{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } هذا تقرير للأمر بالإخلاص ، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله ، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه ، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب ، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه ، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به ، لأنه متضمن للتأله للّه في حبه وخوفه ورجائه ، وللإنابة إليه في عبوديته ، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده .
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها ، دون الشرك به في شيء من العبادة . فإن اللّه بريء منه ، وليس للّه فيه شيء ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك ، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة ، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء ، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص ، نهى عن الشرك به ، وأخبر بذم من أشرك به فقال : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : يتولونهم بعبادتهم ودعائهم ، معتذرين عن أنفسهم وقائلين : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : لترفع حوائجنا للّه ، وتشفع لنا عنده ، وإلا ، فنحن نعلم أنها ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك من الأمر شيئا .
أي : فهؤلاء ، قد تركوا ما أمر اللّه به من الإخلاص ، وتجرأوا على أعظم المحرمات ، وهو الشرك ، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء ، الملك العظيم ، بالملوك ، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم ، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء ، وشفعاء ، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم ، ويستعطفونهم عليهم ، ويمهدون لهم الأمر في ذلك ، أن اللّه تعالى كذلك .
وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق ، مع ثبوت الفرق العظيم ، عقلا ونقلا وفطرة ، فإن الملوك ، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم ، لأنهم لا يعلمون أحوالهم . فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم ، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة ، فيحتاج من يعطفهم عليه ويسترحمه لهم ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ، ويخافون منهم ، فيقضون حوائج من توسطوا لهم ، مراعاة لهم ، ومداراة لخواطرهم ، وهم أيضا فقراء ، قد يمنعون لما يخشون من الفقر .
وأما الرب تعالى ، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها ، الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده ، وهو تعالى أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده ، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم ، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته ، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم ، وهو الغني ، الذي له الغنى التام المطلق ، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه ، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى ، لم ينقصوا من غناه شيئا ، ولم ينقصوا مما عنده ، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط . وجميع الشفعاء يخافونه ، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه ، وله الشفاعة كلها .
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به ، وسفههم العظيم ، وشدة جراءتهم عليه . ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك لا يغفره اللّه تعالى ، لأنه يتضمن القدح في اللّه تعالى ، ولهذا قال حاكما بين الفريقين ، المخلصين والمشركين ، وفي ضمنه التهديد للمشركين- : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم ، ومن يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ، ومأواه النار . { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي } أي : لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم { مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي : وصفه الكذب أو الكفر ، بحيث تأتيه المواعظ والآيات ، ولا يزول عنه ما اتصف به ، ويريه اللّه الآيات ، فيجحدها ويكفر بها ويكذب ، فهذا أنَّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب ، وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه ، فهو لا يؤمن ؟ "
وجملة { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } مؤكدة ومقررة لمضمون ما قبلها من وجوب إفراد العبادة والطاعة لله - تعالى - : وزادها تأكيداً وتقريراً لما قبلها تصديرها بأداة الاستفتاح { ألا } واشتمالها على أسلوب القصر .
أى : ألا إن الله - تعالى - وحده - وليس لأحد سواه - الدين الخالص من شوائب الشرك والرياء . والعبادة لوجهه وحده ، والخضوع لقدرته التى لا يعجزها شئ .
ثم بين - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ . . }
فالمراد بالموصول المشركون ، ومحله الرفقع على الابتداء ، وخبره قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وجملة { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } فى محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل . والزلفى : اسم أقيم مقام المصدر الذى يتلاقى معه فى المعنى ، والمأخوذ من قوله { لِيُقَرِّبُونَآ } . أى : لله - تعالى - وحده الدين الخالص ، والمشركون الذين اتخذوا معبودات باطلة ليعبدوها من دون الله ، كانوا يقولون فى الرد على من ينهاهم عن ذلك : إننا لا نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها ، لكى تقربنا إلى الله قربى ، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن .
{ إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أى : بين هؤلاء المشركون وبين غيرهم من المؤمنين الذين أخلصوا لله - تعالى -العبادة والطاعة { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر التوحيد والشرك ، بأن يجازى المؤمنين بحسن الثواب ، ويجازى الكافرين بسوء العقاب .
{ إِنَّ الله } - تعالى - { لاَ يَهْدِي } أى : لا يوفق للاهتداء للحق
{ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } : أى : من كان دائم الكذب على دين الله ، شديد الجحود لآيات الله وبراهينه الدالة على وحدانيته ، وعلى أنه لا رب لهذا الكون سواه .
يعلنها هكذا مدوية عالية في ذلك التعبير المجلجل . بأداة الافتتاح( ألا )وفي أسلوب القصر ( لله الدين الخالص ) . فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة . . فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها . بل التي يقوم عليها الوجود كله . ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الجازم الحاسم : ( ألا لله الدين الخالص ) . .
ثم يعالج الأسطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد .
والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون . إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار . .
فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض . . ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة ، وفي إخلاص الدين لله بلا شريك . إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه . ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها . ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة - وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة - ليست عبادة لها في ذاتها ؛ إنما هي زلفى وقربى لله . كي تشفع لهم عنده ، وتقربهم منه !
وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها ، إلى هذا التعقيد والتخريف . فلا الملائكة بنات الله . ولا الأصنام تماثيل للملائكة . ولا الله - سبحانه - يرضى بهذا الانحراف . ولا هو يقبل فيهم شفاعة . ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق !
وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول . وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة - أو تماثيل الملائكة - تقرباً إلى الله - بزعمهم - وطلباً لشفاعتهم عنده . وهو سبحانه يحدد الطريق إليه . طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب !
( إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) . .
فهم يكذبون على الله . يكذبون عليه بنسبة بنوة الملائكة إليه ؛ ويكذبون عليه بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده ! وهم يكفرون بهذه العبادة ؛ ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح .
والله لا يهدي من يكذب عليه ، ويكفر به . فالهداية جزاء على التوجه والإخلاص والتحرج ، والرغبة في الهدى ، وتحري الطريق . فأما الذين يكذبون ويكفرون فهم لا يستحقون هداية الله ورعايته . وهم يختارون لأنفسهم البعد عن طريقه .
قال قتادة في قوله : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } شهادة أن لا إله إلا الله . ثم أخبر تعالى عن عُبّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم ، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم ، وما ينوبهم من أمر الدنيا ، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به .
قال قتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وابن زيد : { إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : ليشفعوا لنا ، ويقربونا عنده منزلة .
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " . وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه ، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، بردها والنهي عنها ، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم ، لم يأذن الله فيه ولا رضي به ، بل أبغضه ونهى عنه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ]{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم ، كلهم عبيد خاضعون لله ، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم ، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه ، { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ } [ النحل : 74 ] ، تعالى الله عن ذلك .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : يوم القيامة ، { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ، ويجزي كل عامل بعمله ، { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ، 40 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي : لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله ، وقلبه كفار يجحد بآياته وحججه وبراهينه .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلاَ لِلّهِ الدّينُ الْخَالِصُ وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُلْفَىَ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفّارٌ } :
وقوله : ( ألا لِلّهِ الدّينُ الخالِصُ ) : يقول تعالى ذكره : ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شريك له ، خالصة لا شرك لأحد معه فيها ، فلا ينبغي ذلك لأحد ، لأن كل ما دونه ملكه ، وعلى المملوك طاعة مالكه لا من لا يملك منه شيئا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ألا لِلّهِ الدّينُ الخالِصُ ) : شهادة أن لا إله إلا الله .
وقوله : ( وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى ) : يقول تعالى ذكره : والذين اتخذوا من دون الله أولياء يَتَولّونهم ، ويعبدونهم من دون الله ، يقولون لهم : ما نعبدكم أيها الاَلهة إلا لتقربونا إلى الله زُلْفَى ، قربة ومنزلة ، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا وهي فيما ذُكر في قراءة أبيّ : «ما نَعْبُدُكُمْ » ، وفي قراءة عبد الله : «قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ » وإنما حسُن ذلك لأن الحكاية إذا كانت بالقول مضمرا كان أو ظاهرا ، جعل الغائب أحيانا كالمخاطب ، ويترك أخرى كالغائب ، وقد بيّنت ذلك في موضعه فيما مضى .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : هي في قراءة عبد الله : «قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى ) : قال : قريش تقوله للأوثان ، ومن قَبْلَهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزَيز .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى ) : قالوا : ما نعبد هؤلاء إلا ليقرّبونا ، إلا ليشفعُوا لنا عند الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرَبونا إلى اللّهِ زُلْفَى قال : هي منزلة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى .
وقوله : وَلَوْ شاءَ الله ما أشْرَكُوا يقول سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبونا إلى الله زُلْفَى قال : قالوا هم شفعاؤنا عند الله ، وهم الذين يقرّبوننا إلى الله زلفي يوم القيامة للأوثان ، والزلفى : القُرَب .
وقوله : إنّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره : إن الله يفصل بين هؤلاء الأحزاب الذين اتخذوا في الدنيا من دون الله أولياء يوم القيامة ، فيما هم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها ، بأن يُصْلِيَهم جميعا جهنم ، إلا من أخلص الدين لله ، فوحده ، ولم يشرك به شيئا .
يقول تعالى ذكره : إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي إلى الحقّ ودينه الإسلام ، والإقرار بوحدانيته ، فيوفقه له مَنْ هُوَ كاذِبٌ مفتر على الله ، يتقوّل عليه الباطل ، ويضيف إليه ما ليس من صفته ، ويزعم أن له ولدا افتراء عليه ، كفار لنعمه ، جحود لربوبيته .
{ ألا لله الدين الخالص } أي : ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة ، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر . { والذين اتخذوا من دونه أولياء } يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم ، وهو مبتدأ خبره على الأول . { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } بإضمار القول . { إن الله يحكم بينهم } وهو متعين على الثاني ، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالا أو بدلا من الصلة و { زلفى } مصدر أو حال ، وقرئ " قالوا ما نعبدهم " و " ما نعبدكم إلا ليقربونا إلى الله " حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و { نعبدهم } بضم النون اتباعا . { في ما هم فيه يختلفون } من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم ، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم لا يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها . { إن الله لا يهدي } لا يوفق للاهتداء إلى الحق . { من هو كاذب كفار } فإنهما فاقدا البصيرة .
وقوله تعالى : { ألا لله الدين الخالص } بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا ، وهذا كقوله : { لله الحمد } [ الجاثية : 36 ] ، أي واجباً ومستحقاً . قال قتادة : { الدين الخالص } ، لا إله إلا الله .
وقوله تعالى : { والذين اتخذوا } رفع بالابتداء ، وخبره في المحذوف المقدر ، تقديره : يقولون ما نعبدهم ، وفي مصحف ابن مسعود : «قالوا ما نعبدهم » ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير . و : { أولياء } يريد بذلك معبودين ، وهذه مقالة شائعة في العرب ، يقول كثير منهم في الجاهلية : الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا ، وطائفة منهم قالت ذلك في أصنامهم وأوثانهم . وقال مجاهد : قد قال ذلك قوم من اليهود في عزير ، وقوم من النصارى في عيسى ابن مريم . وفي مصحف أبي بن كعب : «ما نعبدكم » بالكاف «إلا لتقربونا » بالتاء . و { زلفى } بمعنى قربى وتوصلة ، كأنه قال : لتقربونا إلى الله تقريباً ، وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله ، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته .
و { زلفى } عند سيبويه مصدر في موضع الحال ، كأنه ينزل منزلة متزلفين ، والعامل فيه { ليقربونا } هذا مذهب سيبويه وفيه خلاف ، وباقي الآية وعيد في الدنيا والآخرة .
قوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } : هذه الآية إما أن يكون معناها أن الله لا يهدي الكاذب الكفار في حال كذبه وكفره ، وإما أن يكون لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن أبداً ، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدى كثيراً .
وقرأ أنس بن مالك والجحدري : «كذب كفار » بالمبالغة فيهما ، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر ، وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر ، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم عليه .