( 19 ) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها المشركون ، أي : تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين .
فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ حين أوقع اللّه بكم من عقابه ، ما كان نكالا لكم وعبرة للمتقين وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الاستفتاح فَهُوَ خَيْرٌ لأنه ربما أمهلتم ، ولم يعجل لكم النقمة . وإن تعودوا إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين نَعُدْ في نصرهم عليكم .
وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أي : أعوانكم وأنصاركم ، الذين تحاربون وتقاتلون ، معتمدين عليهم ، شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين .
ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده ، وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين ، تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان .
فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات ، فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه ، وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه ، لما انهزم لهم راية [ انهزاما مستقرا ]{[338]} ولا أديل عليهم عدوهم أبدا .
وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن في عزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله . . أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة في بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } .
روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - في بدر - : اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي فأهلكه - الغداة . فكان المستفتح .
وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } الآية .
قال الراغب : وقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم لافتاح أي الحكم . . والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال . . ويقال : فتح القضية فتاحا . أي فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها . قال - تعالى - : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ . . . } والمعنى : إن تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل .
فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم .
وقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى : وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق .
وقوله : { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ . . . } تحذير لهم من التمادى في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد للحق .
أى : { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة . وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شياً من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده .
وقوله : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في نفوسهم .
أى : وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته .
قال الجمل : " قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح " أن " والباقون بكسرها فالفتح من أوجه :
أحدها : أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .
والثانى : أن التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم . والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف . أى : والأمر أن الله مع المؤمنين .
والوجه الأخير يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .
هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ .
. } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين .
ومنهم من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } أي تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم .
{ وَإِن تَنتَهُواْ } أي عن المنازعة في أمر الانفال ، وعن التكاسل في طاعة الله ورسوله ، { فَهُوَ } أي هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } .
{ وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء .
{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره .
وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له .
والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر اهدى الجندين . . وأن أبا جهل قال حين التقى القوم :
اللهم أينا أقطع للرحم . . فأحنه الغداة . قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح . . } .
ولعل مما يرجح أن الخطاب في قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . . } للكافرين ، أن بعض المفسرين - كان جرير وابن كثير - ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا .
أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة " وقيل " وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله - تعالى - : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ . . } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم . وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى . . .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء . . وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم . . وغربت المشركين في الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادى في باطلهم وطغيانهم . . وأخبرتهم في ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره .
وعندما يصل السياق إلى تقرير . . أن الله موهن كيد الكافرين . . يتجه بالخطاب إلى الكافرين ، أولئك الذين استفتحوا قبيل المعركة ، فدعوا الله أن يجعل الدائرة على أضل الفريقين وآتاهما بما لا يُعرف وأقطعهما للرحم - كما كان دعاء أبي جهل وهو استفتاحه : أي طلبه الفتح من الله والفصل - فدارت الدائرة على المشركين ! . . يتوجه إليهم بالخطاب ، ساخرا من استفتاحهم ذاك ؛ مؤكدا لهم أن ما حدث في بدر إنما هو نموذج من السنة الجارية وليس فلتة عارضة ؛ وأن جموعهم وكثرتهم لن تغير من الأمر شيئا ؛ لأنها السنة الجارية : أن يكون الله مع المؤمنين :
( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح . وإن تنتهوا فهو خير لكم . وإن تعودوا نعد ، ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت . وأن الله مع المؤمنين ) . .
إن تستفتحوا فتطلبوا من الله أن يفتح بينكم وبين المسلمين ، وأن يهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم . . فقد استجاب الله ، فجعل الدائرة عليكم ، تصديقاً لاستفتاحكم ! لقد دارت الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم ! ولقد علمتم - إن كنتم تريدون أن تعلموا - من هم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم !
وعلى ضوء هذه الحقيقة ، وفي ظل هذا الإيحاء ، يرغبهم في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر والحرب للمسلمين ، والمشاقة لله ورسوله :
( وإن تنتهوا فهو خير لكم ) . .
والعاقبة معروفة ، لا يغيرها تجمع ، ولا تبدلها كثرة :
( ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ) . .
وماذا تفعل الكثرة إذا كان الله في جانب المؤمنين ?
إن المعركة على هذا النحو لن تكون متكافئة أبداً ؛ لأن المؤمنين - ومعهم الله - سيكونون في صف ؛ والكفار - وليس معهم إلا ناس من البشر من أمثالهم - سيكونون في الصف الآخر . والمعركة على هذا النحو مقررة المصير !
ولقد كان مشركو العرب يعرفون هذه الحقيقة . فإن معرفتهم بالله سبحانه لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة ؛ كما يتصور الناس اليوم من خلال تأثرهم ببعض التعميمات التاريخية . ولم يكن شرك العرب متمثلا في إنكار الله - سبحانه - ولا في عدم معرفتهم الحقيقة . . إنما كان يتمثل ، أكثر ما يتمثل ، في عدم إخلاصهم العبودية له ؛ وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره ؛ وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم لحقيقته . .
ولقد مر بنا في استعراض أحداث الموقعة من كتب السيرة : أن خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري - بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائر أهداها لهم ؛ وقال لهم : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال : فارسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ! قد قضيت الذي عليك . فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم . ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة .
كذلك مر بنا قول الأخنس بن شريق لبني زهرة - وهو مشرك وهم مشركون - : يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرقة بن نوفل . . . الخ
ومثله استفتاح أبي جهل نفسه - فرعون هذه الأمة كما قال عنه رسول الله [ ص ] - وهو يقول : " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة " . .
وكذلك قوله لحكيم بن حزام وقد جاءه رسولا من عتبة بن ربيعة ليرجع عن القتال : " كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد " !
فهكذا كان تصورهم للحقيقة الإلهية ، واستحضارهم لها في كل مناسبة . ولم يكن أمرهم أنهم لا يعرفون الله ؛ أو لا يعرفون أنه ما لأحد بالله من طاقة ، أو لا يعرفون أنه هو الذي يحكم ويفصل بين الجبهتين حيث لا راد لحكمه ! إنما كان شركهم الحقيقي يتمثل ابتداء في تلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غير الله ، الذي يعرفونه ويعترفون به على هذا النحو . . الأمر الذي يشاركهم فيه اليوم أقوام يظنون أنهم مسلمون - على دين محمد - كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدون على دين أبيهم إبراهيم ! حتى لكان أبو جهل - وهو أبو جهل - يستفتح على الله فيقول : " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف - وفي رواية : اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم - فأحنه الغداة " !
فأما تلك الأصنام التي عرف أنهم يعبدونها ، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهية لها كألوهية الله - سبحانه - ولقد صرح القرآن الكريم بحقيقة تصورهم الاعتقادي فيها وبسبب تقديمهم الشعائر لها في قوله تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) . . فهذا كان مبلغ تصورهم لها . . مجرد شفعاء عند الله . . وما كان شركهم الحقيقي من هذه الجهة ؛ ولا كان إسلام من أسلم منهم متمثلاً في مجرد التخلي عن الاستشفاع بهذه الأصنام . وإلا فإن الحنفاء ، الذي اعتزلوا عبادة الأصنام هذه وقدموا الشعائر لله وحده ما اعتبروا مسلمين ! إنما تمثل الإسلام في الاعتقاد والشعائر وإفراد الله سبحانه بالحاكمية . والذين لا يفردون الله سبحانه بالحاكمية - في أي زمان وفي أي مكان - هم مشركون . لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله إلا الله - مجرد اعتقاد - ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده . . فإلى هنا يكونون كالحنفاء الذين لم يعتبرهم أحد مسلمين - إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات السلسلة ، أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر ، إفراد الله سبحانه بالحاكمية ، ورفضهم الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده . . وهذا وحده هو الإسلام ، لأنه وحده مدلول شهادة : أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ كما عرف هذا المدلول في الاعتقاد الإسلامي وفي الواقع الإسلامي سواء ! . . ثم أن يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو وبهذا المدلول في تجمع حركي بقيادة مسلمة وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية !
وهذا ما ينبغي أن يتبينه الذين يريدون أن يكونوا " مسلمين " فلا تخدعهم عن حقيقة ما هم فيه خدعة أنهم
مسلمون اعتقاداً وتعبداً . فإن هذا وحده لا يجعل الناس " مسلمين " ما لم يتحقق لهم أنهم يفردون الله سبحانه بالحاكمية ، ويرفضون حاكمية العبيد ، ويخلعون ولاءهم للمجتمع الجاهلي ولقيادته الجاهلية .
إن كثيراً من المخلصين الطيبين تخدعهم هذه الخدعة . . وهم يريدون لأنفسهم الإسلام ولكنهم يُخدعون عنه . فأولى لهم أن يستيقنوا صورة الإسلام الحقيقية . . والوحيدة . . وأن يعرفوا أن المشركين من العرب الذين يحملون اسم " المشركين " لم يكونوا يختلفون عنهم في شيء ! فلقد كانوا يعرفون الله بحقيقته - كما تبين - ويقدمون له شفعاء من أصنامهم . . وكان شركهم الأساسي يتمثل - لا في الاعتقاد - ولكن في الحاكمية !
وإذا كان ينبغي للطيبين المخلصين الذين يريدون أن يكونوا مسلمين ، أن يتبينوا هذه الحقيقة ، فإن العصبة المسلمة التي تجاهد لإعادة نشأة هذا الدين في الأرض في عالم الواقع يجب أن تستيقن هذه الحقيقة بوضوح وعمق ؛ ويجب ألا تتلجلج فيها أي تلجلج ؛ ويجب أن تعرّف الناس بها تعريفاً صريحا واضحا جازما . . فهذه هي نقطة البدء والانطلاق . . فإذا انحرفت الحركة عنها - منذ البدء - أدنى انحراف ضلت طريقها كله وبنت على غير أساس ؛ مهما توافر لها من الإخلاص بعد ذلك والصبر والتصميم على المضي في الطريق !
{ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين . { وإن تنتهوا } عن الكفر ومعاداة الرسول { فهو خير لكم } لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين . { وإن تعودوا } لمحاربته . { نعد } لنصرته عليكم . { ولن تغني } ولن تدفع . { عنكم فئتكم } جماعتكم . { شيئا } من الإغناء أو المضار . { لو كثرت } فئتكم . { وأن الله مع المؤمنين } بالنصر والمعونة . وقرأ نافع وابن عامر وحفص { وأن } بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك . وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى : أن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو ، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه } .
قال بعض المتأولين : هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين بوم بدر ، قال الله لهم : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم ، وقد حكم الله لكم ، { وإن تنتهوا } عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم { وإن تعودوا } لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم ، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته ، ثم أنسهم بقوله وإيجابه ، أنه مع المؤمنين ، وقال أكثر المتأولين : هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة ، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبداً في محافل قريش ، ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأهلكه واجعله المغلوب ، يريد محمداً صلى الله عليه وسلم وإياهم ، وروي أن قريشاً لما عزموا على الخروج إلى حماية العير تعلقوا بأستار الكعبة واستفتحوا ، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر : اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأظهر خير الدينين عندك ، اللهم أقطعنا للرحم فأِحْنه الغداة{[5272]} ، ونحو هذا فقال لهم الله ، إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا توبيخ ، ثم قال لهم { وإن تنتهوا } عن كفركم وغيكم { فهو خير لكم } ثم أخبرهم أنهم إن عادوا للاستفتاح عاد بمثل الوقعة يوم بدر عليهم ، ثم أعلمهم أن فئتهم لا تعني شيئاً وإن كانت كثيرة ، ثم أعلمهم أنه مع المؤمنين .
وقالت فرقة من المتأولين : قوله { وإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } ، هي مخاطبة للمؤمنين ، وسائر الآية مخاطبة للمشركين ، كأنه قال وأنتم إن تنتهوا فهو خير لكم ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وأبي عمرو وحمزة والكسائي «وإن الله » بكسر الهمزة على القطع ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص «وأن » بفتح الألف ، فإما أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محتمل المعنى ، وفي قراءة ابن مسعود : «ولو كثرت والله مع المؤمنين » . وهذا يقوي قراءة من كسر الألف ، من «إن » .