تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } من الأقدار { وَيُثْبِتُ } ما يشاء منها ، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله ، أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء ، فهو أصلها ، وهي فروع له وشعب .

فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب ، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة ، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا ، لا تتعدى تلك الأسباب ، ما رسم في اللوح المحفوظ ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق ، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر ، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة ، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب ، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته ، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته ، وسعة علمه ، وعظيم حكمته فقال : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } .

وقوله : { يمحوا } من المحو وهو إذهاب أثر الشئ بعد وجوده .

وقوله : { ويثبت } من المحو وهو إذهاب أثر الشئ بعد وجوده .

وقوله : { ويثبت } من الإِثبات وهو جعل الشئ ثابتا قارا في مكان ما .

وأم الكتاب : أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب : اللوح المحفوظ ، أو علمه - سبحانه - المحيط بكل شئ .

قال الفخر الرازى : " والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشئ أمٍّا له ومنه أمٌّ الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكل مدينة فهى أُم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب " .

والمعنى : يمحو الله - تعالى - ما يشاء محوه ، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة ، ومن الصحة أو المرض ، ومن الغنى أو الفقر ، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه .

وعنده - سبحانه - الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون .

قال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ . . . } وقال - تعالى - : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } وللمفسرين في معنى هذه الآية كلام طويل ، لخصه الإِمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال :

قوله - سبحانه - : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، وظاهر النظم القرآنى العموم في كل شئ مما في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر . . ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم .

وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة . وقيل يمحو ما يشساء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب .

وقيل " يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه . . والأول أولى كما تفيده " ما " في قوله " ما يشاء " من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله " لكل أجل كتاب " ومع قوله " وعنده أم الكتاب " أى أصله وهو اللوح المحفوظ .

فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجرى فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته .

وهذا لا ينافى ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " جفَّ القلم " وذلك لأن المحو والإِثبات هو من جملة ما قضاه - سحبانه - .

وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله - تعالى - : بما خلق وبما هو خالق .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

19

( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) .

فما انقضت حكمته يمحوه ، وما هو نافع يثبته . وعنده أصل الكتاب ، المتضمن لكل ما يثبته وما يمحوه . فعنه صدر الكتاب كله ، وهو المتصرف فيه ، حسبما تقتضي حكمته ، ولا راد لمشيئته ولا اعتراض .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

وقوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «ويثبّت » بشد الباء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ويثبت » بتخفيفها .

وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ ، والذي يتخلص به مشكلها : أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل ، وهي التي ثبتت في { أم الكتاب } وسبق بها القضاء ، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم ، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها ، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها -ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك ، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت . وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث ، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم .

وقالت فرقة - منها الحسن - هي في آجال بني آدم ، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر ، وقيل : - في ليلة نصف شعبان - يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى . وقال قيس بن عباد : العاشر من رجب هو يوم { يمحو الله ما يشاء ويثبت } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له ، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاماً في جميع الأشياء ، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها ، أعني ما من شأنه أن يغير -على ما قدمناه - فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها{[6982]} . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما : اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت .

قال القاضي أبو محمد : وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها . أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة ، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا ، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك .

وقيل : إن هذه الآية نزلت لأن قريشاً لما سمعت قول الله تعالى : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } ، قال : ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ ، فنزلت { يمحو الله ما يشاء ويثبت } أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن .

وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : معنى الآية «يمحو الله ما يشاء ويثبت » من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها .

قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو ما أحلناه أولاً في الآية .

وحكي عن فرقة أنها قالت : «يمحو الله ما يشاء ويثبت » من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئاً . وقالت فرقة معناه : يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد ، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة .

وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعباً قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : وما هي ؟ قال : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } . وذكر أبو المعالي في التلخيص : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب .

قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي لا يصح عن علي .

واختلفت أيضاً عبارة المفسرين في تفسير { أم الكتاب } فقال ابن عباس : هو الذكر ، وقال كعب : هو علم الله ما هو خالق ، وما خلقه عاملون{[6983]} .

قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يفسر به { أم الكتاب } أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل ، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت - قال نحوه قتادة - وقالت فرقة : معنى { أم الكتاب } الحلال والحرام - وهذا قول الحسن بن أبي الحسن .


[6982]:قال القرطبي: "مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب، ويوقف عنده،وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم"، وهو بهذا يؤيد كلام ابن عطية، وأبو حيان يقول: "الظاهر أن المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام، والإثبات عبارة عن دوامها وتقررها وبقائها، أي: يمحو ما يشاء محوه، ويثبت ما يشاء إثباته". ورأيه يوافق رأي الزمخشري، وقتادة ـ هذا وللمفسرين آراء كثيرة في معنى المحو والإثبات ذكر منها ابن عطية أهمها.
[6983]:وقد روي هذا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أيضا، فقد سئل عن "أم الكتاب" فقال: "علم الله ما هو خالق، و ما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، و لا تبديل في علم الله".