{ 60 } { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يقول تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } أي : الزكوات الواجبة ، بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد ، لا يخص بها أحد دون أحد .
أي : إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم ، لأنه حصرها فيهم ، وهم ثمانية أصناف .
الأول والثاني : الفقراء والمساكين ، وهم في هذا الموضع ، صنفان متفاوتان ، فالفقير أشد حاجة من المسكين ، لأن اللّه بدأ بهم ، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم ، ففسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا ، أو يجد بعض كفايته دون نصفها .
والمسكين : الذي يجد نصفها فأكثر ، ولا يجد تمام كفايته ، لأنه لو وجدها لكان غنيا ، فيعطون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم .
والثالث : العاملون على الزكاة ، وهم كل من له عمل وشغل فيها ، من حافظ لها ، أو جاب لها من أهلها ، أو راع ، أو حامل لها ، أو كاتب ، أو نحو ذلك ، فيعطون لأجل عمالتهم ، وهي أجرة لأعمالهم فيها .
والرابع : المؤلفة قلوبهم ، والمؤلف قلبه : هو السيد المطاع في قومه ، ممن يرجى إسلامه ، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو جبايتها ممن لا يعطيها ، فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة .
الخامس : الرقاب ، وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم ، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم ، فيعانون على ذلك من الزكاة ، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا ، بل أولى ، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالا ، لدخوله في قوله : { وفي الرقاب }
السادس : الغارمون ، وهم قسمان :
أحدهما : الغارمون لإصلاح ذات البين ، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة ، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذله لأحدهم أو لهم كلهم ، فجعل له نصيب من الزكاة ، ليكون أنشط له وأقوى لعزمه ، فيعطى ولو كان غنيا .
والثاني : من غرم لنفسه ثم أعسر ، فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه .
والسابع : الغازي في سبيل اللّه ، وهم : الغزاة المتطوعة ، الذين لا ديوان لهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم ، من ثمن سلاح ، أو دابة ، أو نفقة له ولعياله ، ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه .
وقال كثير من الفقهاء : إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم ، أعطي من الزكاة ، لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه .
وقالوا أيضا : يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه ، [ وفيه نظر ]{[372]} .
والثامن : ابن السبيل ، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده ، فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم .
{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } فرضها وقدرها ، تابعة لعلمه وحكمه { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } واعلم أن هذه الأصناف الثمانية ، ترجع إلى أمرين :
أحدهما : من يعطى لحاجته ونفعه ، كالفقير ، والمسكين ، ونحوهما .
والثاني : من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به ، فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الأغنياء ، لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين ، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي ، لم يبق فقير من المسلمين ، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور ، ويجاهد به الكفار وتحصل به جميع المصالح الدينية .
قال الإِمام ابن كثير . لما ذكر الله - تعالى - اعتراض المنافقين الجهلة على النبى - صلى الله عليه وسلم - ولمزهم إياه في قسم الصدقات . بين - سبحانه - أنه هو الذي قسمها ، وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه أبو داود في سنته عن زيادة بن الحارث الصدائى قال . أتين النبى - صلى الله عليه وسلم - فبايعته .
فأتى رجل فقال . أعطنى من الصدقة فقال له . " إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره . في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك .
والمراد بالصدقات هنا - عند كثير من العلماء - الزكاة المفروضة .
ولفظ الصدقات . مبتدأ . والخبر محذوف ، والتقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء والمساكين . . إلخ .
والفقراء . جمع فقير ، وهو من له أدنى شئ من المال . أو هو من لا يملك المال الذي يقوم بحاجاته الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن .
يقال فقر الرجل - من باب تعب - إذا قل ماله .
قالوا : وأصل الفقير في اللغة : الشخص الذي كسر فقار ظهره ، ثم استعمل فيمن قل ماله لانكساره بسبب احتياجه إلى غيره .
أو هو من الفقرة بمعنى الحفرة ، ثم استعمل فيما ذكر لكونه أدنى حالا من اكثر الناس ، كما أن الحفرة أدنى من مستوى سطح الأرض المستوية .
والمساكين : جمع مسكين ، وهو من لا شئ له ، فيحتاج إلى سؤال الناس لسد حاجاته ومطالب حياته .
وهو مأخوذ من السكون الذي هو ضد الحركة ، لأن احتياجه إلى غيره أسكنه وأذله .
وقيل : المسكين هو الذي مال أو كسب ولكنه لا يكفيه ، وعلى هذا يكون قريب الشبه بالفقير .
وقوله : { والعاملين عَلَيْهَا } بيان للصنف الثالث من الأصناف الذين تجب لهم الزكاة .
والمارد بهم . من كلفهم الإِمام بجمع الزكاة وتحصيلها ممن يملكون نصابها .
ويدخل فيهم العريف ، والحاسب ، والكاتب ، وحافظ المال ، وكل من كلفه الإِمام أو نائبه بعمل يتعلق بجمع الزكاة او حفظها ، أو توزيعها .
وقوله . { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } بيان للصنف الرابع .
والمراد بهم الأشخاص الذين يرى الإِمام دفع شئ من الزكاة إليهم تأليفاً لقلوبهم ، واستمالة لنفوسهم نحو الإِسلام ، لكف شرهم ، أو لرجاء نفعهم ، وهم أنواع :
منهم قوم من الكفار ، كصفوان بن أمية ، فقد أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين ، وكان صفوان يومئذ كافراً ، ثم أسلم وقال : والله لقد أعطانى النبى - صلى الله عليه وسلم - وكان أبغض الناس إلى ، فما زال يعطينى . حتى أسلمت وإنه لأحب الناس إلى .
ومنهم قوم كانوا حديثى عهد بالإِسلام وكانوا من ذوى الشرف في أقوامهم فكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم ، ليثبت إيمانهم ، وليدخل معهم في الإِسلام أتباعهم .
ومن أمثلة ذلك ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، والزبرقان بن بدر ، فقد أعطاهم - صلى الله عليه وسلم - لمكانتهم في عشيرتهم ، ولشرفهم في أقوامهم . وليدخل معهم في الإِسلام غيرهم .
ومن أمثلة هذا الصنف العباس من مرداس السملى ، فقد أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - تأليفاً لقلبه ، وتثبيتاً لإِيمانه .
والخلاصة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يتألف قلوب بعض الناس بالعطاء ، دفعاً لشرهم ، أو أملا في نفعهم ، أو رجاء هدايتهم .
وقوله : { وَفِي الرقاب } بيان لنوع خامس من مصارف الزكاة . وفى الكلام مجاز بالحذف ، والتقدير : وتصرف الصدقات أيضا في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشئ منها علىأداء بدل الكتابة ؛ لكن يصروا أحراً . أو بأن يشترى بجز منها عدداً من العبيد لكى يعتقوا من الرق .
وذلك لأن الإِسلام يجب أتباعه في عتق الرقاب ، وفى مساعدة الأرقاء على أن يصيروا أحراراً .
وقوله : { والغارمين } من الغرم بمعنى الملازمة للشئ ومنه قوله . تعالى : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أى : عذاب جهنم كان ملازماً لأهلها من الكافرين .
والمراد بالغارمين : من لزمتهم الديون في غير مصعية لله ، ولا يجدون المال الذي يدفعونه لدائنيهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على سداد ديونهم .
وقوله : { وَفِي سَبِيلِ الله } بيان لنوع سابع من مصارف الزكاة .
والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة ، وجمعه سبل . وأضيف إلى الله تعالى للإِشارة إلى أنه هو السبيل الحق الذي لا يحرم حوله باطل ، وهو الذي يوصل السائر فيه إلى مرضاة الله ومثوبته .
أى : وتصرف الصدقات في سبيل الله ، يدفع جزء منها لمساعدة المجاهدين والغزاة والفقراء الذين خرجوا لإِعلاء كلمة الله .
قال بعض العلماء ما ملخصه : قال أبو حنيفة ومالك والشافعى . يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة . . لأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله هو الغزو ، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك .
وقال الإِمام أحمد : يجوز صرف سبيل الله إلى مريد الحج .
وقال بعضهم : يجوز صرف سبيل الله إلى طلبة العلم .
وفسره بعضهم بجميع القربات . فيخل فيه جميع الخير ، مثل تكفين الموتى ، وبناء القناطر ، والحصون ، وعمارة المساجد { وَفِي سَبِيلِ الله } عام في الكل . .
وقوله : { وابن السبيل } بيان للصنف الثامن والأخير من الأصناف الذين هم مصارف الزكاة .
والمراد بابن السبيل : المسافر المنقطع عن ماله في سفره . ولو كان غنياً في بلده ، فيعطى من الزكاة ما يساعده على بلوغ موطنه .
وقد اشترط العلماء لابن السبيل الذي يعطى من الصدقة ، أن يكون سفره في غير معصية الله . فإن كان في معصية لم يعط : لأن إعطاءه يعتبر إعانة له على المصعية ، وهذا لا يجوز .
وقد ألحقوا بابن السبيلن كل من غاب من ماله ، ولو كان في بلده .
وقوله . فريضة من الله ، منصوب بفعل مقر أى : فرض الله لهم هذه الصدقات فريضة ، فلا يصح لكم أن تبخلوا بها عنهم ، أو تتكاسلوا في إعطائها لمستحقيها .
فالجملة الكريمة زجر للمخاطبين عن مخالفة أحكامه . سبحانه .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } تذييل قصد به بيان الحكمة من فرضية الزكاة .
اى : والله - تعالى - عليم بأحوال عباده ، ولا تخفى عليه خافية من تصرفاتهم ، حكيم في كل أوامره ونواهيه ، فعليكم . أيها المؤمنون أن تأتمروا بأوامره ، وأن تنتهوا عن نواهيه لتنالوا رضاه .
هذا ، من الأحكام والآداب التي أخذها العماء من هذه الآية ما يأتى :
1- أن المراد بالصدقات هنا ما يتناول الزكاة المفروضة وغيرها من الصدقات المندوبة ، وذلك لأن اللفظ عام فيشمل كل صدقة سواء أكانت واجبة أم مندوبة ، ولأن لفظ الصدقة في عرف الشرع وفى صدر الإِسلام ، كان يشمل الزكاة المفروضة ، والصدقة المندوبة ، ويؤيده قوله - تعالى - : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ومن العلماء من يرى أن المراد بالصدقات في الآية : الزكاة المفروضة ، لأن ( أل ) في الصدقات للعهد الذكرى والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار إليها القرآن . بقوله قبيل هذه الآية . { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية كبناء المساجد والمدارس .
ويبدو لنا أن لفظ الصدقات في الآية عام بحيث يتناول كل صدقة ، إلا أن الزكاة المفروضة تدخل فيه دخولا أوليا .
2- قال بعض العلماء : ظاهر الآية يقضى بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان .
الأول . ما يقتضيه اللفظ اللغوى ، إن قلنا . الواو للجمع والتشريك .
والثانى : ما رواه أبو داود في سنته من قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأ ثمانية أجزاء " .
وقد ذهب إلى هذا الشافعى وعكرمة والزهرى ، إلا إن استغنى أحدهما فتدفع إلى الآخرين بلا خلاف .
وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد . منهم عمر وابن عباس وعطاء وابن جبير ومالك وأبو حنيفة .
قال في التهذيب : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر بوجوه :
الأول : أن الله - تعالى - قال في سورة البقرة : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .
الثانى : الخبر ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " .
الثالث : حديث سلمة بن صخر . فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل له صدقة بنى زريق .
الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .
3- يرى جمهور العلماء أن الفقراء والمساكين صنفان من مصارف الزكاة لأن الله . - تعالى - قد ذكر كل صنف منهما على حدة ، إلا أنهم اختلفوا في أيهما أسوأ حالا من الآخر . فالشافعية يرون أن الفقير أسوأ حلالا من المسكين .
ومن أدلتهم على ذلك ، أن الله . تعالى . بدأت في الآية بالفقراء ، وهذا البدء ، يشير إلى أنهم أشد حاجة من غيرهم ، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم .
ولأن لفظ الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره : فلا يستطيع التكسب ، ومعلوم أنه لا حال في الاقلال والبؤس آكد من هذه الحال .
ولأن الله . تعالى . وصف بالمسكنة من كانت له سفينة من سفن البحر فقال : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر } أما الأحناف والمالكية فيرون أن المسكين أسوأ حالا من الفقير .
ومن أدلتهم على ذلك : أن علماء اللغة عرفوا المسكين بأنه أسوأ حالا من الفقير ، وإلى هذا ذهب يعقوب بن السكيت ، والقتبى ، ويونس بن حيبيب .
ولأن الله - تعالى - وصف المسكين وصفا يدل على البؤس وصفاً يدل على البؤس والفاقة فقال : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أى : مسكيناً ذا حاجة شديدة ، حتى لكأنه قد لصق بالتارب من شدة الفاقة ، ولم يصف الفقير بذلك . .
قال بعض العلماء : وأنت إذا تأملت أدلة الطرفين وجدت أنها متعارضة ومحل نظر ، وأياما كان فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان .
وروى عن ابى يوسف ومحمد أنهما صنف واحد واختاره الجبائى ، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم . وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ؛ فمن قال إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به ، ومن قال إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك .
4- ظاهر الآية يدل على أن الزكاة يتجوز دفعها لكل من يشكله اسم الفقير والمسكين ، إلا أن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد قيدت هذا الإِطلاق .
قال القرطبى : اعلم أن قوله - تعالى - : { لِلْفُقَرَآءِ } مطلق ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء ، سواء أكانوا من بنى هاشم أو من غيرهم ، إلاأن السنة وردت باعتبار شروط ، منها : ألا يكونوا من بنى هاشم ، وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته ، وهذا لا خلاف فيه .
وشرط ثالث ألا يكن قوياً على الاكتساب ؛ لأنه - سبحانه - قال : " لا تحل الصدقة لغنى ، ولا لذى مرة سوى " .
ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولا لنبى هاشم ولا لمواليهم . .
وكذلك لا يصح أن تعطى لغير المسلمين ، ففى الصحيحين عن ابن عباس - رضى الله عنهما -
" أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال معاذ حين بعثه إلى ايمن : " أعلمهم أنعليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين .
إلا أنه نقل عن أبى حنيفة جواز دفع صدقة الفطر إلى الذمى .
5- أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى { والعاملين عَلَيْهَا } أنه يجب على الإِمام أن يرسل من يراه أهلا لجمع الزكاة ممن تجب عليهم .
وقد تأكد هذا الوجوب بفعل النبى - صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في أحاديث متعددة أنه أرسل بعض الصحابة لجمع الزكاة .
روى البخارى عن أبى حميد الساعدى قال : استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه .
6- أخذ بعض العلماء - أيضاً - من قوله - تعالى - { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } أن حكمهم باق ، لأنهم قد ذكروا من بين مصارف الزكاة ، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاهم ، فيعطون عند الحاجة .
قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء في بقاء المؤلفة قلوبهم .
فقال عمر والحسن والشعبى وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإِسلام وظهوره .
وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأى .
قال بعض علماء الحنفية . لما أعز الإِسلام وأهله ، أجمع الصحابة في خلافة أبى بكر على سقوط سهمهم .
وقال جماعة من العلماء : هم باقون لأن الإِمام ربما احتاج أن يستألف على الإِسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين .
وقال ابن العربى . الذي عندى أنه إن قوى الإِسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم ، فإن في الصحيح " بدأ الإِسلام غريباً وسيعود كما بدأ " .
والذى يبدو لنا أن ما قاله ابن العربى أقرب الأقوال إلى الصواب لأن مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم تختلف باختلاف الأحوال ؛ فإن كان الإِمام يرى أن من مصلحة الإِسلام إعطاءهم ، وإن كانت المصحلة في غير ذلك لم يعطهم .
7- دلت الآية الكريمة على أن الزكاة ركن من أركان الاسلام ، لقوله تعالى { فَرِيضَةً مِّنَ الله } .
قال بعض العلماء ما ملخصه ، تلك هي فريضة الزكاة . ليست أمر الرسول وإنما هي أمر الله وفريضته وقسمته وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . وهذه الزكاة تؤخذ من الأغنياء على أنها فريضة من الله ، وترد على الفقراء على أنها فريضة من الله ، وهى محصورة في طوائف من الناس عينهم القرآن وليست متروكة لاختيار أحد حتى ولا اختيار الرسول نفسه .
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة ، ومكانها في النظام الإِسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم ، فهى فريضة محتمة ، ولا منحة ولا جزافا من القاسم الموزع فهى فريضة معلومة .
إنها إحدى فرائض الإِسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدى بها خدمة اجتماعية محددة . وهى . ليست إحساناً من المعطى ، وليست شحاذرة من الآخذ ، كلا فما قام النظام الاجتماعى في الإِسلام على التسول ولن يقوم .
إن قوم الحياة في النظام الإِسلامى هو العمل - بلك صنوفه وألوانه - على الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه .
والزكاة ضريبة تكافل اجتماعى بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ، متى قام المجمع على أساس الإِسلام الصحيح ، منفذاً شريعة الله لا يبتغى له شرعاً ولا منهجاً سواه .
إن فريضة الزكاة تؤدى في صورة عبادة إسلامية ، ليطهر الله بها القلوب من الشح ، وليجعلها شرعة تراحم وتضمن بين أفراد الأمة المسلمة .
إنها فريضة من الله ، الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدير أمرها بالحكمة { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق اللّه وحق رسوله ، تطوعاً ورضا وإسلاماً ، يقرر أن الأمر -مع ذلك - ليس أمر الرسول ؛ إنما هو أمر اللّه وفريضته وقسمته ، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين . فهذه الصدقات - أي الزكاة - تؤخذ من الأغنياء فريضة من اللّه ، وترد على الفقراء فريضة من اللّه . وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن ، وليست متروكة لاختيار أحد ، حتى ولا اختيار الرسول :
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل . فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم ) . .
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اللّه ، ومكانها في النظام الإسلامي ، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم . فهي فريضة محتمة . ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع . فهي فريضة معلومة . إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة . وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ . . كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول ، ولن يقوم !
إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل - بكل صنوفه وألوانه - وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه ، وأن تمكنه منه بالإعداد له ، وبتوفير وسائله ، وبضمان الجزاء الأوفى عليه ، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة ، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع ؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذاً شريعة اللّه ، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه .
عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - قال : قال رسول اللّه - [ ص ] - : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " .
وعن عبداللّه بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - [ ص ] - يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما . ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " .
إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام . وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة ؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها ، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط :
والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال . وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول . وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة . ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا ، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين . والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية ، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون .
وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام ، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة . بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم . فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي . وبعضهم يكون لم يؤد شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها . فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي . . وهي قبل هذا وذاك فريضة من اللّه ، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اللّه ، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء .
( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) . . وقد سبق بيانهما .
( والعاملين عليها ) . . أي الذين يقومون على تحصيلها .
( والمؤلفة قلوبهم ) . . وهم طوائف ، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه . ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا . ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون . . وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام . . ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات ، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه ؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم ، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك . ندرك هذه الحقيقة ، فنرى مظهراً لكمال حكمة اللّه في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال .
( وفي الرقاب ) . . ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً ، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم . ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق . . وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له ، ليحصل على حريتهبمساعدة قسطه من الزكاة . أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال .
( والغارمين ) . . وهم المدينون في غير معصية . يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم ، بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجار مهما تكن الأسباب ! فالإسلام نظام تكافلي ، لا يسقط فيه الشريف ، ولا يضيع فيه الأمين ، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية ، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب !
( وفي سبيل اللّه ) . . وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة ، تحقق كلمة اللّه .
( وابن السبيل ) . . وهو المسافر المنقطع عن ماله ، ولو كان غنياً في بلده .
هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان ، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان . . هذه هي فريضة اجتماعية ، تؤدى في صورة عبادة إسلامية . ذلك ليطهر اللّه بها القلوب من الشح ؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة ، تندّي جو الحياة الإنسانية ، وتمسح على جراح البشرية ؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود . وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه ، كما تربط بينه وبين الناس :
( فريضة من اللّه ) الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدبر أمرها بالحكمة :
ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم . والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره . والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه قوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر . وقيل بالعكس لقوله تعالى : { ومسكينا ذا متربة } . { والعاملين عليها } الساعين في تحصيلها وجمعها . { والمُؤلّفة قلوبهم } قوم اسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك . وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قبله بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة . وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط . { وفي الرقاب } وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم . وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى . والعدول عن اللام إلى { في } للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب . وقيل للإيذان بأنهم أحق بها . { والغارمين } والمديونين لأنفسهم غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها " . { وفي سبيل الله } وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح . وقيل وفي بناء القناطر والمصانع . { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله . { فريضة من الله } مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في { للفقراء } . وقرئ بالرفع على تلك { فريضة } . { والله عليم حكيم } يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا ، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم .
{ إنما } في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف { الصدقات } على الثمانية الأصناف ، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره : ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة ، وقال الشافعي : هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن { المؤلفة } انقطعوا .
قال القاضي أبو محمد : ويقول صاحب هذا القول : إنه لا يجزيء المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة ، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره : الفقير أبلغ فاقة ، وقال غيرهم : المسكين أبلغ فاقة .
قال القاضي أبو محمد : ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها ، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر }{[5724]} واعترض هذا الشاهد بوجوه منها ، أن يكون سماهم «مساكين » بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها : أنه قرىء «لمسّاكين » بشد السين بمعنى : دباغين يعملون المسوك{[5725]} قاله النقاش وغيره ومنها : أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول : سرج الفرس ، ومن حجة الآخرين قول الراعي : [ البسيط ]
أما الفقير الذي كانت حلوبته*** وفق العيال فلم يترك له سبد{[5726]}
وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيراً بعد أن صار لا حلوبة له ، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت ، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه ، فقال : أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال ، وذهب من يقول : إن المسكين أبلغ فاقه إلى أنه مشتق من السكون ، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة ، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقه : إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها ، وأن المسكين من السكن .
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة ، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين ، والمعنى فيهما واحد ، وقد اضطرب الناس في هذا ، فقال الضحاك بن مزاحم : { الفقراء } هم من المهاجرين { والمساكين } من لم يهاجر ، وقال النخعي نحوه ، قال سفيان : يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئاً .
قال القاضي أبو محمد : «والمسكين السائل » يعطى في المدينة وغيرها ، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية ، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس ، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر ، وقال عكرمة : { الفقراء } من المسلمين ، { والمساكين } من أهل الذمة ، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر «الفقير » من لا مال له ولا حرفة سائلاُ كان أو متعففاً «والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل ، وقال قتادة بن دعامة : الفقير الزمن{[5727]} المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج ، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة : » المساكين «الذين يسعون ويسألون ، و » الفقراء «هم الذين يتصاونون ، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا ، وتحريره : أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه ، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لُبْلَغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها ، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال ، فهذه هي المسكنة ، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكيناً ، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم ، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين ، ويقوي هذا قوله تعالى :
{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }{[5728]} وقيل لأعرابي : أفقير أنت فقال : إني والله مسكين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه » ، اقرأوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافاً }{[5729]} ، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف ، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم { الفقراء } في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم ُيَتَهَّمم بهم هلكوا ، والمسكين يلح ويذكر بنفسه ، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم ، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من { العاملين } لأنه يحشر الناس على الساعي{[5730]} ، وقال الضحاك : للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن ، وقال الجمهور : لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف ، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل ، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة ، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل : يعطى منها عمالته{[5731]} وقيل : بل يعطاها الخمس ، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه ، وذلك إن فعله رد في بيت المال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية{[5732]} حين استعمله على الصدقة فقال : هذا لكم وهذا ما أهدي لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك » وأخذ الجميع منه{[5733]} .
قال القاضي أبو محمد : وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده ، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ ، وأما { المؤلفة قلوبهم } فكانوا صنفين ، مسلمين وكافرين مساترين{[5734]} ، قال يحيى بن أبي كثير ، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع{[5735]} ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر هؤلاء من الطلقاء{[5736]} الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر ، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم : انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله ، قال عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة .
قال القاضي أبو محمد : وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين ، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم : إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك{[5737]} ، يريد في الاستئلاف ، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد ، وقال كثير من أهل العلم : { المؤلفة قلوبهم } موجودون إلى يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف ، وقال الزهري : { المؤلفة } من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً .
قال القاضي أبو محمد : يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه ، وأما { الرقاب } فقال ابن عباس والحسن ومالك وغيره : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته ، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه{[5738]} بالمنع والإباحة ، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد ، وقيل يمضي لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب ، وقال الشافعي : معنى { وفي الرقاب } في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد ، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير ، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها ، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين ، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى ، قال ابن حبيب : ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره{[5739]} ، وأما «الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه ، قال العلماء : فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله ، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا ، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
«ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة :العامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله »{[5740]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سقط { المؤلفة } من هذا الحديث ، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله ، وإنما «الغارم » من عليه دين يسجن فيه ، وقد قيل في مذهبنا وغيره : يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور ، وأما { في سبيل الله } فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنياً قال ابن حبيب : ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيراً فيعطى لفقره ، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق : يعطى منها الحاج وإن كان غنياً ، والحج سبيل الله ، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا ، وأما { ابن السبيل } فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده ، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر : ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم : ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم : بنو الحرب وبنو المجد{[5741]} ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب : ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم ، قال ابن القاسم : يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين ، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير ، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط ، وأيضاً فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى { وإن كان ذو عسرة }{[5742]} أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى{[5743]} فإن وقع ذو عسرة فنظرة ، وقالت فرقة : الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره ، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولاً واحداً ، وقد قيل في الغارم{[5744]} : تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر ، ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائباً في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى ، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير ، وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم ، وتعطى المرأة زوجها ، وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها ، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين ، واختلف في ولاء الذي يعتق من الصدقة ، فقال مالك : ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد : ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن : يجعل ماله في بيت الصدقات ، وقال الحسن وأحمد وإسحاق : ويعتق من ماله رقاب ، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة ، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي{[5745]} وأما السبيل : فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنياً ، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعاً به ، قال ابن المنذر ؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما القرآن فقوله { وفي سبيل الله } ، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله » ، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره : على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق ، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية ، قال الطبري : وقال بعض المتأخرين : إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف ، قال الشافعي وعكرمة والزهري : هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله : «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحداً منها أعطيتك » .
قال القاضي أبو محمد : والحديث في مصنف أبي داود ، وقال أبو ثور : إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفاً دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي : إذا كان المال كثيراً قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلاً أعطاه صنفاً واحداً . وقالت فرقة من العلماء : من له خمسون درهماً فلا يعطى من الزكاة ، وقال الحسن وأبو عبيد ، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهماً ، قال الحسن : وهو غني وقال الشافعي : قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنياً بالدرهم مع سعيه وتحيله ، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف ، وقال أبو حنيفة : لا يأخذ الصدقة من لا مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ ، قال سفيان الثوري : لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهماً ، إلا أن يكون غارماً وقال أصحاب الرأي ، إن أعطي ألفاً وهو محتاج أجزأ ذلك ، وقال أبو ثور : يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك ، وقال ابن المنذر : أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه ، وقال مالك : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه ، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيراً فإذا هو غني ، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر ، فإن كان الآخذ غنياً وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه ، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له ، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر ، فقال الحسن وأبو عبيدة : تجزيه ، وقال الثوري وغيره : لا تجزيه ، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام ، قال ابن حبيب في الواضحة : أما { المؤلفة } فانقطع سهمهم ، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطى الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الشرط فيه نظر ، قال ابن حبيب : وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم ، قال مالك : ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة ، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته{[5746]} ، وقال تعالى : { فريضة من الله } أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه ، شبه ما يفرض من الأحكام ، ونصب { فريضة } على المصدر{[5747]} ، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {إنما الصدقات للفقراء} الذين لا يسألون الناس، {والمساكين} الذين يسألون الناس، {والعاملين عليها} يعطون مما جبوا من الصدقات على قدر ما جبوا من الصدقات، وعلى قدر ما شغلوا به أنفسهم عن حاجتهم، {والمؤلفة قلوبهم} يتألفهم بالصدقة، يعطيهم منها... {وفي الرقاب} يعني وفي فك الرقاب، يعني أعطوا المكاتَبين، {والغارمين} وهو الرجل يصيبه غرم في ماله من غير فساد ولا معصية، {وفي سبيل الله} يعني في الجهاد، يعطى على قدر ما يبلغه في غزاته، {وابن السبيل}، يعني المسافر المجتاز وبه حاجة، يقول: {فريضة من الله} لهم هذه القسمة؛ لأنهم أهلها، {والله عليم} بأهلها، {حكيم} حكم قسمتها...
... يحيى: قال مالك: الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي. فأي الأصناف كانت فيه الحاجة والعدد، أوثر ذلك الصنف. بقدر ما يرى الوالي. وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام، فيؤثر أهل الحاجة والعدد، حيثما كان ذلك. وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم. قوله تعالى: {للفقراء}
- ابن رشد: قال ابن القاسم: سألت مالكا عن قوله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء}، فقال: الفقراء، المتعففون وهم أهل فاقة وحاجة.
- الباجي: قال مالك: إن الفقير: الذي له البلغة من العيش لا تقوم به. قوله تعالى: {والمساكين}.
- الباجي: قال مالك: والمسكين، الذي لا شيء له، فالمسكين أسوأ حالا من الفقير.
- ابن رشد: قال مالك: والمساكين: الذين يسألون الناس على الأبواب والطرق، وهم السائلون.
قوله تعالى: {والعاملين عليها}.
- يحيى: قال مالك: وليس للعامل على الصدقات فريضة مسماة، إلا على قدر ما يرى الإمام.
- الباجي: روى أشهب عن مالك: يعطون بقدر السعي في قربهم وبعدهم، وبقدر غنائه، لأنه إنما يأخذ على وجه العوض عن عمله. قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم}.
- ابن رشد: قال مالك: والمؤلفة قلوبهم، قوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم إلى الإسلام بالصدقة من الزكاة... قال مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن إسلامهم. قال مالك: وبلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة، فتصدق بعد ذلك به. -ابن رشد: قال مالك: لا مؤلفة اليوم. قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام. قوله تعالى: {وفي الرقاب}.
- ابن رشد: قال مالك: هم العبيد يعتقهم الإمام، ويكون ولاؤهم للمسلمين. قوله تعالى: {والغارمين}.
- ابن رشد قال مالك: والغارمين، ناس كانت تكون عليهم الديون فلا يجدون ما يقضون به دينهم، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعطوا من الزكاة ما يقضون به دينهم. قوله تعالى: {وفي سبيل الله}.
- ابن العربي: قال مالك: سبل الله كثيرة: وأفضلها الجهاد.
- القرطبي: روى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط، فقراء كانوا أو أغنياء.
- ابن رشد: قال مالك وابن السبيل المنقطع به الذي لا يجد دابة يركبها، ولا ثمنا يتكارى به...
... الفقراء ههنا كل من لزمه اسم حاجة ممن سمى الله تعالى من الأصناف الثمانية، وذلك أن كلهم إنما يعطى بموضع الحاجة لا بالاسم. فلو أن ابن السبيل كان غنيا لم يعط، وإنما يعطى ابن السبيل المحتاج إلى السلاح في وقته الذي يعطى فيه. فإن لم يوجد من أهل الصدقات الذين يوجد منهم أحد من أهل السهمان الذين سمى الله عز وجل، ردت حصة من لم يوجد على من وجد، كأن وجد فيهم فقراء، ومساكين، وغارمون، ولم يوجد غيرهم، فقسم الثمانية الأسهم على ثلاثة أسهم... فأهل السهمان يجمعهم أنهم أهل حاجة إلى مالهم منها كلهم، وأسباب حاجاتهم مختلفة، وكذلك أسباب استحقاقهم بمعَانٍ مختلفة، يجمعها الحَاجَةُ، ويفرق بينها صفاتها. (الأم: 2/83. ون الأم: 2/71 و 4/126 و 7/23. ومختصر المزني ص: 155. وأحكام الشافعي: 1/160-161.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا تنال الصدقات إلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جلّ ثناؤه.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الفقير والمسكين؛
فقال بعضهم: الفقير: المحتاج المتعفف عن المسألة، والمسكين: المحتاج السائل... وقال آخرون: الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة، والمسكين: هو الصحيح الجسم...
وقال آخرون: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين: من لم يهاجر من المسلمين وهو محتاج...
وقال آخرون: المسكين: الضعيف الكَسْب... وقال بعضهم الفقير من المسلمين والمسكين أهل الكتاب...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: الفقير: هو ذو الفقر أو الحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع، والمسكين: هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم. وإنما قلنا إن ذلك كذلك وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسكنة، لإجماع الجميع من أهل العلم أن المسكين إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر، وأن معنى المسكنة عند العرب: الذلة، كما قال الله جلّ ثناؤه:"وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ" يعني بذلك الهون، والذلة لا الفقر. فإذا كان الله جلّ ثناؤه قد صنف من قسم له من الصدقة المفروضة قسما بالفقر فجعلهم صنفين، كان معلوما أن كل صنف منهم غير الآخر. وإذ كان ذلك كذلك كان لا شكّ أن المقسوم له باسم الفقير غير المقسوم له باسم الفقر والمسكنة، والفقير المعطى ذلك باسم الفقير المطلق هو الذي لا مسكنة فيه، والمعطى باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذلّ بالطلب والمسألة.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء المتعفف منهم الذي لا يسأل، والمتذلل منهم الذي يسأل، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ المِسْكِينُ بالّذِي تَرُدّهُ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتانِ والتّمْرَةُ والتّمْرَتانِ، إنّمَا المسْكِينُ المُتَعَفّفُ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ لا يَسْألونُ النّاسَ إلْحافا».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّمَا المِسْكِينُ المُتَعَفّفُ» على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر مساكين، لا على تفصيل المسكين من الفقير. ومما ينبئ عن أن ذلك كذلك، انتزاعه صلى الله عليه وسلم لقول الله: «اقرءوا إن شِئتم لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا» وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر، فقال "للْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسأَلُونَ النّاسَ إلْحافا".
وقوله: "وَالعامِلِينَ عَلَيْها": وهم السعاة في قبضها من أهلها، ووضعها في مستحقيها يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء...
ثم اختلف أهل التأويل في قدر ما يُعْطَى العامل من ذلك؛
فقال بعضهم: يُعْطَى منه الثمن...
وقال آخرون: بل يعطى على قدر عمالته...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يعطى العامل عليها على قدر عمالته أجر مثله.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جلّ ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم، وإنما عرّف خلقه أنّ الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم. وإذ كان كذلك بما سنوضح بعد وبما قد أوضحناه في موضع آخر، كان معلوما أن من أُعطي منها حقا، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطي فيه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله لا على الحاجة التي تزول بالعطية، كان معلوما أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عوض من سعيه وعمله، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضا من عمله الذي لا يزول بالعطية وإنما يزول بالعزل.
وأما المؤلّفة قلوبهم، فإنهم قوم كانوا يُتألّفون على الإسلام ممن لم تصحّ نصرته استصلاحا به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب وعيينة بن بدر والأقرع بن حابس، ونظرائهم من رؤساء القبائل...
ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها، وهل يعطى اليوم أحد على التألف على الإسلام من الصدقة؟
فقال بعضهم: قد بطلت المؤلّفة قلوبهم اليوم، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها وفي سبيل الله أو لعامل عليها.. وقال آخرون: المؤلفة قلوبهم في كلّ زمان، وحقهم في الصدقات... والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما سدّ خلة المسلمين، والآخر معونة الإسلام وتقويته؛ فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنيّ والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيا كان أو فقيرا للغزو لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده. وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعزّ أهله، فلا حجة لمحتجّ بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.
وأما قوله: "وفِي الرّقابِ "فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه؛
فقال بعضهم، وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون، يعطون منها في فكّ رقابهم... والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: عنى بالرقاب في هذا الموضع المكاتبون، لإجماع الحجة على ذلك فإن الله جعل الزكاة حقا واجبا على من أوجبها عليه في ماله يخرجها منه، لا يرجع إليه منها نفع من عرض الدنيا ولا عوض، والمعتق رقبة منها راجع إليه ولاء من أعتقه، وذلك نفع يعود إليه منها.
وأما الغارمون: فالذين استدانوا في غير معصية الله، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض...
عن مجاهد، قال: الغارمون: من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه، ويدّان على عياله فهذا من الغارمين...
وأما قوله: "وفِي سَبِيلِ اللّهِ" فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار...
وأما قوله: "وَابْنِ السّبِيلِ": فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد، والسبيل: الطريق، وقيل للضارب فيه ابن السبيل للزومه إياه... وكذلك تفعل العرب، تسمي اللازم للشيء يعرف بابنه...
وقوله: "فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ" يقول جلّ ثناؤه: قسم قسمه الله لهم، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم، والله عليم بمصالح خلقه فيما فرض لهم وفي غير ذلك لا يخفى عليه شيء، فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة، حكيم في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل.
واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حقّ أو ذلك إلى ربّ المال، ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمانية؟ فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمها ووضعها في أيّ الأصناف الثمانية شاء، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه خلقه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها، لا إيجابا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها، لا تتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم... فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها،... والرقاب: المكاتبون يعانون منها، وقيل: الأسارى، وقيل: تبتاع الرقاب فتعتق. {والغارمين} الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب. وقيل: الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا. {وَفِى سَبِيلِ الله} فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم. {وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنيّ حيث ماله. {فَرِيضَةً مّنَ الله} في معنى المصدر المؤكد، لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم... فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرقّ أو الأسر، وفي فكّ الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير «في» في قوله: {وَفِى سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ من أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، إنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْمَاضِيَةِ الْعَالِيَةِ، خَصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْبَعْضِ، نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ شُكْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إخْرَاجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ، نِيَابَةً عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا ضَمِنَهُ بِفَضْلِهِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا من دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}؛ وَقَدَّرَ الصَّدَقَاتِ عَلَى حَسَبِ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَ فِي النَّقْدَيْنِ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَجَعَلَ فِي النَّبَاتِ الْعُشرَ، وَمَعَ تَكَاثُرِ الْمُؤْنَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً: وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ من الصِّدْقِ فِي مُسَاوَاةِ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَبِنَاءُ (ص د ق) يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَعَضده بِهِ، وَمِنْهُ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ؛ أَيْ تَحْقِيقُ الْحِلِّ وَتَصْدِيقُهُ بِإِيجَابِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ.
وَيُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَصْرِيفِ الْفِعْلِ، يُقَالُ: صَدَّقَ فِي الْقَوْلِ صَدَاقًا وَتَصْدِيقًا، وَتَصَدَّقَتْ بِالْمَالِ تَصَدُّقًا، وَأَصْدَقَتْ الْمَرْأَةُ إصْدَاقًا. وَأَرَادُوا بِاخْتِلَافِ الْفِعْلِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ فِي الْكُلِّ. وَمُشَابَهَةُ الصِّدْقِ هَاهُنَا لِلصَّدَقَةِ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ من دِينِهِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ الْمَصِيرُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدَّانِيَةَ قَنْطَرَةٌ إلَى الْأُخْرَى، وَبَابٌ إلَى السُّوأَى أَوْ الْحُسْنَى عَمِلَ لَهَا، وَقَدَّمَ مَا يَجِدُهُ فِيهَا؛ فَإِنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ تَكَاسَلَ عَنْهَا وَآثَرَ عَلَيْهَا بَخِلَ بِمَالِهِ، وَاسْتَعَدَّ لِآمَالِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مَآلِهِ. وَفِي كُتُبِ الذِّكْرِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ}: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْ هَذِهِ اللَّامُ [فَقِيلَ] لَامُ الْأَجَلِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ، وَالْبَابُ لِلدَّارِ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ لَامُ التَّمْلِيكِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ...
وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ من أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ}. وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً.
وَحَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أُحَالَ بِحَقِّهِ لِمَنْ ضَمِنَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا من دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}؛ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرو: إنَّ لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ، فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ الْمَصْرِفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ... وَتَحْقِيق الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُتَحَصِّلَ من أَصْنَافِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَائِرُ الْأَصْنَافِ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر [الله] تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قَسْم الصدقات، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يَكلْ قَسْمها إلى أحد غيره، فجزّأها لهؤلاء المذكورين، كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -وفيه ضعف- عن زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصُدَائي، رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له:"إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر عن لمزهم في الصدقات وقرر ما هو خير لهم إرشاداً إلى النجاة، علل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وبين أنه لا يفعل غيره لأنه الحق الذي لا يجوز في شرعه الأكمل غيره لمزوا أو تركوا زهدوا أو رغبوا فقال معبراً بأداة القصر على ما ذكر: {إنما الصدقات} أي هذا الجنس بجميع ما صدق من أفراده، والظاهر أنه قدم الأهم فالأهم، فلذا قال الشافعي: إن الفقير أشدهم حاجة لكونه ابتدأ به، فقال: {للفقراء} أي الذين لا شيء لهم أو لهم شيء يقع موقعاً من كفايتهم {والمساكين} أي الذين لا كفاية لهم بدليل {أما السفينة} [الكهف: 79] وأما {مسكيناً ذا متربة} [البلد: 16] فتقييده دل على أن المطلق بخلافه {والعاملين عليها} أي المؤتمنين في السعاية والولاية على جمعها {والمؤلفة قلوبهم} أي ليسلموا أو يسلم بسببهم غيرهم أو يثبتوا على إسلامهم... ولما فرغ من هذه الأصناف الأربعة الذين يعطون الصدقة في أيديهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا، كما دل عليه التعبير باللام، ذكر الذين يعطون الصدقة لقضاء ما بهم كما دل عليه التعبير ب "في "فقال: {وفي الرقاب} أي والمكاتبين بسبب فك رقابهم من الرق {والغارمين} أي الذين استدانوا في غير معصية، يصرف ما يعطونه إلى قضاء ديونهم فقط {وفي} أي والمجاهدين في {سبيل الله} أي الذي له الأمر كله بالنفقة والحمل والإعانة بالسلاح وغير ذلك، ونقل القفال عن بعض الفقهاء أنه عمم السبيل فأجاز صرفه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وعمارة المساجد ونحوها {وابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن بلده، يعطى ما يوصله إليه، ففيه إشارة إلى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يفعل ما أدى إلى لمزهم له بسببه إلا بأمر حقاً، فإنا قد عينّا له أهل الصدقات فهو لا يعدل عنهم لشيء من الأشياء لأنه واقف عند ما يرضينا، فإن كانوا منهم أعطاهم وإلا منعهم رضي من رضي وسخط من سخط، وقد فرض ذلك، أو ثابتة للفقراء حال كونها {فريضة} كائنة {من الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لعلمه بأن في ذلك أعظم صلاح، وهذا كالزجر عن مخالفة الظاهر {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليم} أي بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المؤمنين {حكيم*} أي فهو يجعل أفعاله من الإحكام بحيث لا يقدر غيره على نقضها؛ قال أبو حيان: "إنما" إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. وحكمة الزكاة من جهة المالك أن المال محبوب لأنه يحصل المحبوب والتمادي في حبه يوجب الإعراض عن الله المعطي له، فكان من الحكمة تذكير المالك له بالمالك الحقيقي في أنه أوجب عليه إخراج طائفة منه ليكف منه انصباب النفس بالكلية إليه ويطهر النفس عن محبتها له ويطهره عن محض الإنفاق في الشهوات، ومن جهة الآخذ أنه لما اجتمعت حاجته إليه وحاجة -المالك- ولو احتمالاً- كان هناك سببان للتسلط على المال: أحدهما اكتساب المالك له، والثاني احتياج الآخذ إليه، فروعي السببان بقدر الإمكان، ورجح المالك بإبقاء الكثير، وصرف إلى الآخذ اليسير...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما كان طمع البشر في المال لا حد له، وقد يكون الغني أشد طمعاً فيه من الفقير، وكان ضعيف الإيمان لا يرضيه قسمة الرسول المعصوم له إذا لم يعطه ما يرضي طمعه، وكان غير المعصوم من أولياء الأمور ومن الأغنياء عرضة لاتباع الهوى في قسمة الصدقات، بين الله تعالى مصارفها بنص كتابه فقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} هذه الآية ناطقة بوجوب قصر الصدقات الواجبة -وهي زكاة النقود عيناً أو تجارة والأنعام والزرع والركاز والمعدن- على الأصناف السبعة أو الثمانية المنصوصة فيها دون غيرهم، وهي حجة على من لمز النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين بعدم إعطائهم منها وهم ليسوا منهم وقاطعة لأطماع أمثالهم، واللام في قوله {للفقراء} للملك وللاستحقاق أو بتقدير مفروضة كما يدل عليه قوله في آخر الآية {فريضة من الله} وسيأتي حكم سائر المعطوفات. وجمهور الفقهاء على أن الفقراء والمساكين صنفان مستقلان، وقد اختلفوا في تعريف كل منهما بما ذهب به بعضهم إلى أن الفقير أسوأ حالاً وأشد حاجة من المسكين، وبعضهم إلى العكس، وجعلوا ذلك من تقاليد المذاهب التي يتعصب لها بعضهم على بعض. ويرى بعض العلماء المستقلين أنهما قسمان لصنف واحد يختلفان بالوصف لا بالجنس، وهو المختار لنا، ولم يجمع الذكر الحكيم بينهما إلا في هذه الآية، ويكفي من دلالة العطف فيها على المغايرة ما اخترناه في تغايرهما في الوصف. فالفقير في اللغة خلاف الغني ومقابله مقابلة التضاد كما يدل عليه قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} [النساء:135]، وقوله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32]، والغني المطلق هو الله تعالى وكل عباده فقير إليه، كما قاله: {والله الغني وأنتم الفقراء} [محمد: 38]، وأما فقر الناس بعضهم إلى بعض فهو أمر نسبي، فما من غني إلا وهو مفتقر إلى غيره ممن فوقه وممن دونه أيضاً، ولكن ذكر الفقير في مقابلة الغني أو إطلاق ذكره يدل على المحتاج في معيشته إلى مواساة غيره لعدم وجود ما يكفيه بحسب حاله، ويطلق الفقير في اللغة على الكسير الفقار، ومن يشتكي فقاره وهي جمع فقرة وفقارة [بفتحهما] عظام الظهر المنضودة من لدن الكاهل إلى عجب الذنب في الصلب وهذا هو المعنى الأصلي، والمعنى الأول مأخوذ منه كما قيل. ومنه الفاقرة وهي الداهية والمصيبة التي تكسر فقار الظهر. وأما المسكين فمأخوذ من مادة السكون المراد به قلة الحركة والاضطراب الحسي من الضعف والعجز، أو النفسي من القناعة والصبر، وإنما يطلق على الفقير إذا كان الفقر سبب سكونه. قال في الصحاح: المسكين الفقير، وقد يكون بمعنى الذلة والضعف اه. وقال بعضهم: إنه الفقير القانع الذي لا يسأل، وقيل خلاف ذلك، والأول أولى.
وقالوا: إن لفظ المسكين يستعمل بمعنى الذليل والضعيف، وبمعنى المتواضع المخبت والخاشع لله تعالى، ومقابله والجعظري الجواظ المتكبر، ويقال سكن الرجل وتسكن وتمسكن إذا صار مسكيناً. ولكن صيغة تمسكن يدل على تكلف المسكنة ومحاولتها بالتخلق والتعود. وقال اللحياني: تمسكن لربه تضرع. وفي الحديث المرفوع (اللهم أحيني مسكيناً وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) رواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وصححه وأقره الذهبي ولكن ضعفه النووي، ورواه الترمذي من حديث أنس بسند ضعيف. وقال ابن الجوزي: إنه موضوع، وخطأه السيوطي، وفيه زيادة عند الحاكم وأخرى عند الترمذي، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من الفقر، وقد امتن عليه ربه بقوله: {ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى: 8]، فلا يعقل مع هذا أن يسأله أشد الفقر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم مكفيا ومات مكفياً. وقال الفيروزأبادي: والمسكين من لا شيء له أو الفقير المحتاج. والمسكين من أذله الفقر أو غيره من الأحوال اه. قال شارحه: قال ابن عرفة: فإذا كانت مسكنته من جهة الفقر حلت له الصدقة، وكان فقيراً مسكيناً، وإذا كان مسكيناً قد أذله سوى الفقر فالصدقة لا تحل له، إذ كان شائعاً في اللغة أن يقال ضرب فلان المسكين وظلم المسكين وهو من أهل الثروة واليسار وإنما لحقه اسم المسكين من جهة الذلة، فمن لم تكن مسكنته من جهة الفقر فالصدقة عليه حرام اه. فعلم من هذا كله أن الفقير في اللغة المحتاج، وهو ضد الغني أي المكفي ما يحتاج إليه، من الغناء (بالفتح) وهو الكفاية، وأن المسكين وصف من السكون يوصف به الفقير وغيره. وقد اختلف العلماء فيه هل هو أسوأ حالا وأشد حاجه من الفقير أو أحسن كما تقدم؟ ويقال في الترجيح بين القولين زيادة عما قلناه في الحديث آنفا: إما أن يكون المسكين في الآية صنفاً مستقلاً مبايناً للفقير، وإما أن يكون أخص منه لأن المسكنة فيه وصف للفقير، كما ذكر الوجهين ابن عرفة وغيره، فإن كان صنفا مستقلا وجب أن يكون غير فقير؛ لأن وصف المسكنة فيه لم يكن له بسبب فقره بل بتواضعه وأدبه مثلا كما هو المراد بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا، فكيف يكون أسوأ من الفقير في شدة الحاجة التي يستحق بها الصدقة؟ وإن كان أخص من الفقير بوصف المسكنة التي كان سببها الفقر فلا يظهر أن يكون المراد بها شدة الفقر وسوء الحال فيه؛ لأن ذكر الفقراء في هذه الحالة يغني عن ذكر المساكين لأنه يشملهم بعمومه لهم، ويكون استحقاق الشديد الفقر للصدقة أولى من استحقاق من دونه فيه، فلا يصح في الكلام البليغ أن يقال أعط هذه الصدقة أو أطعم هذا الطعام للفقراء ولأشد الناس فقراً، لأن ذكر أشدهم فقرا بعد ذكر الفقراء يكون لغواً إلا أن يراد به الإضراب عما قبله، وحينئذ يقال: بل لأشدهم فقرا، ولا يظهر هنا إرادة التأكيد للاهتمام، فترجح أو تعين أن يراد بالمساكين من جعلتهم مسكنة الفقر أقل اضطراباً فيه، وأكثر تجملاً وسكوناً لخفته عليهم وعدم وصوله بهم إلى الدرجة التي لا تطلق ولا يمكن إخفاؤها بالتجمل، ولا يرد على هذا قوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد: 16]؛ لأن شدة الحاجة الملصقة بالتراب لا تنافي التجمل والتعفف، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم {لا يسألون الناس إلحافا}، وفي لفظ (ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) والحديث بلفظيه متفق عليه، وهو صريح فيما اخترناه، وإنما أطلنا في المسألة لتنفيد ما أطاله فيها كثير من المقلدين. فالفقراء في آية الصدقات هم المستحقون لها بفقرهم كما قال في آية سورة البقرة: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]، وكما قال في مال الفيء من سورة البقرة {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] ثم خص المساكين من الفقراء بالذكر لأنهم ربما لا يفطن لهم لتجملهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن والياً وقاضياً: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) رواه الجماعة كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وكرائم أموال الناس خيارها ونفائسها التي تضن الأنفس بها، فلا يجوز للحكام والعاملين على الصدقات أخذها في الصدقة لتعطى للفقراء، ولا بالرشوة المحرمة بالأولى. والمساكين يدخلون في عموم الفقراء في هذا الحديث وأمثاله كالآيات لغة، وحيث يذكر المسكين أو المساكين في القرآن يراد به ما يعم الفقراء بالتغليب أو بطريق الأولى، إذ ورد ذلك في الأمر بالإحسان بهم وفي كفارات الظهار واليمين وصيد الحرم والغنائم وصدقة التطوع، فهما صنفان لجنس أو نوع واحد من المستحقين. وجملة القول إن بين الفقير والمسكين عموماً وخصوصاً وجهياً في اللغة، وعموماً وخصوصاً مطلقا في استعمال الشرع للفظين في آية الصدقات الجامعة بينهما، وحيث ذكر أحدهما وحده يراد به ما يعم الآخر، فاللفظان مختلفان في مفهومهما متحدان فيما يصدقان عليه، وما يعطاه الفقير والمسكين من الصدقة يختلف باختلاف الأحوال، ومقدار المال، وهو خاص بالمسلمين بخلاف صدقة التطوع. {والعاملين عليها} أي الذين يوليهم الإمام أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء وهم الجباة، وعلى حفظها وهم الخزنة، وكذا الرعاة للأنعام منها، والكتبة لديوانها، ويجب أن يكونوا من المسلمين، يقال كان فلان عامل الإمام أو السلطان على بلد كذا أو على الزكاة أو الخراج، وفي الأساس: ويقال: من الذي عُمِّل [بالتشديد والبناء للمفعول] عليكم؟ أي نصب عاملاً عليكم اه وقال في أول المادة: تقول أعط العامل عمالته، ووفه جعالته، وهو بالضم فيهما جزاء العمل وأجرته المعينة. وقال الجوهري: رزق العامل على عمله، ولا يشترط في العامل على الصدقات أن يكون مستحقا للصدقة بفقره مثلاً، ولكن إن وجد من هو أهل للعمل من المستحقين يكون أولى من غيره، وإنما عمالته على عمله لا على فقره، فإن لم تكفه كان له أن يأخذ بفقره ما يأخذه أمثاله، وإن كانت زائدة على حاجته أو كان غير محتاج فله أن يأكل منها ويهدي ويتصدق، وقد تجب عليه الزكاة بما يأخذه منها بشروطها من النصاب والحول، وقد يستغنى عنه فيسقط سهمه. ولا تجوز العمالة لمن تحرم عليهم الصدقة من آل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم بالاتفاق، وكذا بنو المطلب، ودليله أن الفضل بن عباس والمطلب بن ربيعة بن عبد المطلب سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمرهما على الصدقات بالعمالة كما يؤمر الناس فقال لهما: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)، وفي لفظ (لا تنبغي) بدل (لا تحل) رواه أحمد ومسلم. وروى أحمد والشيخان عن بسر بن سعيد أن ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت: إنما عملت لله، فقال خذ ما أعطيت، فأني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني، فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق). {والمؤلفة قلوبهم} أي الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام، أو التثبت فيه، أو بكف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم أو نصرهم على عدو لهم، لا في تجارة وصناعة ونحوهما. فإن من يرى أن مخالفه في الدين مصدر نفع له يوشك أن يواده فإن لم يواده لم يحاده كالعدو الذي يخشى ضرره ولا يرجو نفعه. وذكر الفقهاء أن المؤلفة قلوبهم قسمان: كفار ومسلمون، والكفار ضربان والمسلمون أربعة، فمجموع الفريقين ستة، وهذا بيانهم بالتفصيل والاختصار: الأول: قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، واستشهدوا له بإعطاء أبي بكر رضي الله عنه لعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن إسلامهما لمكانتهما في أقوامهما. الثاني: زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين مطاعون في أقوامهم يرجى بإعطائهم تثبيتهم وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا، فكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم. الثالث: قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو. وأقول: إن هذا العمل هو الرابطة، وهؤلاء الفقهاء يدخلونها في سهم سبيل الله كالغزو المقصود منها. وأولى منهم بالتأليف في زماننا قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهماً للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية والوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها!!أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟ الرابع: قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين وأرجح المصلحتين، وهذا سبب جزئي قاصر فمثله ما يشبه من المصالح العامة. الخامس: من الكفار من يرجى إيمانه بتأليفه واستمالته كصفوان بن أمية الذي وهب النبي صلى الله عليه وسلم له الأمان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه، وكان غائباً فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين... السادس: من الكفار من يخشى شره فيرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه. قال ابن عباس: إن قوماً كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أعطاهم مدحوا الإسلام وقالوا هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا. وكان من هؤلاء أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس الذين تقدم في قسمة غنائم هوازن من تفسير هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل. وعن أبي حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله للإسلام، وهو قول للشافعي. واحتجوا بما روي أن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه، وقال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، ولا حجة في هذا؛ بل قد يكون في غير الموضوع إذ لم يقل أحد أن كل مشرك يعطى لتأليفه. وقالوا أيضا: إن عيينة بن حصن والأقرع بن حابس جاءا يطلبان من أبي بكر رضي الله عنه أرضا فكتب لهما خطا بذلك فمزقه عمر رضي الله عنه وقال: هذا شيء كان يعطيكموه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليفا لكم، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال: هو إن شاء، فقد وافقه، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة. وهذه الرواية لا تقتضي سقوط هذا السهم، وإنما ذلك اجتهاد من عمر بأنه ليس من المصلحة استمرار هذا التأليف لهذين الرجلين الطامعين وأمثالهما، بعد الأمن من ضرر ارتدادهما لو ارتدا، لأن الإسلام قد ثبت في أقوامهما حتى أنه لا يترتب على قتلهما لو ارتدا أدنى فتنة. واحتجوا أيضا بأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا الصنف، وهذا لا يدل على سقوط السهم وإنما هو خبر سلبي لا حجة فيه، وقصارى ما يدل عليه أن الخليفتين لم يعرض لهما حاجة إلى تأليف أحد من الكفار لذلك، وهو لا ينافي ثبوته لمن احتاج إليه من الأئمة بعدهما. وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء والسكوت عليه من سائر الصحابة فدعواه ممنوعة. لا الإجماع بثابت بما ذكر، ولا كونه حجة على نسخ الكتاب والسنة صحيحا، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره هنا. وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار: وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجبائي والبلخي وابن بشر، وقال الشافعي: لا نتألف كافرا، فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف. وقال أبو حنيفة وأصحابه: قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته، واستدلوا على ذلك بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس. والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإن كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة اه. وهذا هو الحق في جملته، وإنما يجيء الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق ومقدار الذي يعطى من الصدقات ومن الغنائم إن وجدت وغيرها من أموال المصالح، والواجب فيه الأخذ برأي أهل الشورى كما كان يفعل الخلفاء في الأمور الاجتهادية. وفي اشتراط العجز عن إدخال الإمام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر، فإن هذا لا يطرد؛ بل الأصل فيه ترجيح الضررين وخير المصلحتين. {وفي الرقاب} أي وللصرف في إعانة المكاتبين من الأرقاء في فك رقابهم من الرق الذي هو من أكبر الإصلاح البشري المقصود من رحمة الإسلام، أو لشراء العبيد من قن ومبعّض وغير ذلك وإعتاقهم. والمختار الجمع بينهما كما قال الزهري. قال في منتقى الأخبار عند ذكر الوارد في هذا الصنف: وهو يشمل المكاتب وغيره. وقال ابن عباس: لا بأس أن يعتق من زكاة ماله. ذكره عنه أحمد والبخاري، وعن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويبعدني من النار، فقال: (أعتق النسمة، وفك الرقبة). فقال: يا رسول الله أوليسا واحدا؟ قال: (لا، عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها) رواه أحمد والدارقطني. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة، كلّ حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح المتعفف) رواه الخمسة إلا أبا داود اه. ويعني بالخمسة: الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة. قال الشوكاني: حديث البراء قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات، وحديث أبي هريرة، قال الترمذي: حسن صحيح. ثم قال: قد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {وفي الرقاب}، فروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير والليث والثوري والعترة والحنفية والشافعية وأكثر أهل العلم أن المراد به المكاتبون يعانون من الزكاة على الكتابة. وروي عن ابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد، وإليه مال البخاري وابن المنذر أن المراد بذلك أنها تشترى رقاب لتعتق. واحتجوا بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لأنه غارم، وبأن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة. وقال الزهري: إنه يجمع بين الأمرين، وإليه أشار المصنف وهو الظاهر؛ لأن الآية تحتمل الأمرين. وحديث البراء المذكور فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة والمبعدة من النار اه وهو الحق. {والغارمين} الظاهر أن هذا معطوف على قوله للفقراء والمساكين لأنه صرف لأشخاص موصوفين، لا على ما قبله وهو {في الرقاب} أي وللغارمين، وهم الذين عليهم غرامة من المال بديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها، واشترط الفقهاء أن تكون الديون في غير معصية الله تعالى إلا إذا علم أن الغارم تاب إلى الله تعالى، وفي غير إسراف وسفاهة إلا إذا رشد فكانت مساعدته من الصدقة عونا له على رشده، وكذا الغارمون لإصلاح ذات البين، وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أن أحدهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا، لا ضعة وذلا. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع) رواه أحمد وأبو داود. وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة فُسحت يأكلها صاحبها سحتا) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. {وفي سبيل الله} هذا معطوف على قوله: {وفي الرقاب} لا على ما قبله؛ لأنه صرف في مصلحة عامة لا لأشخاص مستهم الحاجة. والسبيل الطريق، وسبيل الله الطريق الاعتقادي العملي الموصل إلى مرضاته ومثوبته كما تقدم مراراً. ولكثرة اقتران الجهاد والقتال الديني في القرآن بكونه في سبيل الله اتفقت المذاهب على أن الغزاة والمرابطين هم المقصودون بهذا الصنف من مستحقي الصدقات إما وحدهم- وهو قول الجمهور- وإما مع غيرهم مما يشمله عموم الإضافة في سبيل الله، على بحث في تخصيصه سيأتي قريبا. وقد جاء في التنزيل ذكر الهجرة في سبيل الله والضرب -أي السفر- في سبيل الله،والإنفاق في سبيل الله، والمخمصة [أي المجاعة] في سبيل الله، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن المراد بأصحاب هذا السهم هنا: الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق بن راهويه أنهما جعلا الحج من سبيل الله. وفي كتاب المقنع من أشهر كتب الحنابلة في عد الأصناف ما نصه: السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم. ولا يعطى منها في الحج، وعنه -أي الإمام أحمد- يعطى الفقير قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه اه. وقد ضعف فقهاء الحنابلة هذه الرواية بأنها خلاف المتبادر، وهو أن الفقير إنما يعطى لفقره ما يسد به حاجته وحاجة من يمونه ممن تجب عليه نفقتهم، والحج غير واجب عليه. ومذهب الشافعية كمذهب الحنابلة في أن سهم سبيل الله للغزاة غير المرتبين في ديوان السلطان سواء أكانوا أغنياء أم فقراء. ونص الشافعي في الأم: ويعطى في سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيراً كان أو غنياً، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين اه... وقال الألوسي في تفسير الكلمة عند الحنفية: أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة والحجيج. وقيل المراد طلبة العلم، واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية، وفسره في البدائع بجميع القرب، فيدخل فيه كل سعي في طاعة الله وسبل الخيرات. قال في البحر: ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها، فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة، وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف اه. ونقول: إنه بهذا القيد أبطل كون سبيل الله صنفاً مستقلاً إذ أرجعه إلى الصنف الأول وهم الفقراء والمساكين اه. وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن: قوله: {وفي سبيل الله} قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافاً في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو من جملة سبيل الله [هكذا] إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج. والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر. وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى كان غنياً في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة إلا لخمسة: غاز في سبيل الله)، وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا. وهذه زيادة على النص، وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر.
وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله: {ولذي القربى} فشرط في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وحينئذ يعطون من الخمس، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه. وقال محمد بن عبد الحكم: يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؛ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة اه. وما قاله مالك وابن عبد الحكم من أصحابه من التعبير بالغزو بدل الغزاة، ومن الصرف في السلاح والكراع الخ هو الحق الظاهر من كون هذا السهم في المصلحة العامة لا لأشخاص الغزاة. وقال السيد حسن صديق في فتح البيان -وهو على مذهب أهل الحديث المستقلين بعد ذكر قول الجمهور أنهم الغزاة والمرابطون وإن كانوا أغنياء، وبعد ذكر الرواية المتقدمة عن ابن عمر وعن أحمد وإسحاق ما نصه: وقيل إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك. والأول أولى لإجماع الجمهور عليه اه. وقال في الروضة الندية: ومن جملة سبيل الله الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيباً سواء كانوا أغنياء أو فقراء. بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم، والأمر في ذلك مشهور... {وابن السبيل} اتفقوا على أنه المنقطع عن بلده في سفر لا يتيسر له فيه شيء من ماله إن كان له مال، فهو غني في بلده، فقير في سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده، وهو من عناية الإسلام بالسياحة بالإعانة عليها ولا يعرف مثله في دين ولا شرع آخر، واشترطوا أن يكون سفره في طاعة أو في غير معصية على الأقل، ولكن اختلفوا في السفر المباح كالتنزه لا الاستشفاء، وإنما أخذ هذا الشرط من قواعد الدين العامة كالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، ومن الطاعة في السفر كونه بقصد ما أرشد إليه الوحي من النظر في آيات الله وسننه في الأمم كما فصلناه في الأصلين 13 و14 من خلاصة تفسير سورة الأنعام (ج 8 تفسير)، وقلما يوجد غني يسافر في أمصار الحضارة في العصر لا يقدر على جلب المال من بلده إلى بلد آخر.
{فريضة من الله} أي فرض الله لهم ذلك، أو هذه الصدقات فريضة منه تعالى فليس لأحد فيها رأي، أو تقدير الكلام، إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين وفيما ذكر من مصالح الأمة حال كونها مفروضة لهم من الله تعالى. {والله عليم حكيم} عليم بحال عباده ومصالحهم، حكيم فيما يشرعه لهم، فهو لتطهير أنفسهم وتزكيتها بما يحمل عليها من الإخلاص والشكر له وإرضائه بنفع عباده، كما قال فيما سيأتي في هذه السورة {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وهو حجة على نفاة المصالح في أفعال الله وأحكامه. هذا ما فتح علينا في معنى الآية، ونعززه بمباحث في نظمها وأحكامها وحكمها، ومدارك الأئمة، وما تقتضيه مصالح الأمة، وحالة هذا العصر فيها، فنقول:
- مصارف الصدقات قسمان: أشخاص ومصالح. علم مما تقدم أن مصارف الصدقات في الآية قسمان:
أحدهما: أصناف من الناس يملكونها تمليكاً بالوصف المقتضي للتمليك وعبر عنه بلام الملك.
وثانيهما: مصالح عامة اجتماعية ودولية لا يقصد بها أشخاص يملكونها بصفة قائمة فيهم وعبر عنه بفي الظرفية وهو قوله تعالى: {وفي الرقاب} وقوله: {وفي سبيل الله}.
والأول الفقراء والمساكين يستحقونها بفقرهم ما داموا فقراء، والعاملون عليها يستحقونها بعملهم وإن كانوا أغنياء، والمؤلفة قلوبهم يستحقها منهم من ثبت عند أولي الأمر الحاجة إلى تأليفه، والغارمون بقدر ما يخرجهم من غرمهم، وابن السبيل بقدر ما يساعده على العود إلى أهله وماله- وهذا في معنى الفقير، ولكن قد يكون فقره عارضاً بسبب السياحة.
والقسم الثاني فك الرقاب وتحريرها وهي مصلحة عامة في الإسلام، وليس فيها تمليك لأشخاص معينين بوصف فيهم، وفي سبيل الله وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة، وتقدم مثله عن محمد بن عبد الحكم. ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك، لأنه لا يملكه دائما بصفة الغزو التي قامت به؛ بل يستعمله في سبيل الله، ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله، بخلاف الفقير والعامل عليها والغارم والمؤلف وابن السبيل فإنهم لا يردون ما أخذوا بعد فقد الصفة التي أخذوه بها. ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية وكذا الخيرية العامة، وإشراع الطرق وتعبيدها، ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية، ومنها بناء البوارج المدرعة والمناطيد والطيارات الحربية والحصون والخنادق. ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي كما يفعله الكفار في نشر دينهم. وقد بينا تفصيل هذه المصلحة العظيمة في تفسير قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران: 104] الآية، ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة. وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر. ولا يعطى عالم غني لأجل علمه، وإن كان يفيد الناس به. والترتيب في هذه الأصناف لبيان الأحق فالأحق للصدقات على القاعدة الغالبة عند فصحاء العرب في تقديم الأهم فالأهم على ما دونه في الموضوع، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب في معطوفاتها، فالفقراء والمساكين أحق من غيرهم بهذه الصدقات، لأنهم المقصودون بها أولاً وبالذات، بدليل الحديث المتقدم (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)، ويليهم العاملون عليها لأنهم هم الذين يقومون بجمعها وحفظها، وقال بعض الفقهاء: إنهم أول من يعطى عمالته منها إلا إذا كان لهم رواتب من بيت المال أو رأى ولي الأمر إعطاءهم عمالتهم منه، ويليهم المؤلفة قلوبهم عند الحاجة إليهم وهم يعطون من الغنائم أيضاً، فالحاجة إليهم عارضة لا كالعاملين على الصدقات، ويليهم مصلحة فك الرقاب والعتق وهي من المصالح الاجتماعية الكمالية لا الضرورية، فإن تأخيرها لا يرهق معوزاً كالفقير، ولا يضيع مصلحة تشتد الحاجة إليها كتأليف القلوب، ويليها مساعدة الغارم على الخروج من غرمه، فهو دون مساعدة الرقيق على الخروج من رقه، ويليهم المصلحة العامة المعبر عنها بسبيل الله، فهي من قبيل العام الذي يراد به ما وراء ذلك الخاص مما قبلها الذي تكثر الحاجة إليه، وأما ابن السبيل فهو دون جميع ما قبله لندرة وجوده. ولولا إرادة الترتيب لذكر المستحقون من الأفراد بأوصافهم التي اشتقت منها ألقابهم نسقاً (وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل) ثم ذكرت بعدهم المصالح الذي أدخل عليها «في» وهي الرقاب وسبيل الله. وليس المراد من هذا الترتيب أن كل صنف يحجب ما دونه حجب حرمان أو نقصان كترتيب الوارثين، وإنما يظهر اعتباره في حال قلة المال، فالمتجه حينئذ أنه يقدم فيه الأهم -وهو الفقراء والمساكين- ولكن بعد سهم العاملين عليها إن كانوا هم الذين جمعوها ولم ير الإمام إعطاءهم عمالتهم من بيت المال، وسيأتي ذكر خلاف العلماء في قسمتها في المسألة الثالثة من هذه المباحث. هذا ما نفهمه من الآية عند قراءتها، ولكننا بعد أن كتبنا ما فهمناه راجعنا الكشاف الذي يعنى بهذه النكت الدقيقة قرأنا له رأيا آخر في نكتة اختلاف التعبير من حيث تقسيم الأصناف إلى القسمين يخالف رأينا من بعض الوجوه قال: فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ لأن «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق والأسر، وفي فك الغارمين من الغرم، من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال. وتكرير «في» في قوله {وفي سبيل الله وابن السبيل} فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين اه. وقد ذكر أحمد بن المنير في [الانتصاف] نكتة أخرى هي أقرب إلى ما قلناه قال: وثم سر آخر هو أظهر وأقرب، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكاً، فكان دخول اللام لائقاً بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم؛ بل ولا يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به. وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم. وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك. وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجاً في سبيل الله وإنما أفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً، وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجهاً في الاستدلال لمالك على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك لام الملك، فيقول: متعلق الجار الواقع خبراً عن الصدقات محذوف فيتعين تقديره، فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كقول مالك، أو مملوكة للفقراء كقول الشافعي، لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعاً يصح تعلق اللام به وفي معاً، فيصح أن تقول: هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقديره مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى«في» يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من اللام عام التعلق شامل الصحة متعين والله الموفق اه. وما قاله ابن المنير يوافق قولنا في الجملة، إلا أنه جعل سهم الغارمين من المصالح وهو محتمل، وما قلناه فيهم أظهر؛ لأنه لا يشترط أن يعطى كل ما يأخذونه لأرباب ديونهم ولا سيما الغارمين لإصلاح ذات البين، فما يعطونه مساعدة على ما يعطون غيرهم أو تعويض عما أعطوا. وأجاز الوجهين في ابن السبيل، وضعفه ظاهر فهو ممن يملكون سهمهم... 2 4- الزكاة المطلقة والمعينة، ومكانتها في الدين، وحكم دار الإسلام ودار الكفر أو الذبذبة فيها فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام وترك أمر مقدارها ودفعها إلى شعور المؤمنين وأريحيتهم، ثم فرض مقدارها من كل نوع من أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور، وقيل في الأولى، ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وكانت تصرف للفقراء كما قال تعالى في سورة البقرة {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]، وقد نزلت في السنة الثانية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وتقدم. ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنة تسع، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كان في هذه السنة. والحكمة فيما ذكر أن تعيين المقادير وقيام أولي الأمر بتحصيلها وتوزيعها على من فرضت لهم وتعدد أصنافهم كل ذلك إنما وجد بوجود حكومة إسلامية تناط بها مصالح الأمة في دينها ودنياها في دار تسمى دار الإسلام؛ لأن أحكامه تنفذ فيها بسلطانه، وكانت أول دار للإسلام دار الهجرة؛ إذ كانت مكة دار كفر وحرب، لا ينفذ فيها للإسلام حكم، بل لم يكن لأحد من أهله فيها حرية الجهر بالصلاة إلا بحماية قريب أو جار من المشركين. وإمام المسلمين في دار الإسلام هو الذي تؤدى له صدقات الزكاة، وهو صاحب الحق بجمعها وصرفها لمستحقيها، ويجب عليه أن يقاتل الذين يمتنعون عن أدائها إليه كما فعل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه فيمن منعوا الزكاة من العرب وقال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها» وهو متفق عليه. فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام -بعد الشهادتين والصلاة المفروضة وأظهر آيات الإيمان، وتقدم في هذه السورة اشتراط أدائها في قبول إسلام الكفار وعدهم إخواناً للمسلمين في الدين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع المسلمين على أدائها، وأجمع المسلمون على كفر جاحدها ومستحل تركها، وقد بينا مكانة الزكاة في الإسلام ودلالتها على صدق الإيمان وضلال تاركيها في هذا الزمان في مواضع كثيرة من هذا التفسير. ولكن أكثر المسلمين لم يبق لهم في هذا العصر حكومات إسلامية تقيم الإسلام بالدعوة إليه والدفاع عنه، والجهاد الذي يوجبه وجوباً عينياً أو كفائياً، وتقيم حدوده، وتأخذ الصدقات المفروضة كما فرضها، وتضعها في مصارفها التي حددها، بل سقط أكثرهم تحت سلطة دول الإفرنج، وبعضهم تحت سلطة حكومات مرتدة عنه أو ملحدة فيه، ولبعض الخاضعين لدول الإفرنج رؤساء من المسلمين الجغرافيين اتخذهم الإفرنج آلات لإخضاع الشعوب لهم باسم الإسلام حتى فيما يهدمون به الإسلام، ويتصرفون بنفوذهم وأمرهم في مصالح المسلمين وأموالهم الخاصة بهم فيما له صفة دينية من صدقات الزكاة والأوقاف وغيرها، فأمثال هذه الحكومات لا يجوز دفع شيء من الزكاة لها مهما يكن لقب رئيسها ودينه الرسمي. وأما بقايا الحكومات الإسلامية التي يدين أئمتها ورؤساؤها بالإسلام ولا سلطان عليهم للأجانب في بيت مال المسلمين فهي التي يجب أداء الزكاة الظاهرة لأئمتها، وكذا الباطنة كالنقدين إذا طلبوها، وإن كانوا جائرين في بعض أحكامهم كما قال الفقهاء، وتبرأ ذمة من أداها إليهم وإن لم يضعوها في مصارفها المنصوصة في الآية الحكيمة بالعدل. والذي نص عليه المحققون كما في شرح المهذب وغيره أن الإمام أو السلطان إذا كان جائراً لا يضع الصدقات في مصارفها الشرعية فالأفضل لمن وجبت عليه أن يؤديها لمستحقيها بنفسه، إذا لم يطلبها الإمام أو العامل من قبله. 5 لا تعطى الزكاة للمرتدين، ولا للملاحدة والإباحيين: من المعلوم بالاختبار أنه قد كثر الإلحاد والزندقة في الأمصار التي أفسد التفرنج تربيتها الإسلامية وتعليم مدارسها، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن المرتد عن الإسلام شر من الكافر الأصلي، فلا يجوز أن يعطى شيئاً من الزكاة ولا من صدقة التطوع، وأما الكافر الأصلي غير الحربي فيجوز أن يعطى من صدقة التطوع دون الزكاة المفروضة. والملاحدة في أمثال هذه الأمصار أصناف: [منهم] من يجاهر بالكفر بالله إما بالتعطيل وإنكار وجود الخالق، وإما بالشرك بعبادته، ومنهم من يجاهر بإنكار الوحي وبعثة الرسل، أو بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم أو في القرآن أو في البعث والجزاء، ومنهم من يدعي الإسلام بمعنى الجنسية السياسية ولكنه يستحل شرب الخمر والزنا وترك الصلاة وغيرها من أركان الإسلام، فلا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج البيت الحرام مع الاستطاعة، وهؤلاء لا اعتداد بإسلامهم الجغرافي، فلا يجوز إعطاء الزكاة لأحد ممن ذكر، بل يجب على المزكي أن يتحرى بزكاته من يثق بصحة عقيدتهم الإسلامية وإذعانهم للأمر والنهي القطعيين في الدين، ولا يشترط في هؤلاء عدم اقتراف شيء من الذنوب، فإن المسلم قد يذنب ولكنه يتوب. ومن أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا ببدعة عملية أو اعتقادية هو فيها متأول لا جاحد للنص. وإن الفرق عظيم بين المسلم المذعن لأمر الله ونهيه إذا أذنب، والمستحل لترك الفرائض واقتراف الفواحش فهو يصر عليهما بدون شعور ما بأنه مكلف من الله بشيء، ولا بأنه قد عصاه وأنه يجب عليه أن يتوب إليه ويستغفره. ولا ينبغي إعطاء الزكاة لمن يشك المسلم في إسلامه. وما أدري ما يقول فيمن يراهم بعينه في المقاهي والحانات والملاهي يدخنون أو يسكرون في نهار رمضان حتى في وقت صلاة الجمعة، وربما كان الملهى تجاه مسجد من مساجد الجمعة؟ هل يعد هؤلاء من المسلمين المذنبين؟ أم من الملاحدة الإباحيين؟ مهما يكن ظنه فيهم فلا يعطهم من زكاة ماله شيئاً، بل يتحرى بها من يثق بدينه وصلاحه، إلا إذا علم أن في إعطاء الفاسق استصلاحاً له فيكون من المؤلفة قلوبهم.
التزام أداء الزكاة كاف لإعادة مجد الإسلام المال قوام الحياة الاجتماعية والملية أو ملاكها وقيام نظامها كما قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء: 5]، وإن الإسلام يمتاز على جميع الأديان والشرائع بفرض الزكاة فيه كما يعترف له بهذا حكماء جميع الأمم وعقلاؤها. ولو أقام المسلمون هذا الركن من دينهم لما وجد فيهم بعد أن كثرهم الله ووسع عليهم في الرزق فقير مدقع، ولا ذو غرم مفجع، ولكن أكثرهم تركوا هذه الفريضة فجنوا على دينهم وملتهم وأمتهم، فصاروا أسوأ من جميع الأمم حالاً في مصالحهم الملية والسياسية، حتى فقدوا ملكهم وعزهم وشرفهم، وصاروا عالة على أهل الملل الأخرى حتى تربية أبنائهم وبناتهم، فهم يلقونهم في مدارس دعاة النصرانية أو دعاة الإلحاد فيفسدون عليهم دينهم ودنياهم، ويقطعون روابطهم الملية والجنسية، ويعدونهم ليكونوا عبيداً أذلة للأجانب عنهم. وإذا قيل لهم: لماذا لا تؤسسون لأنفسكم مدارس كمدارس هؤلاء الرهبان والمبشرين؟ أو الملاحدة الإباحيين؟ قالوا: إننا لا نجد من المال ما يقوم بذلك. وإنما الحق أنهم لا يجدون من الدين والعقل وعلو الهمة والغيرة ما يمكنهم من ذلك، فهم يرون أبناء الملل الأخرى يبذلون للمدارس وللجمعيات الخيرية والسياسية ما لا يوجبه عليهم دينهم، وإنما أوجبته عليهم عقولهم وغيرتهم الملية والقومية ولا يغارون منهم، وإنما يرضون أن يكونوا عالة عليهم. تركوا دينهم، فضاعت بإضاعتهم له دنياهم {نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} [الحشر: 19]. فالواجب على دعاة الإصلاح فيهم أن يبدؤوا بإصلاح من بقي فيه بقية من الدين والشرف بتأليف جمعية لتنظيم جمع الزكاة منهم، وصرفها قبل كل شيء في مصالح المرتبطين بهذه الجمعية دون غيرهم، ويجب أن يراعى في نظام هذه الجمعية أن لسهم المؤلفة قلوبهم مصرفا في مقاومة الردة والإلحاد، وأن لسهم فك الرقاب مصرفا في تحرير الشعوب المستعمرة من الاستعباد، إذا لم يكن له مصرف في تحرير الأفراد، وأن لسهم سبيل الله مصرفاً في السعي لإعادة حكم الإسلام، وهو أهم من الجهاد لحفظه في حال وجوده من عدوان الكفار، ومصرفاً آخر في الدعوة إليه والدفاع عنه بالألسنة والأقلام، إذا تعذر الدفاع عنه بالسيوف وبالأسنة وبألسنة النيران. ألا إن إيتاء جميع المسلمين أو أكثرهم للزكاة وصرفها بالنظام، كاف لإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام، وإنقاذ المسلمين من رق الكفار، وما هي إلا بذل العشر أو ربع العشر مما فضل عن حاجة الأغنياء. وإننا نرى الشعوب التي سادت المسلمين بعد أن كانوا سادتهم يبذلون أكثر من ذلك في سبيل أمتهم وملتهم، وهو غير مفروض عليهم من ربهم. وقد كثر تساؤل أذكياء المسلمين عن إحياء فريضة الزكاة وقوي استعداد أهل الغيرة للقيام به في هذا العصر، وكاد بعض أهل الأهواء يستغلون هذا الاستعداد لمنافعهم، فهل تجد من أهل الاستقامة من ينهض به نهضة تكون أهلاً لأن يثق بها العالم الإسلام ويعززها، قبل أن يقطع عليهم المنافقون والأعداء طريقها؟ طالما طالبنا العقلاء بالدعوة إلى هذا العمل الجليل، وما زلنا نسوف انتظاراً للأنصار الذين أشرنا إلى صفتهم، وقد اضطررنا إلى التصريح بالاقتراح هنا قبل العثور عليهم. وسنعود إن شاء الله تعالى إلى بقية فوائد الزكاة وحكمها وأحكامها في تفسير آية {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103] في أواخر هذه السورة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق اللّه وحق رسوله، تطوعاً ورضا وإسلاماً، يقرر أن الأمر -مع ذلك -ليس أمر الرسول؛ إنما هو أمر اللّه وفريضته وقسمته، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين. فهذه الصدقات- أي الزكاة -تؤخذ من الأغنياء فريضة من اللّه، وترد على الفقراء فريضة من اللّه. وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن، وليست متروكة لاختيار أحد، حتى ولا اختيار الرسول: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل. فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم).. وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اللّه، ومكانها في النظام الإسلامي، لا تطوعاً ولا تفضلا ممن فرضت عليهم. فهي فريضة محتمة. ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع. فهي فريضة معلومة. إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة. وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ.. كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول، ولن يقوم! إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل- بكل صنوفه وألوانه -وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه، وأن تمكنه منه بالإعداد له، وبتوفير وسائله، وبضمان الجزاء الأوفى عليه، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح، منفذاً شريعة اللّه، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه. عن ابن عمر- رضي اللّه عنهما -قال: قال رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". وعن عبداللّه بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما. ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام. وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط: والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال. وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول. وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة. ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين. والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون. وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة. بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم. فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي. وبعضهم يكون لم يؤد شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها. فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي.. وهي قبل هذا وذاك فريضة من اللّه، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اللّه، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين).. وقد سبق بيانهما. (والعاملين عليها).. أي الذين يقومون على تحصيلها. (والمؤلفة قلوبهم).. وهم طوائف، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه. ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا. ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون.. وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام.. ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك. ندرك هذه الحقيقة، فنرى مظهراً لكمال حكمة اللّه في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال. (وفي الرقاب).. ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم. ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق.. وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له، ليحصل على حريته بمساعدة قسطه من الزكاة. أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال. (والغارمين).. وهم المدينون في غير معصية. يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم، بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجار مهما تكن الأسباب! فالإسلام نظام تكافلي، لا يسقط فيه الشريف، ولا يضيع فيه الأمين، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب! (وفي سبيل اللّه).. وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة، تحقق كلمة اللّه. (وابن السبيل).. وهو المسافر المنقطع عن ماله، ولو كان غنياً في بلده. هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان.. هذه هي فريضة اجتماعية، تؤدى في صورة عبادة إسلامية. ذلك ليطهر اللّه بها القلوب من الشح؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة، تندّي جو الحياة الإنسانية، وتمسح على جراح البشرية؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود. وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه، كما تربط بينه وبين الناس: (فريضة من اللّه) الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، ويدبر أمرها بالحكمة: (واللّه عليم حكيم)...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وأخيرا تناول كتاب الله موضوع الزكاة بالتأصيل والتفصيل، وهي الصدقة التي فرضها الله على أغنياء المسلمين في أموالهم لترد على فقرائهم، حماية للمجتمع الإسلامي من عوامل الفرقة والانقسام، وتوجيها له نحو العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي هي جزء لا يتجزأ من أصل "العدالة العامة "في الإسلام، فبين كتاب الله وجوب دفعها، وحدد وجوه صرفها، ولفت كتاب الله بذلك أنظار الجميع، إلى أن أمر الصدقات موكول إلى الله لا إلى غيره، فهو الذي أعلن حكمها، وهو الذي تولى قسمها، ولذلك فلا محل لأي لمز أو تقريع، فيما حدده لها من القسم والتوزيع، وذلك قوله تعالى هنا: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم}. قال القاضي أبو بكر "ابن العربي "ما خلاصته: "هذه الآية من أمهات الآيات فقد خص الله بعض الناس بالأموال دون البعض، نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم من مالهم، يردونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بفضله للمحتاجين من رزق في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلى على الله رزقها}، وقدر الصدقات على حسب أجناس الأموال، فجعل في النقدين ربع العشر، وجعل في النبات العشر، ومع تكاثر المئونة نصف العشر، و {الصدقة} متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض، ولفظ الصدقة مأخوذ من" الصدق "بمعنى مساواة الفعل للقول والاعتقاد، وبناء" ص د ق "يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به، ومنه" صداق المرأة "أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح، على وجه مشروع، ومشابهة الصدق ها هنا للصدقة أن من أيقن من دينه أن البعث حق، وأن الدار الآخرة هي المصير، -وأن هذه الدار الدانية قنطرة إلى الأخرى، وباب إلى السوأى أو الحسنى –" مؤنث الأسوأ والأحسن "عمل لها، وقدم ما يجده فيها، فإن شك فيها أو تكاسل عنها وآثر عليها بخل بماله، وغفل عن مآله}. والآن فلنتحدث عن الألفاظ الواردة في هذا السياق لفظا لفظا حتى يتضح المعنى المراد، إذ كل لفظ منها يعبر عن صنف من أصناف المستحقين للزكاة: فلفظ" الفقراء "جمع فقير، وهو المحتاج المتعفف. ولفظ" المساكين "جمع مسكين، وهو المحتاج السائل، وهذا التفسير للاثنين منقول عن الإمام مالك في كتاب ابن سحنون. وجاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المسكين ما هو فقال: (الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا). ولفظ" العاملين عليها "يراد به الجباة والسعاة الذين يذهبون لتحصيل الزكاة ويوكلون على جمعها...
ولفظ" المؤلفة قلوبهم "يشمل المسلم الذي يعطي ليحسن إسلامه ويزداد يقينه، والكافر الذي له ميل إلى الإسلام، فيعطي لتقوية ذلك الميل فيه حتى يسلم، تأثرا بعطاء المسلمين وإحسانهم، وفي حكمهما من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه، ومن يعطى ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد. وروي عن مالك أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن إسلامهم). ولفظ" الرقاب "المراد به شراء الرقاب وعتقها من الرق، وذلك هو ظاهر القرآن الكريم، فإن الله حيثما ذكر الرقبة في كتابه إنما أراد منها العتق. روى الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داوود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي في سبيل الله، والمكاتب" أي الرقيق "الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف). ولفظ" الغارمين "المراد به من ركبهم الدين ولا قدرة لهم على الوفاء به، اللهم إلا من تداين في سفاهة، فإنه لا يعطى من الزكاة ولا من غيرها، إلا أن يتوب، فإن مات من ركبه الدين في غير سفاهة قضي دينه من الزكاة، لأنه من الغارمين. ولفظ" في سبيل الله "قال الإمام مالك:"سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ها هنا الغزو "الجهاد"، وقال محمد بن عبد الحكم:"يعطى من الصدقة – أي الزكاة – في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته". ولفظ "ابن السبيل" المراد به من غاب عن بلده ومستقر ماله، وانقطعت به الأسباب فلم يجد ما ينفقه في سفره، ولو كان غنيا في بلده. قال مالك في كتاب ابن سحنون: "وليس يلزمه أن يدخل تحت منة أحد، وقد وجد منة الله ونعمته" قال ابن كثير: "وهذا الحكم يماثله حكم من أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه} إن لم يكن سفر معصية. وقوله تعالى: {فريضة من الله} أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه. وقوله تعالى: {والله عليم حكيم} أي عليم بظواهر الناس وبواطنهم، حكيم فيما يحكم به عليهم، حكيم فيما يشرعه لهم: {والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب}...
وأراد الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك أن يبين مصارف الصدقة حتى يعرف هؤلاء الراغبون في متاع الدنيا هذه المصارف ويتعرفوا إلى حقيقة الأمر، وليتبينوا هل هم يستحقون الصدقة أم لا، فقال جل جلاله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين و في سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)}. وعندما تسمع كلمة {إنما} فافهم أنه يراد بها القصر، فإذا قلت: إنما الرجل زيد، أي: أنك قصرت الرجولة على زيد. وإن قلت: إنما الكريم حاتم، وتكون قد قصرت الكرم على حاتم. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إنما الصدقات} معناها: أن الصدقات محصورة في هؤلاء ولا تتعداهم. فمن هم هؤلاء الذين حصر الحق سبحانه وتعالى فيهم الصدقة؟ وما المراد بالصدقة؟ هل هي صدقة التطوع أو الزكاة؟. نقول: ما دام الحق سبحانه وتعالى قد حدد لها مصارف فهي الزكاة، ولسائل أن يسأل: لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى الزكاة وقال الصدقة؟. ونقول: ألا ترى-في المجتمعات غير الإيمانية الملحدة- أن من الناس من يفكرون في إنشاء مؤسسات اجتماعية لرعاية الفقراء؟ إن عطف الإنسان على أخيه الإنسان هو أمر غريزي خلقه الله فينا جميعا، ولذلك كان يجب أن نفهم أن الزكاة صدقة، ولو لم يشرعها الله لكان يجب أن يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان. وحوادث الكون كلها تدل على صدق وصف الحق سبحانه وتعالى للزكاة بأنها صدقة؛ لأنها تأتي تطوعا من غير المؤمن وغير الملتزم بالتشريع، ويحس القادر بالسعادة وهو يعطي لغير القادر، وهي غريزة وضعها الله في خلقه ليخفف من الشقاء في الكون. وهنا يقول الحق: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} وقد احتار العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الفقير هو الذي لا يجد شيئا فهو معدم. والمسكين هو من يملك شيئا ولمنه لا يكفيه، على هذا يكون المسكين أحسن حالا من الفقير، واستندوا في ذلك إلى نص قرآني في قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر...
(79)} (الكهف). وما دام هؤلاء المساكين يملكون سفينة إذن فعندهم شيء يملكونه. ولمن العائد الذي تأتي به السفينة لا يكفيهم. ولكن بعض العلماء قالوا عكس ذلك، ورأوا أن المسكين هو من لا يملك شيئا مطلقا، والفقير هو الذي يجد الكفاف. وعلى هذا يكون الفقير أحسن حالا من المسكين، ولا أعتقد أن الدخول في هذا الجدل له فائدة؛ لأن الله أعطى الإثنين.. الفقير والمسكين. كلمة "فقير "معناها الذي أتعبت الحياة فقار ظهره أي فقرات ظهره، وحاله للتعبير عنه، والمسكين هو الذي أذهلته المسكنة. ثم يأتي بعد ذلك: {والعاملين عليها} أي: الذين يقومون بجمع الصدقات ويأخذونها ممن يعطيها ويضعنها في بيت المال، ونلاحظ هنا أن {والعاملين عليها} جاءت مطلقة، فلم تحدد هل يستحق الصدقة من كان يجمعها وهو فقير، أو من كان يجمعها وهو غير محتاج. ونقول: إن جمع الصدقة عمل، ولو قلنا: إن غير محتاج ويعمل في جمع الصدقة لا يجب أن يأخذ أجرا، هنا يصبح عمله لونا من التفضل، وما دام العمل تفضلا فلن يكون بنفس الكفاءة التي يعمل بها، إذا كان العمل بالأجر. وأيضا حتى لا يحرم المجتمع من جامع صدقة ذكي نشيط؛ لأنه غير محتاج، ولكن نعطيه أجرا ليكون مسئولا عن عمله، والمسؤولية لا تأتي إلا إذا ارتبطت بالأجر. والعامل على جمع الصدقة إنما يعمل لصالح الدولة الإيمانية، فهو يجمع الصدقات ويعطيها للحاكم أو الوالي الذي يوزعها. وفي هذا مصلحة لمجتمع المسلمين كله. خصوصا إن كانت الصدقة توزع من بيت المال فلا يتعالى أحد على أحد، ولا يذل أحد أمام أحد، وفي هذا حفظ لكرامة المؤمنين؛ لأن من يأخذ من غير بيت المال سيعاني من انكسار يده السفلى. ومن يعطي لغير بيت المال قد يكون في عطائه لون من تعالي صاحب اليد العليا، وكذلك فإن أولاد الفقير لن يروا أباهم وهو ذاهب إلى رجل غني ليأخذ منه الصدقة ويصاب بالذلة والانكسار. ولا يرى أولاد الغني هذا الفقير وهو يأتي إلى أبيهم ليأخذ منه الصدقة، فيتعالون على أبناء الفقير. فإن أخذ الفقراء الصدقة من بيت المال، كان ذلك صيانة لكرامة الجميع، وإن حدث خلاف بين غني وفقير فلن يقول الغني للفقير: أنا أعطيك كذا وكذا، أو يقول أولاد الغني لأولاد الفقير: لولا أبونا لمتم جوعا. إذن: فقد أراد الحق سبحانه بهذا النظام أن يمنع طغيان المعطي، ويمنع-أيضا- ذلة السؤال، فالكل يذهب إلى بيت المال ليأخذ أو يعطي. وحين يذهب الفقير ليأخذ من بيت المال بأمر من الوالي فلا غضاضة؛ لأن المحكومين تحت ولايته مسئولون منه. ثم يأتي الحق إلى فئة أخرى فيقول: {والمؤلفة قلوبهم} وهم من يريد الإسلام أن يستميلهم، أو على الأقل أن يكفروا آذاهم عن المسلمين. وكان المسلمون في الزمن الأول للإسلام ضعافا لا يقدرون على حماية أنفسهم. وعندما أعز الله دولة المسلمين بالقوة والعزة والمكانة، منع الخليفة عمر ابن الخطاب إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة؛ لأنه لم يجد أن قوة الإسلام تحتاج أحدا غير صحيحي الإيمان؛ لذلك لم يدخلهم عمر ابن الحطاب في فئات الزكاة. وقول الحق سبحانه: {والمؤلفة قلوبهم} يثير سؤالا: هل يؤلف القلب؟. نقول: نعم، فالإحسان يؤلف قلب الإنسان السوي، وكذلك يؤلف جوارح الإنسان غير السوي، فلا يتعدى على من أحسن إليه باللسان أو باليد. ثم يقول سبحانه: {وفي الرقاب} ومعناها العبيد الذين أسروا في حرب مشروعة. وكانت تصفية الرق من أهداف الإسلام؛ لذلك جعل من مصارف الزكاة تحرير العبيد. وبعض من الناس يدعون أن الإسلام لذلك جاء بالرق وأقره. ونقول: لم يأت الإسلام بالرق؛ لأن الرق كان موجودا قبيل البعثة المحمدية، وجاء الإسلام بالعتق ليصفي الرق، فجعل من فك الرقبة لبعض الذنوب. وجعل من مصارف الزكاة عتق العبيد. وقد نزل القرآن وقت أن كانت منابع الرق متعددة. وكان من المعتاد في تلك الأيام أن المدين الذي يعجز عن سداد ما عليه من دين، فالدائن يأخذه أحد أبنائه كعبد له. وإذا فعلت جناية، فالجاني يأخذ العفو من المجني عليه مقابل أن يعطيه أحد أولاده عبدا. وإذا سرق شيء فإن السارق لا يعاقب، بل يعطي أحد أولاده عبدا للمسروق منه وكان الأقوياء يستعبدون الضعفاء؛ فيخطفون نساءهم وأولادهم بالقوة ويبيعونهم في سوق الرقيق، وهكذا كانت منابع الرق في العالم متعددة، ولا يوجد إلا مصرف واحد هو إرادة السيد؛ إن شاء حرر وإن شاء لم يحرر. وقد كان الرق موجودا في أوروبا وفي آسيا وفي إفريقيا ووجد أيضا في أمريكا. إذن: كانت هناك منابع متعددة للرق؛ ومصرف واحد هو إرادة السيد، وقد كان الرق يتزايد، وجاء الإسلام والعالم غارق في الرق، لماذا؟. لأن الرق في ذلك الوقت كان يشبه حوضا تصب فيه صنابير متعددة، وليس له إلا بالوعة واحدة. ولم يعالج الإسلام المسألة طفرة واحدة، شأن معظم تشريعات الله، ولكنه عالجها على مراحل، تماما كتحريم الخمر حين بدأ التحريم بالمنع عند الصلاة، فقال الحق سبحانه وتعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون... (43)} (النساء) ثم حرمها تحريما قاطعا. وحين جاء الإسلام ليعالج قضية الرق ويحرر الإنسان من العبودية، بدأ بإغلاق مصادر الرزق وجعل المصدر الوحيد هو الحرب الإيمانية المشروعة من ولي الأمر. أما كل الوسائل والألوان الأخرى من أبواب الرق، كأن يتم استعباد أحد كعقوبة جنائية أو لعجزه عن تسديد دين أو غير ذلك، فقد أغلقها الإسلام بالتحريم. أما ناحية المصرف فلم يجعله مصرفا واحدا وهو إرادة السيد، بل جعله مصارف متعددة؛ فالذي يرتكب ذنبا يعرف أن الله لن يغفر له إلا إذا أعتق رقبة، ومن حلف يمينا ويريد أن يتحلل منها؛ يعتق رقبة. فإذا لم يفعل هذا كله أراد أن يحسن إحسانا يزده من أجره عند الله؛ أعتق رقبة. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {فلا اقتحم العقبة (11) وما أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13)} (البلد). وهكذا جعل الإسلام مصارف كثيرة لتصفية الرق حتى ينتهي في سنوات قليلة، ثم وضع بعد ذلك ما ينهي الرق فعلا، وإن لم ينه شكلا. فإذا كان عند أي سيد لون من الإصرار على أن يستبقي عبده، فلا بد أن يلبسه مما يلبس، ويطعمه مما يطعم، إن كلفه يعينه. وهكذا أصبح الفارق متلاشيا بين السيد وعبده. وحين ألغت بعض الدول الإسلامية الرق بالقانون، ذهب الرقيق إلى أسيادهم وقالوا: دعونا نعش معكم كما كنا. وهم قد فعلوا ذلك لأن حياتهم مع أسيادهم كانت طيبة. وهكذا ألغى الإسلام فوارق الرق كلها. وأصبحت مسألة شكلية لا تساوي شيئا. ولكن بعض الناس يتساءل: وماذا عن قول الحق سبحانه وتعالى: {وما ملكت أيمانكم... (36)} (النساء). نقول: افهم عن الله فهذا الأمر لا يسرى إلا إذا كانت المرأة المملوكة مشتركة في الحرب، أي: كانت تحارب مع الرجل ثم وقعت في الأسر، والذي يسري عليها، ثم من أي مصدر ستعيش وهي في بلد عدوة لها؛ إن تركها في المجتمع فيه خطورة على المجتمع وعليها. كما لأن لهذه المرأة عاطفة سوف تكتب، فأوصى الإسلام السيد بأنه إذا أحب هذه الأمة فلها أن تستمتع كما تستمتع زوجة السيد، وإن أنجبت أصبحت زوجة حرة وأولادها أحرارا، وفي هذا تصفية للرق. ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لون آخر من مستحقي الزكاة: {والغارمين} والغارم: هو من استدان في غير معصية، ثم عجز عن الوفاء بدينه. ولم يمهله صاحب الدين كما أمر الله في قوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة... (280)} (البقرة) ولم يسامحه ولم يتنازل عن دينهن وفي هذه الحالة يقوم بيت المال بسداد هذا الدين. لكن لماذا هذا التشريع؟. لقد شاء الحق إعطاء الغارم الذي لا يجد ما يسد به دينه حتى لا يجعل الناس ينقلبون عن الكرم وعن إقراض الذي يمر بعسر، وبذلك يبقى اليسر في المجتمع، وتبقى نجدة الناس للناس في ساعة العسرة، فلا يمتنع أحد عن إعطاء إنسان في عسرة؛ لأنه يعلم أنه إن لم يدفع فسيقوم بيت المال بالسداد من الزكاة. أو: أن الغارم هو الذي أراد أن يصلح بين طرفين، كأن يكون هناك شخصان مختلفان على مبلغ من المال، فيقوم هو بفضّ الخلاف ودفع المبلغ، ثم تسوء حالته؛ لأنه غرم هذا المال بنخوة إيمانية، فنقول له: خذ من بيت المال حتى يشيع في النفوس تصفية الخلافات وإشاعة الحي بين الناس. إذن: فالغارم هو المستدين في غير معصية ولا يقدر على سداد الدين، أو المتحمل لتكلفة إصلاح ذات البين بين طرفين، وهو مستحق لهذا اللون من المال. ويقول الحق سبحانه: {وفي سبيل}. يقول جمهور الفقهاء: إنها تنطبق على الجهاد؛ لأن الذي يضحي بماله مجاهدا في سبيل الله، لو لم يعلم أن الجهاد باب يدخله الجنة لما ضحى بماله، وعندما تضحي بالمال أو النفس في سبيل الله يكون هذا من يقين الإيمان. فلو لم تكن على ثقة أنك إذا استشهدت دخلت الجنة ما حاربت. ولو لم تكن على ثقة أنك إذا أنفقت المال جهادا في سبيل الله دخلت الجنة ما أنفقت. والإسلام يهدف إلى أمرين: دين يبلغ ومنهج يحقق، والمجاهد في سبيل الله أسوة لغير من المؤمنين. والأسوة في الإسلام هي التي تقويه وتثبته في النفوس؛ لأنها الإعلام الحقيقي بأن ما تعطيه من نفسك أو مالك لله ستجازى عنه بأضعاف أضعاف ما أعطيت. {وفي سبيل الله} أيضا كل ما يتعلق بمصارف البر مثل: بناء المساجد والمدارس والمستشفيات... {فريضة من الله} أي: أن كل من حدد الله سبحانه وتعالى استحقاقه للصدقة إنما يستحقها بفرض من الله فالصدقة فريضة للفقراء، فريضة للمساكين، فريضة للعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. وينهي الحق سبحانه الآية بقوله: {والله عليم حكيم}، والله هو واجب الوجود وخالقه، خلق الإنسان وكرمه فجعله خليفة في الأرض. وقبل أن يخلق سبحانه الإنسان أعد له الكون الذي يعيش فيه؛ الأرض والشمس والقمر والسماء والكواكب والنجوم. ثم جاء الإنسان إلى الكون؛ ليجد كل شيء قد أعد لخدمته خاضعا له، فلا يوجد جنس من الأجناس يتأبى عن خدمة الإنسان، فلا الأرض إذا زرعت رفضت إنبات الزرع، ولا الحيوان الذي سخره الله جل جلاله لخدمة الإنسان يتأبى عليه؛ فالحمار تحمله السباخ والقاذورات فلا يرفض، وتنظفه وتجعله مطية تنقلك من مكان إلى آخر فلا يتأبى عليك. وما دام سبحانه الذي خلق، فهو أدرى بمن خلق، وبما يصلحه وما يفسده...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في تاريخ صدر الإِسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح، إحداهما في مكّة، حيث كان هدف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر التعاليم الإِسلامية. والثّانية في المدينة، حيث أقدم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تشكيل حكومة إِسلاميّة أجرى من خلالها الأحكام والتعاليم الإِسلامية.
وممّا لا شك فيه أنّ أوّل وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت المال، إِذ عن طريقه تُؤمَّن حاجات الدولة الاقتصادية، وهي حاجات طبيعية توجد في كل دولة بدون استثناء، ومن هنا كان إِيجاد بيت المال من أوائل أعمال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وتشكل الزكاة أحد موارده، وعلى المشهور فإنّ هذا الحكم شُرّع في السنة الثّانية للهجرة النبوية.
وكما سنشير بعد حين إِلى إِرادة الله وحكمه، فإنّ حكم الزكاة قد نزل من قبل في مكّة، لكن لا على نحو وجوب جمعها في بيت المال، بل كان الناس يؤدونها ذاتياً، أمّا في المدينة فإنّ قانون جباية الزكاة وجمعها في بيت المال قد صدر من الله تعالى في الآية (103) من سورة التوبة.
إنّ الآية التي نبحثها، والتي نزلت يقيناً بعد آية وجوب الزكاة وإن لم يسبق لها ذكر في القرآن الكريم تبيّن الموارد المختلفة التي تصرف فيها الزكاة. وممّا يلفت النظر أن الآية بدأت بكلمة (إنّما) الدالّة على الحصر، وهي توحي بأنّ بعض الأفراد الأنانيين أو المغفلين كانوا يطمعون في أن يحصلوا على نصيب من الزكاة بدون أي وجه لاستحقاقهم لها، لكن كلمة (إنّما) ردّت أيديهم في أفواههم. وهذا المعنى تبيّنه الآيتان اللتان سبقت هذه الآية، حيث ذكرت أنّ هؤلاء كانوا يعترضون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عدم إِعطائهم شيئاً من الزكاة، ويرضون عنه إِذا أعطاهم شيئاً منها.
وعلى أي حال، فإنّ الآية قد بيّنت بوضوح الموارد الحقيقة التي تصرف فيها الزّكاة، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزّكاة في ثمانية أصناف:
المساكين: وسيأتي البحث في نهاية تفسير الآية عن الفرق بين الفقير والمسكين.
العاملين عليها: وهم الذين يسعون في جباية الزكاة، وإدارة بيت المال، وما يُعطى لهم هو في الواقع بمنزلة أجرة عملهم، ولهذا لا يشترط فيهم الفقر على أي حال.
المؤلفة قلوبهم: وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي من أجل النهوض بالأهداف الإِسلامية وتحقيقها، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة بذل المال لهم، والاستفادة منهم في الدفاع عن الإِسلام وتحكيم دولته، وإعلاء كلمته. وسيأتي توضيح أوسع حول هذا القسم.
في الرقاب: وهذا يعني أن قسماً من الزكاة يخصّص لمحاربة العبودية والرق وإنهاء هذه الحالة غير الإِنسانية، وكما قلنا في محله فإنّ برنامج الإِسلام في معالجة مسألة الرقيق هو اتباع نظام (التحرير التدريجي) الذي ينتهي إِلى تحرير جميع العبيد بدون مواجهة ردود فعل اجتماعية غير متوقعة، ويشكّل تخصيص قسم من الزكاة لهذا الموضوع جانباً من هذا البرنامج المتكامل.
الغارمون: وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم، ولم يكن هذا العجز نتيجة لتقصيرهم.
في سبيل الله: والمراد منه كما سنشير إِليه في آخر تفسير الآية جميع السبل التي تؤدي إِلى تقوية ونشر الدين الإِلهي، وهي أعم من مسألة الجهاد والتبليغ وأمثالها.
ابن السبيل: وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما، وليس معهم من الزاد والراحلة ما يوصلهم إِلى بلدانهم أو إِلى الجهة التي يقصدونها، حتى ولو لم يكونوا فقراء في واقعهم، لكنّهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو قلّة أموالهم أو لأسباب أخر، ومثل هؤلاء يجب أن يُعطَوا من الزكاة ما يوصلهم إِلى مقصدهم أو بلدهم.
وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة، ولذلك قال سبحانه: (فريضة من الله) ولا شك أنّ هذه الفريضة قد حُسبت بصورة دقيقة جدّاً، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع، لأنّ (الله عليم حكيم)...
إِذا علمنا أنّ الإِسلام يظهر على أنّه مذهب أخلاقي أو فلسفي أو عقائدي بحت، بل ظهر إِلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية والمعنوية في الحياة، وكذلك إِذا علمنا أن تشكيل وتأسيس الدولة الإِسلامية قد لازم ظهور الإِسلام منذ عصر النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا علمنا أن الإِسلام يهتم اهتماماً خاصّاً بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أنّ دور بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده، من أهم الأدوار.
لا شك أن في كل مجتمع أفراداً عاجزين عن العمل، مرضى، يتامى، معوقين، وأمثالهم، وهؤلاء يحتاجون حتماً إِلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم. وكذلك يحتاج هذا المجتمع إِلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه، أمّا مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإنّ الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إِليهم. وكذلك العاملون في الدولة الإِسلامية، الحكام والقضاة، وسائل الإِعلام والمراكز الدينية وغيرها، فكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى ميزانية خاصّة ومبالغ طائلة لا يمكن تهيئتها دون أن يكون هناك نظام مالي محكم منظم.
وعلى هذا الأساس أولى الإِسلام الزكاة التي تعتبر في الحقيقة نوعاً من الضرائب على الإِنتاج والأرباح، وعلى الأموال الراكدة اهتماماً خاصاً، حتى أنّه اعتبرها من أهم العبادات، وقد ذكرت جنباً إلى جنب مع الصلاة في كثير من الموارد، بل إِنّه اعتبرها شرطاً لقبول الصلاة.
وأكثر من هذا أننا نقرأ في الرّوايات الإِسلامية أنّ الدولة الإِسلامية إذا طلبت الزكاة من شخص أو أشخاص وامتنع هؤلاء من ذلك فسوف يحكم بارتدادهم، وإذا لم تنفع النصيحة معهم ولم يؤثر الموعظة فيهم، فإنّ الاستعانة بالقوّة العسكرية لمقابلتهم أمر جائز.
وفي رواية عن الإِمام الصادق (عليه السلام): «من منع قيراطاً من الزكاة فليس هو بمؤمن، ولا مسلم، ولا كرامة».
وممّا يلفت النظر أنّ الرّوايات قد أظهرت أن تعين الزكاة بهذا المقدار يبيّن دقة حسابات الإِسلام، فإنّ المسلمين جميعاً لو أدّوا زكاة أموالهم بصورة دقيقة وكاملة فسوف لن يبقى فقير أو محروم في كافة أنحاء البلاد الإِسلامية. ففي رواية عن الصادق (عليه السلام): «ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً... وإن الناس ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء».
وكذلك يفهم من الرّوايات أنّ أداء الزكاة سبب لحفظ أصل الملك والأموال وتحكيم أسسها، بحيث أنّ الناس إذا أهملوا تطبيق هذا الأصل الإِسلامي المهم فإنّ الفاصلة والتفاوت بين الطبقات سيصل إِلى حد يعرض أموال الأغنياء إِلى الخطر.
... النقطة الأخيرة التي ينبغي الالتفات إِليها، هي أنّ في الآية التي نبحثها أربعة أقسام ذكرت معطوفة على حرف اللام: (إنّما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم)، وهذا التعبير عادة يفيد الملكية. أمّا الأقسام الأربعة الأُخرى فقد سبقها حرف (في): (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)، وهذا التعبير عادة يُستعمل لبيان مورد الصرف.
هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في سبب اختلاف التعبير، فالبعض يعتقد أن الأصناف الأربعة الأُولى يملكون الزكاة، أمّا الأصناف الأربعة الأُخرى فإنّهم لا يملكونها، بل إن الزكاة يجوز أن تصرف فيهم.
والبعض الآخر يعتقد أن الاختلاف في التعبير يشير إِلى مسألة أُخرى، وهي أنّ الطائفة الثّانية أكثر استحقاقاً للزكاة، لأن كلمة (في) لبيان الظرفية، لهذا فإن هذه المجموعة الرباعية تمثل محتوى ومصرف الزكاة، والزكاة وعاء لها، في حين أن المجموعة الأُولى ليست كذلك.
لكننا نحتمل ونرجح احتمالا آخر، وهو أن الستة أقسام وهم: الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل التي لم تذكر قبلها (في) متساوون وقد عطفت على بعضها البعض، أمّا القسمان الآخران وهما في الرقاب وفي سبيل الله اللذان بيّنتهما (في) فإنّ لهما وضعاً خاصاً، وربّما كان السبب في اختلاف التعبير من جهة إِمكان تملك الزكاة من قبل الأصناف الستة، ويمكن أداء الزكاة إِليهم (حتى المدينين والعاجزين عن أداء ديونهم، لكن بشرط الاطمئنان إِلى أنّ هؤلاء يصرفونها في سداد ديونهم).
أمّا الصنفان الآخران فلا يملكون الزكاة، ولا يمكن دفع الزكاة إِليهم، بل تصرف في جهتهم، فمثلا يجب شراء العبيد وتحريرهم عن طريق الزكاة، ومن الواضح أنّهم لا يملكون الزكاة في هذه الحالة، بل صرفت الزكاة في جهة تحريرهم. وكذلك الحال بالنسبة إِلى الموارد التي تندرج تحت عنوان (في سبيل الله) كنفقات الجهاد، وإِعداد الأسلحة، أو بناء المساجد والمراكز الدينية، وأمثال هذه المفردات لا تملك الزكاة بل أنّها مورد لصرف الزكاة.
وعلى أي حال، فإنّ التفاوت والاختلاف في التعبير يوضح الدقة المتناهية في التعبيرات القرآنية.