{ قَالَ اللَّهُ } مبينا لحال عباده يوم القيامة ، ومَن الفائز منهم ومَن الهالك ، ومَن الشقي ومَن السعيد ، { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهدْي القويم ، فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق ، إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ولهذا قال : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } والكاذبون بضدهم ، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم ، وثمرة أعمالهم الفاسدة .
{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين . . . }
قال الآلوسي : { قَالَ الله } كلام مستأنف ختم به - سبحانه - حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل . وأشير إلى نتيجته ومآله . والمراد بقول الله - تعالى - عقيب جواب عيسى الإِشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم .
والمراد باليوم في قوله { هذا يَوْمُ } يوم القيامة الذي تجازي فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع { يوم } من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإِشارة أي : قال الله - تعالى - : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم ، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم .
أي أن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة ، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم ، لأنهم لم يكونوا مؤمنين في دنياهم .
وقرأ نافع ( يوم ) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال . أي : قال الله - تعالى - هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين في هذا اليوم .
وقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } جملة مستأنفة لبيان مظاهر النفع الذي ظفر به الصادقون في هذا اليوم . أي : أن هؤلاء الصادقين في دنياهم قد نالوا في آخرتهم جنات تجري من تحت أشجارها وسررها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي : مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أي : رضي الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأماني . ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذي لا تحيط العبارة بوصفه .
واسم الإشارة في قوله : { ذلك الفوز العظيم } يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات تجري من تحتها الأنهار . ومن رضا الله عنهم . أي : إلى النعيم الجثماني المتمثل في الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة ، وإلى النعيم الروحاني المتمثل في رضا الله عنهم .
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب . وحقيقة الثواب : أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم ، وقوله { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } إشارة إلى الدوام . واعتبر هذه الدقيقة : فإنه أينما ذكر الثواب قال { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإِيمان ، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد ، وأما قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها .
( قال الله : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . . إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين ؛ الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم . في أعظم القضايا كافة . . قضية الألوهية والعبودية ، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه . .
. . هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . . إنها كلمة رب العالمين ، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين . . وهي الكلمة الأخيرة في المشهد . وهي الكلمة الحاسمة في القضية . ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين :
( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) . . ( خالدين فيها أبدًا ) . . ( رضي الله عنهم ) . . ( ورضوا عنه ) . .
درجات بعد درجات . . الجنات والخلود ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم : ( ذلك الفوز العظيم ) . .
ولقد شهدنا المشهد - من خلال العرض القرآني له بطريقة القرآن الفريدة - وسمعنا الكلمة الأخيرة . . شهدنا وسمعنا لأن طريقة التصوير القرآنية لم تدعه وعدا يوعد ، ولا مستقبلا ينتظر ؛ ولم تدعه عبارات تسمعها الآذان أو تقرؤها العيون . إنما حركت به المشاعر ، وجسمته واقعا اللحظة تسمعه الآذان وتراه العيون . .
على أنه إن كان بالقياس إلينا - نحن البشر المحجوبين - مستقبلا ننتظره يوم الدين ، فهو بالقياس إلى علم الله المطلق ، واقع حاضر . فالزمن وحجابه إنما هما من تصوراتنا نحن البشر الفانين . .
يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم{[10543]} فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين ، الكاذبين على الله وعلى رسوله ، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه ، عز وجل ، فعند ذلك يقول تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
قال الضحاك ، عن ابن عباس يقول : يوم ينفع الموحدين توحيدهم .
{ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، كما قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا فقال : حدثنا أبو سعيد الأشَجُّ ، حدثنا المحاربي ، عن لَيْث ، عن عثمان - يعني ابن عُمَيْر أبو اليقظان - عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم يتجلى لهم الرب
تعالى فيقول : سلوني سلوني أعطكم " . قال : " فيسألونه{[10544]} الرضا ، فيقول : رضاي أحلكم داري ، وأنالكم كرامتي ، فسلوني أعطكم . فيسألونه الرضا " ، قال : " فيشهدهم أنه قد رضي عنهم " . {[10545]}
وقوله : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه ، كما قال تعالى : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [ الصافات : 61 ] ، وكما قال : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.