعه الطاعة . .

وجملة { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } بيان وتفسير لما قبله .

أى : آمنا به - سبحانه - إيمانا حقا ، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده ، وصدقنا - أيضا - أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا ، وتنزه فى ذاته وصفاته ، عن أن يكون له شريك فى ملكه . أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد ، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين .

وفى هذا القول من هذا النفر من الجن ، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله - تعالى - ، وأنهم - أى الملائكة - جاءوا عن طريق مصاهرته - سبحانه - للجن ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

( وأنه تعالى جد ربنا ، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) . .

والجد : الحظ والنصيب . وهو القدر والمقام . وهو العظمة والسلطان . . وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام . والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات !

وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن ! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه ، واستنكاف من هذا التصور أن يكون ! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون ! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين ! وكل تصور يشبه هذه التصورات ، ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

وقرأ عيسى «إلى الرُّشد » ومن كسر الألف من قوله «وإنه تعالى »فعلى القطع ويعطف الجملة على قوله { إنا سمعنا } ، ومن فتح الألف من قوله «وأنه تعالى » اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم هي عطف على { إنه استمع } ، فيجيء على هذا قوله { تعالى } مما أمر أن يقول إنه أوحي إليه وليس يكون من كلام الجن ، وفي هذا قلق .

وقال بعضهم بل هي عطف على الضمير في { به } فكأنه يقول فآمنا به وبأنه تعالى . وهذا القول ليس في المعنى ، لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض وذلك لا يحسن . وقرأ جمهور الناس «جدُّ ربنا » بفتح الجيم وضم الدال وإضافته إلى الرب ، وقال جمهور المفسرين معناه عظمته .

وروي عن أنس أنه قال : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران ، جد في أعيننا أي عظم . وقال أنس بن مالك والحسن : { جد ربنا } معناه ، فهذا هو من الجد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد »{[11359]} ، وقال مجاهد : ذكره كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة ، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر والصفات العلية والعظمة ، ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة : «يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون »{[11360]} أي حظكم من الخيرات وبختكم . وقال علي بن الحسين رضي الله عنه وأبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس ليس لله جد ، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن ، جعلوا الله جداً أبا أب . قال كثير من المفسرين هذا قول ضعيف . وقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } يدفعه ، وكونهم فيما روي على شريعة متقدمة وفهمهم للقرآن . وقرأ محمد بن السميفع اليماني «جِد ربنا » وهو من الجد والنفع . وقرأ عكرمة «جَدٌّ ربُّنا » بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف «ربنا » بدل والجد العظيم في اللغة . وقرأ حميد بن قيس{[11361]} «جُد ربنا » بضم الجيم . ومعناه ربنا العظيم حكاه سيبويه وبإضافته إلى الرب فكأنه قال عظيم ، وهذه إضافة تجديد يوقع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف ، كما تقول جاءني كريم زيد تريد زيداً الكريم ويجري مجرى هذا عند بعضهم .

قول المتنبي [ البسيط ]

عظيم الملك في المقل{[11362]}*** أراد الملك العظيم قال بعض النحاة ، وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير ، وقرأ عكرمة أيضاً «جَداً ربُّنا » بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع الرب ونصب «جداً » على التمييز كما تقول تفقأت شحماً{[11363]} وتصببت عرقاً ، وقرأ قتادة «جِداً ربُّنا » بكسر الجيم ورفع الباء وشد الدال ، فنصب جداً على الحال ومعناه تعالى حقيقة ومتمكناً .

وهذا معنى غير الأول ، وقرأ أبو الدرداء «تعالى ذكر ربنا » ، وروي عنه «تعالى جلال ربنا » .


[11359]:أخرجه البخاري في الأذان والاعتصام والقدر والدعوات، ومسلم في الصلاة والمساجد، وأبو داود في الصلاة والوتر والأدب، والترمذي في الصلاة، والنسائي في السهو، والدارمي في الصلاة، ومالك في القدر من موطئه، وأحمد في مسنده (3/87، 4/93، 97، 98، 101)، ولفظه كما جاء فيه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، ومعنى ذلك أن من كان له حظ في الدنيا لم ينفعه ذلك الحظ في الآخرة.
[11360]:جاء هذا في حديث طويل عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري في مناقب الأنصار عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
[11361]:هو حميد بن قيس المكي الأعرج، أبو صفوان القاريء قال عنه في "تقريب التهذيب" ليس به بأس، وعده من الطبقة السادسة، وقال: إنه مات سنة ثلاثين، وقيل: بعدها.
[11362]:هذا جزء من بيت قاله المتنبي في قصيدة له وردت في الديوان تحت عنوان: (أنا الغريق فما خوفي من البلل)؟ وهي قصيدة قالها في مدح سيف الدولة، والبيت بتمامه: مطاعة اللحظ في الألحاظ مالكة لمقلتيها عظيم الملك في المقل واللحظ: النظر بجانب العين من الخارج، والمقلة: العين، يصف جمال عينيها ونظراتها فيقول: إن لحظها مطاع بين ألحاظ النساء الحسان، إذا دعا أحدا إلى هواها أجاب مطيعا، فهي مالكة بين ذوات القناع تعلوهن جمالا ودلالا، ومقلتاها مالكتان في دولة المقل لهما من دون هذه الدولة الأمر النافذ، وابن عطية يستشهد بأن كلمة "عظيم" صفة لكلمة "الملك" وهي مضافة إليها، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف، ولقد اعترض بعض النحاة على ذلك بما ذكر المؤلف.
[11363]:الفقء: الشق، يقال: فقأ الثمرة فقأ: شقها ، وتفقؤا مصدر تفقأ، ومعنى تفقأت شحما: امتلأت شحما حتى تشقق جلدي.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأنه تعالى جد ربنا} ارتفع ذكره وعظمته.

{ما اتخذ صاحبة} يعني امرأة {ولا ولدا}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛

فقال بعضهم: معناه: آمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته.

وقال آخرون: عني بذلك جلال ربنا وذكره.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعالى غنى ربنا.

وقال آخرون: عُنِي بذلك: ذِكْره.

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسلطانه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدّ في كلام العرب معنيين: أحدهما الجَدّ الذي هو أبو الأب، أو أبو الأم، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم قد قالوا: فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، ومن وصف الله بأن له ولدا أو جدّا هو أبو أب أو أبو أمّ، فلا شكّ أنه من المشركين.

والمعنى الآخر: الجَدّ الذي بمعنى الحظّ يقال: فلان ذو جدّ في هذا الأمر إذا كان له حظّ فيه، وهو الذي يُقال له بالفارسية «البَخْت»، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم: وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا إن شاء الله. وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية، فلا يكون له صاحبة ولا ولد، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجن: علا مُلكُ ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وِقاع شيء يكون منه ولد. وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نزّهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: "وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا ما اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدا".

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

الحق ألا نتكلف تفسير قوله: {جد ربنا} ههنا لأنه حكاية عن مقالة الجن. فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بأخبار الجن.

ثم الشرك في ما جرى به الكتاب على أوجه أربعة:

مرة على العبادة بقوله عز وجل: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [بالكهف: 110] وشرك في الخلق بقوله عز وجل: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} [الرعد: 16] وشرك في الحكم بقوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26].

وشرك في الملك بقوله: {ولم يكن له شريك في الملك} [الإسراء: 111و..].

فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة ومرة في العباد ومرة في الملك ومرة في الحكم.

فهم بقولهم: {ولن نشرك بربنا أحدا} تبرؤوا من الشرك في هذه الأوجه الأربعة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته، أو لسلطانه وملكوته أو لغناه. وقوله: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيان لذلك.

وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. وروي في أعيننا، أي: عَظُمَ.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وأنه تعالى جد ربنا، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا).. والجد: الحظ والنصيب. وهو القدر والمقام. وهو العظمة والسلطان.. وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام. والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله -سبحانه- وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة -أي زوجة- وولدا بنين أو بنات! وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه، واستنكاف من هذا التصور أن يكون! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين! وكل تصور يشبه هذه التصورات، ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير!