{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به ، على معاصيه ، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل ، أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } الآية .
ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } ، والمراد بالنعيم هنا : ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مال وولد ، ومن طعام وشراب ، ومن متعه وشهوة . . من النعومة التى هى ضد الخشونة .
أى : ثم إنكم بعد ذلك - أيها الناس - والله لتسألن يوم القيامة عن ألوان النعم التى منحكم الله - تعالى - إياها ، فمن أدى ما يجب عليه نحوها من شكر الله - تعالى - عليها كان من السعداء ، ومن جحدها وغمطها وشغلته عن طاعة ربه ، وتباهى وتفاخر بها . . كان من الأشقياء ، كما قال - تعالى - : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } فالمراد بالسؤال إنما هو سؤال التكريم والتبشير للمؤمنين الشاكرين ، وسؤال الإِهانة والتوبيخ للفاسقين الجاحدين .
والآية الكريمة دعوة حارة للناس ، إلى شكر نعمة - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
قال القرطبى ما ملخصه : والسؤال يكون للمؤمن والكافر . . والجمع بين الأخبار التى وردت فى ذلك : أن الكل يسألون ، ولكن سؤال الكافر توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه قد شكر ، وهذا النعيم فى كل نعمة .
( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) !
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ?
( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل !
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) . . وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق !
وقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا زكريا بن يحيى الخزاز{[30470]} المقري ، حدثنا عبد الله بن عيسى أبو خالد الخزاز ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة ، فوجد أبا بكر في المسجد فقال : " ما أخرجك هذه الساعة ؟ " قال : أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله . قال : وجاء عمر بن الخطاب فقال : " ما أخرجك يا ابن الخطاب ؟ " قال أخرجني الذي أخرجكما . قال : فقعد عمر ، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما ، ثم قال : " هل بكما من قوة ، تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعامًا وشرابًا وظلا ؟ " قلنا : نعم . قال : " مُروا بنا إلى منزل ابن التَّيهان أبي الهيثم الأنصاري " . قال : فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا ، فسلم واستأذن - ثلاث مرات - وأم الهيثم من وراء الباب تسمع الكلام ، تريد أن يزيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام ، فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى خلفهم ، فقالت : يا رسول الله ، قد - والله - سمعت تسليمك ، ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ، ثم قال : " أين أبو الهيثم ؟ لا أراه " . قالت : يا رسول الله ، هو قريب ، ذهب يَستعذبُ الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله ، فبسطت بساطا تحت شجرة ، فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرت عيناه بهم ، فصعد على نخلة فصرم لهم أعذاقًا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حَسْبُكَ يا أبا الهيثم " . قال : يا رسول الله ، تأكلون من بُسره ، ومن رطبه ، ومن تَذْنُوبه ، ثم أتاهم بماء فشربوا عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " {[30471]} هذا غريب من هذا الوجه .
وقال ابن جرير : حدثني الحُسَين بن علي الصدائي ، حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : بينما أبو بكر وعمر جالسان ، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما أجلسكما هاهنا ؟ " قالا : والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع . قال : " والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره " . فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " أين فلان ؟ " فقالت : ذهب يستعذب{[30472]} لنا ماء . فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال : مرحبا ، ما زار العباد شيء أفضل من شيء{[30473]} زارني اليوم . فعلق قربته بكرب نخلة{[30474]} وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا كنت اجتنيت " ؟ فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم . ثم أخذ الشفرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب ؟ " فذبح لهم يومئذ ، فأكلوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتسألن عن هذا يوم القيامة . أخرجكم من بيوتكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا ، فهذا من النعيم " {[30475]} .
ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان ، به{[30476]} ورواه أبو يعلى وابن ماجة ، من حديث المحاربي ، عن يحيى بن عُبيد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بكر الصديق ، به{[30477]} وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بنحو من هذا السياق وهذه القصة{[30478]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج ، حدثنا حشرج ، عن أبي نُصرة ، عن أبي عسيب – يعني مولى رسول الله - قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فمر بي ، فدعاني فخرجت إليه ، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه ، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه ، فانطلق حتى أتى{[30479]} حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : " أطعمنا " . فجاء بِعذْق فوضعه ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب ، وقال : " لتسألن عن هذا يوم القيامة " . قال : فأخذ عُمَرُ العذْقَ فضرب به الأرض ، حتى تناثر البُسرُ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا رسول الله ، إنا لمسئول{[30480]} عن هذا يوم القيامة ؟ قال : " نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف بها الرجل عورته ، أو كسرة سَدَّ بها جوعته ، أو جحر تَدخَّل فيه من الحر والقر " {[30481]} تفرد به أحمد .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا عمار ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطبا ، وشربوا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " .
ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة ، [ عن عمار بن أبي عمار ، عن جابر ]{[30482]} به{[30483]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد ، حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن صفوان بن سليم ، عن محمود{[30484]} بن الربيع قال : لما نزلت : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } فقرأ حتى بلغ : { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله ، عن أي{[30485]} نعيم نُسأل ؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل ؟ قال :{[30486]} أما إن ذلك سيكون " {[30487]} .
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر ، عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا معاذ بن عبد الله بن حُبَيب ، عن أبيه ، عن عمه قال : كنا في مجلس فطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا : يا رسول الله ، نراك طيب النفس . قال : " أجل " . قال : ثم خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعيم " .
ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن خالد بن مخلد ، عن عبد الله بن سليمان ، به{[30488]} .
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما يسأل عنه - يعني يوم القيامة - العبد من النعيم أن يقال له : ألم نُصِحّ لك جسمك ، ونُرْوكَ من الماء البارد ؟ " . تفرد به الترمذي . ورواه ابن حبان في صحيحه ، من طريق الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن العلاء بن زَيْر ، به{[30489]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو ، عن يحيى بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لما نزلت : { [ ثُمَّ ]{[30490]} لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله ، لأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ؟ قال : " إن ذلك سيكون " . وكذا رواه الترمذي وابن ماجة ، من حديث سفيان - هو ابن عيينة - به{[30491]} ورواه أحمد عنه{[30492]} ، وقال الترمذي : حسن .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالت الصحابة : يا رسول الله ، وأي نعيم نحن فيه ، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ؟ فهذا من النعيم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني ، عن ابن أبي ليلى - أظنه عن عامر - عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { [ ثُمَّ ]{[30493]} لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال : " الأمن والصحة " {[30494]} .
وقال زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } يعني : شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم . رواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم ، عنه في أول السورة .
وقال سعيد بن جبير : حتى عن شربة عسل . وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا . وقال الحسن البصري : نعيم الغداء والعشاء ، وقال أبو قِلابة : من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي . وقول مجاهد : هذا أشمل هذه الأقوال .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [ الإسراء : 36 ] .
وثبت في صحيح البخاري ، وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن سعيد ابن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " {[30495]} . ومعنى هذا : أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه ، فهو مغبون .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا أبو حمزة ، عن ليث ، عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فوق الإزار ، وظل الحائط ، وخُبْز ، يحاسب به العبد يوم القيامة ، أو يسأل عنه " {[30496]} ثم قال : لا نعرفه إلا بهذا الإسناد .
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان قالا : حدثنا حماد ، قال عفان في حديثه : قال إسحاق ابن عبد الله : عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل - قال عفان : يوم القيامة - : يا بن آدم ، حملتك على الخيل والإبل ، وزوجتك النساء ، وجعلتك تَرْبَع{[30497]} وترأس ، فأين شكر ذلك ؟ " {[30498]} تفرد به من هذا الوجه .
آخر تفسير سورة " التكاثر " {[30499]} [ ولله الحمد والمنة ]{[30500]}