{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ } يحتمل أنه قضى الأجل الواجب ، أو الزائد عليه ، كما هو الظن بموسى ووفائه ، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته ، ووطنه ، وعلم من طول المدة ، أنهم قد تناسوا ما صدر منه . { سَارَ بِأَهْلِهِ } قاصدا مصر ، { آنَسَ } أي : أبصر { مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } وكان قد أصابهم البرد ، وتاهوا الطريق .
ومضت السنوات العشر ، التى قضاها موسى أجيرا عند الشيخ الكبير فى مدين ، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه ، وتزوج موسى بإحدى ابنتى الشيخ الكبير ، وقرر الرجوع بأهله إلى مصر ، فماذا حدث له فى طريق عودته ؟ يحكى لنا القرآن الكريم بأسلوبه البديع ما حدث لموسى - عليه السلام - بعد ذلك فيقول : { فَلَمَّا قضى . . . . } .
المراد بالأجل فى قوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل . . } المدة التى قضاها موسى أجيرا عند الشيخ الكبير ، بجهة مدين .
والمعنى : ومكث موسى عشر سنين فى مدين ، فلما قضاها وتزوج بإحدى ابنتى الشيخ الكبير ، استأذن منه { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } أى وسار بزوجته متجها إلى مصر ليرى أقاربه وذوى رحمه ، أو إلى مكان آخر قيل : هو بيت المقدس .
{ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } ولفظ { آنَسَ } من الإيناس ، وهو إبصار الشىء ورؤيته بوضوح لا التباس معه ، حتى لكأنه يحسه بجانب رؤيته له .
أى : وخلال سيره بأهله إلى مصر ، رأى بوضوح و جلاء { مِن جَانِبِ الطور نَاراً } .
أى : رأى من الجهة التى تلى جبل الطور نارا عظيمة .
قال الآلوسى : " استظهر بعضهم أن المبصر كان ورا حقيقة ، إلا أنه عبر عنه بالنار ، اعتبارا لاعتقاد موسى - عليه السلام - ، وقال بعضهم : كان المبصر فى صور النار الحقيقية ، وأما حقيقته ، فوراء طور العقل ، إلا أن موسى - عليه السلام - ظنه النار المعروفة " .
وقوله - سبحانه - { قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً . . } حكاية لما قاله موسى - عليه السلام - لزوجته ومن معها عندما أبصر النار .
أى : عندما ابصر موسى النار بوضوح وجلاء { قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } فى مكانكم { إني آنَسْتُ نَاراً } على مقربة منى وسأذهب إليها .
{ لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } ينفعنا فى مسيرتنا ، { أَوْ } أقتطع لكم منها { جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } .
قال الجلم : قرأ حمزة : { أَوْ جُذْوَةٍ } بضم الجيم . وقرأ عامص بالفتح ، وقرأ الباقون بالكسر ، وهى لغات فى العود الذى فى رأسه نار ، هذا هو المشهور . وقيده بعضهم فقال : فى رأسه نار من غير لهب ، وقد ورد ما يقتضى اللهب فيه ، وقيلأ : الجذوة العود الغليظ سواء أكان فى رأسه نار أم لم يكن . وليس المراد هنا إلا ما فى رأسه نار .
وقوله : { تَصْطَلُونَ } من الاصطلاء بمعنى الاقتراب من النار للاستدفاء بها من البرد . والطاء فيه مبدلة من تاء الافتعال .
أى : قال موسى لأهله امكثوا فى مكانكم حتى أرجع إليكم ، فإنى أبصرت نارا سأذهب إليها ، لعلى آتيكم من جهتها بخبر يفيدنا فى رحلتنا ، أو أقتطع لكم منها قطعة من الجمر ، كى تستدفئوا بها من البرد .
قال ابن كثير ما ملخصه : وكان ذلك بعدما قضى موسى الأجل الذى كان بينه وبين صهره فى رعاية الغنم ، وسار بأهله . قيل : قاصدا بلاد مصر بعد أن طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته ، فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية . ونزل منزلا بين شعاب وجبال ، فى برد وشتاء ، وسحاب وظلام وضباب وجعل يقدح بزند معه ليورى نارا - أى : ليخرج نارا - كما جرت العادة به ، فجعل لا يقدح شيئا ، ولا يخرج منه شرر ولا شىء ، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا .
( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا . قال لأهله : امكثوا إني آنست نارا ، لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ) . .
ترى أي خاطر راود موسى ، فعاد به إلى مصر ، بعد انقضاء الأجل ، وقد خرج منها خائفا يترقب ? وأنساه الخطر الذي ينتظره بها ، وقد قتل فيها نفسا ? وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه ?
إنها اليد التي تنقل خطاه كلها ، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة ، وإلى الوطن والبيئة ، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا . ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى .
على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه ، ومعه أهله ، والوقت ليل ، والجو ظلمة ؛ وقد ضل الطريق ، والليلة شاتية ، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها ، ليأتي منها بخبر أو جذوة . . هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة .
{ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } بامرأته . روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشرا أخرى ثم عزم على الرجوع . { آنس من جانب الطور نارا } أبصر من الجهة التي تلي الطور . { قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر } بخبر الطريق . { أو جذوة } عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن
قال باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ***جزال الجذى غير خوار ولا دعر
وألقى على قبس من النار جذوة *** شديدا عليه حرها والتهابها
ولذلك بينه بقوله : { من النار } وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات .
وقوله تعالى { فلما قضى موسى الأجل } ، قال سعيد بن جبير سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى ، فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب أعني ابن عباس ، فقدمت عليه فسألته ، فقال قضى أكملهما وأوفاهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال وفى فعدت فأعلمت النصراني ، فقال صدق هذا والله العالم ، وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين ، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشراً وعشراً بعدها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وفي قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما قضى الأجل أراد أن يسير بأهله إلى مصر بلده وقومه وقد كان لا محالة أحس بالترشيح للنبوءة فسار وكان رجلاً غيوراً لا يصحب الرفاق ، فلما جاء في بعض طريقه في ليلة مظلمة مردة حرة قال النقاش كانت ليلة جمعة فقدوا النار وأصلد الزند{[9136]} وضلوا الطريق واشتد عليهم الخصر{[9137]} ، فبينا هو كذلك إذ رأى ناراً وكان ذلك نوراً من الله تعالى قد التبس بشجرة قال وهب كانت عليقاً وقال قتادة عوسجاً .
وقيل زعروراً ، وقيل سمرة ، قاله ابن مسعود و «آنس » معناه أحسن والإحساس هنا بالبصر ومن هذه اللفظة قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً }{[9138]}
[ النساء : 6 ] ومنها قول حسان : [ المنسرح ]
انظر خليلي بباب جلق هل ت . . . ونس دون البلقاء من أحد{[9139]}
وكان هذا الأمر كله في { جانب الطور } وهو جبل معروف بالشام ، و { الطور } كل جبل ، وخصصه قوم بأنه الذي لا ينبت فلما رأى موسى النار سر فقال لأهله أقيموا فقد رأيت ناراً { لعلي آتيكم منها بخير } عن الطريق أين هو { أو جذوة } وهي القطعة من النار في قطعة عود كبيرة لا لهب لها إنما هي جمرة ومن ذلك قول الشاعر : [ ابن مقبل ] : [ البسيط ]
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها . . . جزل الجذا غير خوار ولا دعر{[9140]}
قال القاضي أبو محمد : وأحسب أن أصل «الجذوة » أصول الشجر وأهل البوادي أبداً يوقدونها ، فتلك هي الجذوة حقيقة ، ومنه قول السلمي يصف الصلى{[9141]} : [ الطويل ]
حمى حب هذا النار حب خليلتي . . . وحب الغواني فهي دون الحبائب
وبدلت بعد البان والمسك شقوة . . . دخان الجذا في رأس أشحط شاحب{[9142]}
وقرأ الجمهور «جِذوة » بكسر الجيم ، وقرأ حمزة والأعمش «جُذوة » بضمها ، وقرأ عاصم «جَذوة » بفتحها ، وهي لغات والصلى حر النار ، و { تصطلون } تفتعلون منه أبدلت التاء طاء .
لم يذكر القرآن أي الأجلين قضى موسى إذ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة . وعن ابن عباس « قضى أوفاهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل » أي أن رسول الله المستقبل لا يصدر من مثله إلا الوفاء التام ، وورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ضعيفة الأسانيد أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل ما قال ابن عباس . والأهل من إطلاقه الزوجة كما في الحديث : " والله ما علمت على أهلي إلا خيراً " .
وفي سفر الخروج : أنه استأذن صهره في الذهاب إلى مصر لافتقاد أخته وآله . وبقية القصة تقدمت في سورة [ النمل : 7 ] إلا زيادة قوله : { آنس من جانب الطور ناراً } وذلك مساوٍ لقوله هنا ( إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً .
والجذوة مثلث الجيم ، وقرىء بالوجوه الثلاثة ، فالجمهور بكسر الجيم ، وعاصم بفتح الجيم وحمزة وخلف بضمها ، وهي العود الغليظ . قيل مطلقاً وقيل المشتعل وهو الذي في « القاموس » . فإن كان الأول فوصف الجذوة بأنها من النار وصف مخصص ، وإن كان الثاني فهو وصف كاشف ، و { من } على الأول بيانية وعلى الثاني تبعيضية .