{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي : هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاءَ لله فيفضلون من شاءوا ؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ؟ وذلك ليس ببدع ولا غريب على فضل الله . { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه ك " داود " و " سليمان " . فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده المؤمنين . فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له ؟ "
ثم انتقل - سبحانه - من تبكيتهم على البخل وغيره مما سبق إلى تقريعهم على رذيلة الحسد التى استولت عليهم فأضلتهم وجعلتهم يتألمون لما يصيب الناس من خير ويتمنون زواله فقال - تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
و { أَمْ } هنا منقطعة أيضا كسابقتها ، والاستفهام المقدر بعدها لإِنكار الواقع وهو حسدهم لغيرهم .
والمراد من الناس : النبى صلى الله عليه وسلم أو هو والمؤمنون معه . وقيل المقصود من الناس : العرب عامة .
قال الفخر الرازى : والمراد من الناس - عند الأكثرين - أنه محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد ؛ لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا فى الجمع العظيم أو المراد بهم : الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ؛ لأن لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد . وحسن لفظ إطلاق الناس عليهم لأنهم القائمون بالعبودية الحق لله - تعالى - فكأنهم كل الناس .
والمراد بالفضل فى قوله { على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } النبوة والهدى والإِيمان .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود ليسوا بخلاء فقط بل إن فيهم من الصفات ما هم أقبح من البخل وهو الحسد فقد حسدوا النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله منحه النبوة وهو رجل عرب ليس منهم ، وحدسوا أتباعه لأنهم آمنوا به وصدقوه والتفوا من حوله يؤازرونه ويفتدونه بأرواحهم وأموالهم .
وقوله { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } توبيخ لهم على حسدهم ، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم .
والمعنى : إنكم بحسدكم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله ، تكونون قد ظللتم وسرتم فى طريق الشيطان ، لأنكم لو كنتم عقلاء لما فعلتم لك ، إذ أنتم تعلمون علم اليقين أن الله - تعالى - قد أعطى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى : قرابته القريبة من ذريته كإسماعيل - وهو جد العرب - وإسحاق ويعقوب وغيرهم . . أعطاهم { الكتاب } أى : جنس الكتب السماوية فيشمل ذلك التوارة والإِنجيل والزبور وغيرها . وأعطاهم { والحكمة } أى العلم النافع مع العمل به . وأعطاهم { مُّلْكاً عَظِيماً } أى سلطانا واسعا وبسطه فى الأرض .
ومع ذلك فأنتم لم تحسدوا هؤلاء على ما أعطاهم الله من كتاب وحكمة وملك عظيم ، فلماذا تحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ما أتاه الله من فضله مع أنه من نسل إبراهيم - عليه السلام - ؟ .
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على أنانيتهم وحسدهم ، وإلزام لهم بما يعرفونه من واقع كتبهم ، وكشف للناس عن أن أحقادهم مرجعها إلى انطماس بصيرتهم ، وخبث نفوسهم .
( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ، وآتيناهم ملكا عظيما )
أم لعله حسد . . حسد رسول الله [ ص ] والمسلمين على ما آتاهم الله من فضله . . من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلادا جديدا ، وجعل لهم وجودا إنسانيا متميزا ؛ ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين ؛ كما وهبهم النظافة والطهر ، مع العز والتمكين ؟
وإنه فعلا للحسد من يهود . مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين . . يوم أن لم يكن لهم دين . .
ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض ؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم . . الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة - وهي النبوة - وآتاهم الملك كذلك والسيادة . وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة ، ولم يصونوا العهد القديم ، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين . ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون !
( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما . فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه ) .
إنه لمن ألأم الحسد : أن يحسد ذو النعمة الموهوب ! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة ! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة ، فهذا هو الشر الأصيل العميق ! شر يهود ! المتميز الفريد !
ثم قال : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } يعني بذلك : حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له ؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل .
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن السدي ، عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه ]{[7756]} } الآية ، قال ابن عباس : نحن الناس دون الناس ، قال الله تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } أي : فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل - الذين هم من ذرية إبراهيم - النبوة ، وأنزلنا عليهم الكتب ، وحكموا فيهم بالسنن{[7757]} - وهي الحكمة - وجعلنا فيهم الملوك ،
{ أم يحسدون الناس } بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أو العرب ، أو الناس جميعا لأن من حسد على النبوة فكأنما حسد الناس كلهم كمالهم . ورشدهم وبخعهم وأنكر عليهم الحسد كما ذمهم على البخل وهما شر الرذائل وكأن بينهما تلازما وتجاذبا . { على ما آتاهم الله من فضله } يعني النبوة والكتاب والنصرة والإعزاز وجعل النبي الموعود منهم . { فقد آتينا آل إبراهيم } الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وأبناء عمه . { الكتاب والحكمة } النبوة . { وآتيناهم ملكا عظيما } فلا يبعد أن يؤتيه الله مثل ما آتاهم .
عقّب هذا الكلام بقوله { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } .
والاستفهام المقدّر بعد ( أم ) هذه إنكار على حسدهم ، وليس مفيداً لنفي الحسد لأنّه واقع . والمراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم والفضل النبوءة ، أو المراد به النبي والمؤمنون ، والفضلُ الهُدى بالإيمان .
وقوله { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب } عطف على مقدّر من معنى الاستفهام الإنكاري ، توجيهاً للإنكار عليهم ، أي فلا بدع فيما حسدوه إذ قد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك .
وآل إبراهيم : أبناؤه وعقبه ونسله ، وهو داخل في هذا الحكم لأنّهم إنّما أعطوه لأجل كرامته عند الله ووعد الله إيّاه بذلك . وتعريف ( الكتاب ) : تعريف الجنس ، فيصدق بالمتعدّد ، فيشمل صحف إبراهيم ، وصحف موسى ، وما أنزل بعد ذلك . والحكمة : النبوءة ، والملك : هو ما وعد الله به إبراهيم أن يعطيه ذرّيته وما آتى الله داوود وسليمان وملوكَ إسرائيل .
وضمير { منهم } يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير { يحسدون } . وضمير { به } يعود إلى الناس المراد منه محمّد عليه السلام : أي فمِنَ الذين أوتوا نصيباً من الكتاب مَن آمن بمحمّد ، ومنهم من أعرض . والتفريع في قوله : { فمنهم } على هذا التفسير ناشيء على قوله { أم يحسدون الناس } . ويجوز أن يعود ضمير { فمنهم } إلى آل إبراهيم ، وضمير { به } إلى إبراهيم ، أي فقد آتيناهم ما ذُكر . ومن آله من آمن به ، ومنهم من كفر مثل أبيه آزر ، وامْرأةِ ابن أخيه لوط ، أي فليس تكذيب اليهود محمّدا بأعجب من ذلك ، { سُنَّة من قد أرسلنا قبلَك من رُسلنا } [ الإسراء : 77 ] ، ليَكون قد حصل الاحتجاج عليهم في الأمرين في إبطال مستند تكذيبهم ؛ بإثباتتِ أنّ إتيان النبوءة ليس ببدع ، وأن محمّدا من آل إبراهيم ، فليس إرساله بأعجب من إرسال موسى . وفي تذكيرهم بأنّ هذه سنّة الأنبياء حتى لا يَعُدّوا تكذيبهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ثلمة في نبوءته ، إذ لا يعرف رسولا أجمْعَ أهل دعوته على تصديقه من إبراهيم فَمن بعده .