{ وَبَرَزُوا } أي : الخلائق { لِلَّهِ جَمِيعًا } حين ينفخ في الصور فيخرجون من الأجداث إلى ربهم فيقفون في أرض مستوية قاع صفصف ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ويبرزون له لا يخفى [ عليه ] منهم خافية ، فإذا برزوا صاروا يتحاجون ، وكل يدفع عن نفسه ، ويدافع ما يقدر عليه ، ولكن أني لهم ذلك ؟
فيقول { الضُّعَفَاءُ } أي : التابعون والمقلدون { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم : المتبوعون الذين هم قادة في الضلال : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي : في الدنيا ، أمرتمونا بالضلال ، وزينتموه لنا فأغويتمونا ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ولو مثقال ذرة ، { قَالُوا } أي : المتبوعون والرؤساء { أغويناكم كما غوينا } و { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } فلا يغني أحد أحدا ، { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا } من العذاب { أَمْ صَبَرْنَا } عليه ، { مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي : من ملجأ نلجأ إليه ، ولا مهرب لنا من عذاب الله .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانباً من الحوار الذى يدور يوم القيامة بين الضعفاء والمستكبرين ، بين الأتباع والمتبوعين . . فقال - تعالى - : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ . . . }
وقوله { وبرزوا } من البروز بمعنى الظهور ، مأخوذ من البراز وهو الفضاء الواسع ، الذى يظهر فيه الناس بدون استتار . أى : وخرج الكافرون جميعاً من قبورهم يوم القيامة وظهوراً ظهوراً لا خفاء معه ، لكى يحاسبهم - سبحانه - على أعمالهم فى الدنيا .
وقال - سبحانه - { وبرزوا } بلفظ الفعل الماضى مع أن الحديث عن يوم القيامة ، للتنبيه على تحقق وقوع هذا الخروج ، وأنه كائن لا محالة .
وعبر - سبحانه - بهذا التعبير ، مع أنهم لا يخفون عليه سواء أبرزوا أم لم يبرزوا ، لأنهم كانوا فى الدنيا يستترون عن العيون عند اجتراحهم السيئات ويظنون أن ذلك يخفى على الله - عز وجل - .
ثم بين - سبحانه - ما سيقوله الضعفاء للمستكبرين فى هذا الموقف العصيب فقال :
{ فَقَالَ الضعفاء } وهم العوام والأتباع الذين فقدوا نعمة التفكير ، ونعمة حرية الإِرادة ، فهانوا وذلوا . .
قال هؤلاء الضعفاء { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم السادة المتبوعون الذين كانوا يقودون أتباعهم إلى طريق الغى والضلال .
{ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ } - أيها السادة - { تبعا } جمع تابع كخادم وخدم .
أى : إنا كنا فى الدنيا تابعين لكم ، ومنقادين لأمركم ، فى تكذيب الرسل ، وفى كل ما تريدونه منا .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } للتقريع والتفجع .
ومغنون من الإِغناء بمعنى الدفاع والنصرة .
قال الشوكانى : " يقال : أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع " .
أى : فهل أنتم - أيها المستكبرون - دافعون عنا شيئا من عذاب الله النازل لنا ، حتى ولو كان هذا الشئ المدفوع قليلا ؟ إن كان فى إمكانكم ذلك فاظهروه لنا ، فقد كنتم فى الدنيا سادتنا وكبراءنا ، وكنتم تزعمون أنكم أصحاب الحظوة يوم القيامة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : أى فرق بين " من " فى { مِنْ عَذَابِ الله } وبينه فى { مِن شَيْءٍ } ؟
قلت : الأولى للتنبيه ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشئ الذى هو عذاب الله ؟ ويجوز أن يكون للتبعيض معا بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شئ ، هو بعض عذاب الله ؟ أى : بعض بعض عذاب الله " .
ثم حكى - سبحانه - رد المستكبرين على المستضعفين فقال : { قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ . . . }
أى : قال المستكبرون - بضيق وتحسر - فى ردهم على المستضعفين : لو هدانا الله - تعالى - إلى الإِيمن الموصل إلى النجاة من هذا العذاب الأليم { لهديناكم } إليه ، ولكن ضللنا عنه وأضللناكم معنا ، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا .
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .
والجزع : حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده لشدة اضطرابه وذهوله .
يقال : جزع فلان يجزع جزعا وجزوعا ، إذا ضعف عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا .
والمحيص : المهرب والمنجى من العذاب . يقال : حاص فلان عن الشئ يحيص حيصا ومحيصا ، إذا عدل عنه على وجه الهرب والفرار .
أى : مستو عندنا الجزع مما نحن فيه من عذاب ، أو الصبر على ذلك ، وليس لنا من مهرب أو منجى من هذا المصير الأليم .
فالآية الكريمة تحكى أقوال الضعفاء يوم القيامة ، وهى أقوال يبدو فيها طابع الذلة والمهانة كما هو شأنهم فى الدنيا ، كما تحكى رد المستكبرين عليهم ، وهو رد يبدو فيه التبرم والتفجع والتأنيب من طرف خفى لهؤلاء الضعفاء ، والتسليم بالواقع الأليم الذى لا محيص لهم عنه .
قال الإِمام ابن كثير : " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما إدراك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله - تعالى - ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك . فعند ذلك قالوا : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .
ثم نرقي إلى أفق آخر من آفاق الإعجاز في التصوير والأداء والتنسيق . فلقد كنا منذ لحظة مع الجبارين المعاندين . ولقد خاب كل جبار عنيد . وكانت صورته في جهنم تخايل له من ورائه وهو بعد في الدنيا . فالآن نجدهم هناك ، حيث يتابع السياق خطواته بالرواية الكبرى - رواية البشرية ورسلها - في المشهد الأخير . وهو مشهد من أعجب مشاهد القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين . وبين الشيطان والجميع :
( وبرزوا لله جميعا - فقال الضعفاء للذين استكبروا : إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟ قالوا ؛ لو هدانا الله لهديناكم . سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال الشيطان لما قضي الأمر : إن الله وعدكم وعد الحق ، ووعدتكم فأخلفتكم ؛ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم . )
( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها بإذن ربهم ، تحيتهم فيها سلام ) .
لقد انتقلت الرواية . . رواية الدعوة والدعاة ، والمكذبين والطغاة . . انتقلت من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة :
الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين . ومعهم الشيطان . . ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات . . برزوا( جميعا )مكشوفين . وهم مكشوفون لله دائما . ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون لا يحجبهم حجاب ، ولا يسترهم ساتر ، ولا يقيهم واق . . برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار ، وبدأ الحوار :
( فقال الضعفاء للذين استكبروا : إنا كنا لكم تبعا . فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ؟ ) . .
والضعفاء هم الضعفاء . هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ؛ وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة . ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله . والضعف ليس عذرا ، بل هو الجريمة ؛ فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا ، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارها . والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية ، ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد ، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . اما الضمير . أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها ، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال !
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة ، وفي التفكير ، وفي السلوك ؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله ، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ؟ لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة . فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة ، ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما . . كلا ، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء . . إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان !
إن المستضعفين كثرة ، والطواغيت قلة . فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ؟ وماذا الذي يخضعها ؟ إنما يخضعها ضعف الروح ، وسقوط الهمة ، وقلة النخوة ، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان !
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير . فهي دائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان !
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء . . وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة ! !
والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم :
( إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء )? . .
وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم ؟ !
أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة ، وتعريضهم إياهم للعذاب ؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال !
ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال :
( قالوا : لو هدانا الله لهديناكم ! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ! ) . .
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق :
( لو هدانا الله لهديناكم ) . .
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد ؟ إننا لم نهتد ونضللكم . ولو هدانا الله لقدناكمإلى الهدى معنا ، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال ! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله . فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها ، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار . وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله . . والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه : إن الله لا يأمر بالفحشاء . . ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي ، فيعلنونهم بأن لاجدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر . فقد حق العذاب ، ولا راد له من صبر أو جزع ، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ؛ وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله . لقد انتهى كل شيء ، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص :
{ وبرزوا لله جميعا } أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو { لله } على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش ويظنون أنها تخفى على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم ، وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقيق وقوعه . { فقال الضعفاء } الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف الرأي ، وإنما كتبت بالواو على لفظ من بفخم الألف قبل الهمزة في فيمليها إلى الواو . { للذين استكبروا } لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم . { إنا كنا لكم تبعا } في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم ، وهو جمع تابع كغائب وغيب ، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف . { فهل أنتم مغنون عنا } دافعون عنا . { من عذاب الله من شيء } من الأولى للبيان واقعة موقع الحال ، والثانية للتبغيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله ، والأعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا ، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء . { قالوا } أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذار عما فعلوا بهم . { لو هدانا الله } للإيمان ووفقنا له . { لهديناكم } ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، أو لو هدنا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له ، لكن سد دوننا طريق الخلاص . { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } مستويان علينا الجزع والصبر . { ما لنا من محيص } منجى ومهرب من العذاب ، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار ، وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت ومصدرا كالمغيب ، ويجوز أن يكون قوله { سواء علينا } من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون { سواء علينا } .
{ برزوا } معناه ، صاروا بالبراز ، وهي الأرض المتسعة كالبراح والقواء والخبار{[7044]} فاستعير ذلك لجمع يوم القيامة .
وقولهم { تبعاً } يحتمل أن يكون مصدراً ، فيكون على نحو قولهم : قول عدل ، وقوم حرب ، ويحتمل أن يكون جمع تابع ، على غائب وغيب ، وهو تأويل الطبري .
وفسر الناس { الضعفاء } بالأتباع ، و «المستكبرين » بالقادة وأهل الرأي ، وقولهم { مغنون } من الغناء ، وهي المنفعة التي تكون من الإنسان للآخر في الدفاع وغيره ، وقوله : { أجزعنا } ألف التسوية ، وليست بألف استفهام ، بل هي كقوله : { آنذرتهم أم لم تنذرهم }{[7045]} [ البقرة : 6 ] و «المحيص » المفر والملجأ ، مأخوذ من حاص يحيص إذا نفر وفر ومنه في حديث هرقل : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب{[7046]} ، وروي عن ابن زيد وعن محمد بن كعب : أن أهل النار يقولون : إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله ، فتعال فلنصبر ، فيصبرون خمسمائة سنة ، فلا ينتفعون ، فيقولون هلم فنجزع ، فيضجون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى ، فلا ينتفعون ، فحينئذ يقولون هذا القول الذي في الآية{[7047]} ، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى .
عطف على جملة { إن يشأ يذهبكم } [ إبراهيم : 20 ] باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب ، وفي الكلام محذوف ، إذ التقدير : فأذْهَبهم وبرزوا لله جميعاً ، أي يوم القيامة .
وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ويبرزون لله ، فعدل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع ، مثل قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ سورة النحل : 1 ] .
والبروز : الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية . والمعنى : حشروا من القبور .
وجميعاً } تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيففٍ .
وقد جيء في هذه الآية بوصف حَال الفرق يوم القيامة ، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم ، ومجادلة الجميع للشيطان ، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك بنُزل الكرامة . والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات . فالمقصود : التحذير مما يفضي إلى سوء المصير .
واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل { برزوا } إلى المجرور . يقال : برز لفلان ، إذا ظهر له ، أي حضر بين يديه ، كما يقال : ظهر له .
والضعفاء : عوامّ الناس والأتباع . والذين استكبروا : السادة ، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة . والسين والتاء للمبالغة في الكبر . والتَبع : اسم جمع التابع مثل الخَدَم والخَوَل ، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم .
وموجب تقديم المسند إليه على المسند في { فهل أنتم مغنون عنا } أن المستفهم عنه كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغَناء عنهم ، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم . كما تدلّ عليه حكاية قول المستكبرين { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } ، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا ، فتعيّن أن الاستفهام مستعمل في التورّك والتوبيخ والتبكيت ، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا . فإيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي ، وبينه ما في نظيره من سورة غافر ( 47 ، 48 ) { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . و{ مِنْ } في قوله : { من عذاب الله } بدلية ، أي غناء بدلاً عن عذاب الله . .
و { مِنْ } في قوله : { من شيء } مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل . و { شيء } في معنى المصدر ، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جرّه بحرف الجر الزائد . والمعنى : هل تغنون عنا شيئاً .
وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورّطوا أنفسهم أيضاً ، أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا . وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بأنا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علماً بأن الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب .
وجملة { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } من كلام الذين استكبروا . وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلباً للخلاص من العذاب ، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون : لا يفيدنا جزع ولا صبر ، فلا نجاة من العذاب . فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين ، جمعوا أنفسهم إتماماً للاعتذار عن توريطهم .
والجزع : حزن مشوب باضطراب ، والصبر تقدم .
وجملة { ما لنا من محيص } واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء ، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجَزع والصبر .
والمحيص : مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة . يقال : حاص عنه ، أي نجا منه . ويجوز أن يكون اسمَ مكان من حاص أيضاً ، أي ما لنا ملجأ ومكان نَنْجو فيه .