ولما فقدت موسى أمه ، حزنت حزنا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها ، على مقتضى الحالة البشرية ، مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف ، ووعدها برده .
{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي : بما في قلبها { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } فثبتناها ، فصبرت ، ولم تبد به . { لِتَكُونَ } بذلك الصبر والثبات { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت ، ازداد بذلك إيمانه ، ودل ذلك ، على أن استمرار الجزع مع العبد ، دليل على ضعف إيمانه .
ثم صورت السورة الكريمة تصويرا بديعا مؤثرا ، ما كانت عليه أم موسى من لهفة وقلق ، بعد أن فارقها ابنها ، فقال - تعالى - : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً } أى : وبعد أن ألقت أم موسى به فى اليم ، والتقطه آل فرعون ، وعلمت بذلك أصبح قلبها وفؤادها خاليا من التفكير فى أى شىء فى هذه الحياة ، إلا فى شىء واحد وهو مصير ابنها موسى - عليه السلام - .
وفى هذا التعبير ما فيه من الدقة فى تصوير حالتها النفسية ، حتى لكأنها صارت فاقدة لكل شىء فى قلبها سوى أمر ابنها وفلذة كبدها .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً } من كل شىء من أمور الدنيا إلا من موسى . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصرى ، وقتادة . . . وغيرهم .
و { إِن } فى قوله - تعالى - { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } هى المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، وتبدى بمعنى تظهر ، من بدا الشىء يبدو بدوا إذا ظهر ظهورا واضحا .
والضمير فى { بِهِ } يعود إلى موسى - عليه السلام - .
أى : وصار فؤاد أم موسى فارغا من كل شىء سوى التكفير فى مصيره ، وإنها كادت لتصرح للناس بأن الذى التقطه آل فرعون ، هو ابنها ، وذلك لشدة دهشتها وخوفها عليه من فرعون وجنده .
وجواب الشرط فى قوله - تعالى - { لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } محذوف دل عليه ما قبله .
وأصل الربط : الشد والتقوية للشىء . ومنه قولهم فلان رابط الجأش ، أى : قوى القلب .
وقوله - تعالى - : { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } علة لتثبيت قلبها وتقويته ، فهو متعلق بقوله { رَّبَطْنَا } .
أى : ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله - تعالى - ، وأنه سيرد إليها ابنها ، كى تقر عينها ولا تحزن .
( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا . إن كادت لتبدي به . لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين . وقالت لأخته : قصيه ) . .
لقد سمعت الإيحاء ، وألقت بطفلها إلى الماء . ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج ? ولعلها سألت نفسها : كيف ? كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم ? كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم ? كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة ? وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب ?
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية : ( فارغا ) . . لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف !
( إن كادت لتبدي به ) . . وتذيع أمرها في الناس ، وتهتف كالمجنونة : أنا أضعته . أنا أضعت طفلي . أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب !
( لولا أن ربطنا على قلبها ) . . وشددنا عليه وثبتناها ، وأمسكنا بها من الهيام والشرود .
( لتكون من المؤمنين ) . . المؤمنين بوعد الله ، الصابرين على ابتلائه ، السائرين على هداه .
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى : { وأفئدتهم هواء } أي خلاء لا عقول فيها ، ويؤيده انه قرئ " فرغا " من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر ، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه . { إن كانت لتبدي به } أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه . { لولا أن ربطنا على قلبها } بالصبر والثبات . { لتكون من المؤمنين } من المصدقين بوعد الله ، أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه . وقرئ موسى إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط ، وجواب { لولا } محذوف دل عليه ما قبله .
وقوله { وأصبح } عبارة عن دوام الحال واستقرارها وهي كظل ، ومنه قل أبي سفيان للعباس يوم الفتح : لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً يريد استقرت حاله عظيماً . وقرأ جمهور الناس «فارغاً » من الفراغ واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس : «فارغاً » من كل شيء إلا من ذكر موسى ، وقال مالك : هو ذهاب العقل .
قال الفقيه الإمام القاضي : نحو قوله { وأفئدتهم هواء }{[9113]} [ إبراهيم : 43 ] وقالت فرقة «فارغاً » من الصبر ، وقال ابن زيد «فارغاً » من وعد الله تعالى ووحيه إليها أي تناسته بالهم وفتر أثره في نفسها وقال لها إبليس فررت به من قتل لك فيه أجر وقتلته بيدك ، وقال أبو عبيدة «فارغاً » من الحزن إذ لم يغرق ، وقرأ فضالة بن عبد الله ويقال ابن عبيد{[9114]} والحسن «فزعاً » من الفزع بالفاء والزاي ، وقرأ ابن عباس «قرعاً » بالقاف والراء من القارعة وهي الهم العظيم{[9115]} ، وقرأ بعض الصحابه رضي الله عنهم «فِزْغاً » بالفاء المكسورة والراء الساكنة والغين المنقوطة ومعناها ذاهباً هدراً تالفاً من الهم والحزن ، ومنه قول طليحة الأسدي في حبال أخيه : [ الطويل ]
فإن تك قتلى قد أصيبت نفوسهم . . . فلن يذهبوا فرغاً بقتل حبال{[9116]}
أي هدراً تالفاً لا يتبع ، وقرأ الخليل بن أحمد «فُرُغاً » بضم الفاء والراء . وقوله تعالى : { إن كادت لتبدي به } أي أمر ابنها ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كادت أم موسى أن تقول واإبناه وتخرج صائحة على وجهها »{[9117]} و «الربط على القلب » تأنيسه وتقويته ، ومنه قولهم للشجاع والصابر في المضايق : رابط الجأش ، قال قتادة : وربط على قلبها بالإيمان ، وقوله { لتكون من المؤمنين } أي من المصدقين بوعد الله وما أوحى إليها به .