تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

{ 93 } { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

لما نزل تحريم الخمر والنهي الأكيد والتشديد فيه ، تمنى أناس من المؤمنين أن يعلموا حال إخوانهم الذين ماتوا على الإسلام قبل تحريم الخمر وهم يشربونها .

فأنزل الله هذه الآية ، وأخبر تعالى أنه { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أي : حرج وإثم { فِيمَا طَعِمُوا } من الخمر والميسر قبل تحريمهما .

ولما كان نفي الجناح يشمل المذكورات وغيرها ، قيد ذلك بقوله : { إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : بشرط أنهم تاركون للمعاصي ، مؤمنون بالله إيمانا صحيحا ، موجبا لهم عمل الصالحات ، ثم استمروا على ذلك . وإلا فقد يتصف العبد بذلك في وقت دون آخر . فلا يكفي حتى يكون كذلك حتى يأتيه أجله ، ويدوم على إحسانه ، فإن الله يحب المحسنين في عبادة الخالق ، المحسنين في نفع العبيد ، ويدخل في هذه الآية الكريمة ، من طعم المحرم ، أو فعل غيره بعد التحريم ، ثم اعترف بذنبه وتاب إلى الله ، واتقى وآمن وعمل صالحا ، فإن الله يغفر له ، ويرتفع عنه الإثم في ذلك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

وقد أتبع - سبحانه - ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال - تعالى - :

{ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ . . . }

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة في معناها ، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن البراء بن عازب قال : ما تناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال : فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .

وعن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله ، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر " لما نزل تحريم الخمر " فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ } الآية .

وروى الإِمام أحمد من حديث أبي هريرة أنه بعد أن نزل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } الآيات ، قال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يربون الخمر ويأكلون مال الميسر ؛ وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية .

قال القرطبي : وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء ، لا إثم ول مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح ، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع ، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها ، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإِباحة فلم يخطر له ، أو يكون لغلبة خوفه من الله - تعالى - وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم ، فرفع الله التوهم بقوله : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية .

وقال الآلوسي : وقيل إن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار .

وقوله - تعالى - { فِيمَا طعموا } أي : ذاقوا ، مأخوذ من الطعم - بالفتح - وهو تذوق الشيء والتلذذ به ، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا .

قال القرطبي : وأصل هذه الكلمة في الأكل . يقال : " طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز في ذلك فيقال : لم أطعم خبزاً ولا ماء ولا نوماً " .

والمعنى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } أي : حرج أو إثم { فِيمَا طعموا } أي فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله - تعالى - وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم .

وقوله : { إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } تحريض للمؤمنين على الأزدياد من الإِيمان والتقوى والعمل الصالح .

أي : إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول ، وثبتوا على الإِيمان ، وأكثروا من الأعمال الصالحات .

وقوله : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ } معطوف على ما قبله .

أي : ثم اسصتمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله ، والإِيمان الحق به - سبحانه - فتكرير التقوى والإِيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك ، مع تمسكهم بما يقتضيه الإِيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر .

وقوله : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } معطوف على ما قبله - أيضاً - لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإِكثار من العمل الصالح ، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه .

وقوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإِيمان والتقوى والإِحسان ، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة .

أي : والله - تعالى - يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامهم بالوقوف عند حدود الله ، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم يرغبة ومسارعة ، وإلى غيرهم بمد يد العون إليهم .

فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده ، ورأفته بهم ؛ حيث بين لهم : أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات ، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله - تعالى - لا يؤاخذه على ذلك . لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه .

وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع في هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها ، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده ، ورحمته بهم .

هذا ، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة .

أما المسألة الأولى فهي : كيف شرط الله في رفع الجناح أي الإِثم عن المطعوعات والمشروبات الإِيمان والتقوى ، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين ؟

وقد قالوا في الإِجابة على ذلك : إن تعليق نفي الجناح أي الإِثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ؛ فإن نفي الإِثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يتشرط بشرط ، وإنما تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال - وهي التقوى والإِيمان - وارد على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم ؛ والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات ، ولإِدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقونوا بأن من تعاطي شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك ، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاهاه بعد تحريمها .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله ! ! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر ؟ فنزلت الآية { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } .

. إلخ يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا ، على معنى : أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإِحسان . ومثاله أن يقال لك : هل على زيد جناح فيما فعل ؟ فتقول : وقد علمت أن ذلك أمر مباح : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمنا محسناً . تريد : أن زيداً تقي مؤمن محسن ، وأنه غير مؤاخذ بما فعل .

وقال أبو السعود ما ملخصه : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز { إذا } شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها ، ومدحا لهم بذلك ، وحمداً لأحوالهم . فكِأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى : مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال ، وإنما كننوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك ، ولو حرما في عصرهم لا تقوهما بالمرة " .

وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي : تكرار التقوى مرة مع الإِيمان والعمل الصالح . ومرة مع الإِيمان ومرة مع الإِحسان ؟

وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال :

الأول : أنه ليس في ذكر التقوى تكرار ، والمعنى : اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها ، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم ، أو على معنى إضافة الإِحسان إلى الاتقاء .

والثاني : اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم وأحسنوا العمل .

الثالث : اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله ، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر ، وازدادوا إيمانا ، والمعنى الثالث ، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا .

الرابع : قال ابن جرير : الاتقاء الأول : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق ، والدينونة به العمل . والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق ، والثالث : الاتقاء بالإِحسان والتقرب بالنوافل .

والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب ، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها ، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله . فإن المؤمن بمداومته على خشيته - سبحانه - يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل في إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإِحسان التي ترفعه إلى أعلى عليين ، والتي عرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

ولقد بين لنا القرآن في مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد ، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات . ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }

وقال تعالى - { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله - تعالى - لن يؤاخذهم بما تعاطوه محرمات قبل تحريمها ، وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له ، وخشيتهم منه حتى لقوه - عز وجل - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات ، وذكر فيها تحريم الخمر ، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة ، مختلفتان في الباعث والهدف .

قال بعض المتحرجين من الصحابة : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا : فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .

وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ؛ يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع ، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ؛ وهي رجس من عمل الشيطان ، ماتوا والرجس في بطونهم !

عنذئذ نزلت هذه الآية :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين ) . .

نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي ؛ فلا عقوبة إلا بنص ؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة ؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم ، وهي لم تحرم بعد ، ليس عليهم جناح ؛ فإنهم لم يتناولوا محرما ؛ ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .

ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس : هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها ، أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها ، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم ، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته ، أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ؛ والطاعة لأمره واجبة ، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد : إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه ! ! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ؛ وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها ، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟

ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) . .

ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إلية النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح ، ومرة مع الإيمان ، ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما يستريح إليه نفسي الأن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو قاله ابن جرير الطبري : " الاتقاء الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل " . .

وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو : " إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال . فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية ، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولابراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله ، والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه ، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم ، لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان " .

وأنا ، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا . . ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر . . والله المستعان .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (93)

ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }

ذكر الأحاديث الواردة في [ بيان ]{[10289]} تحريم الخمر :

قال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[10290]} حدثنا أبو مَعْشَر ، عن أبي وَهْب مولى أبي هريرة ، عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } إلى آخر الآية [ البقرة : 219 ] . فقال الناس : ما حرم علينا ، إنما قال : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين ، أمَّ أصحابه{[10291]} في المغرب ، خلط في قراءته ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[10292]} آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] وكان الناس يشربون ، حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق . ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قالوا : انتهينا ربنا . وقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله ، [ وناس ]{[10293]} ماتوا على سرفهم{[10294]} كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان ؟ فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلى آخر الآية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم " . انفرد به أحمد . {[10295]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مَيْسَرة ، عن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[10296]} أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } فَدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان{[10297]} منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر : انتهينا . {[10298]}

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق عَمْرو بن عبد الله السَّبِيعي وعن أبي ميسرة - واسمه عمرو بن شُرَحبيل الهمداني - عن عُمَر ، به . وليس له عنه سواه ، قال أبو زُرْعَة : ولم يسمع منه . وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي . {[10299]}

وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحِنْطَة ، والشعير ، والخمر ما خامر العقل . {[10300]}

وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن بِشْر ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، حدثني نافع ، عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب . {[10301]}

حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن المصري - يعني أبا طعمة قارئ مصر - قال : سمعت ابن عمر يقول : نزلت في الخمر ثلاث آيات ، فأول شيء نزل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية [ البقرة : 219 ] فقيل : حرمت الخمر . فقالوا : يا رسول الله ، ننتفع بها كما قال الله تعالى . قال : فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] . فقيل : حرمت الخمر ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ثم نزلت :{[10302]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمر " . {[10303]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن القعقاع بن حكيم ؛ أن عبد الرحمن بن وَعْلَة قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر ، فقال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف - أو : من دوس - فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، أما علمت أن الله حرمها ؟ " فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، بماذا أمرته ؟ " فقال : أمرته أن يبيعها . قال : " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . فأمر بها فأفرغت في البطحاء .

رواه مسلم من طريق ابن وَهْب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم . ومن طريق ابن وهب أيضًا ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد كلاهما - عن عبد الرحمن بن وَعْلَة ، عن ابن عباس ، به . ورواه النسائي ، عن قتيبة ، عن مالك ، به . {[10304]}

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية{[10305]} من خمر ، فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال : " إنها قد حرمت بعدك " . قال : يا رسول الله ، فأبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، حرم عليهم شُحُوم البقر والغنم ، فأذابوه ، وباعوه ، والله حَرّم الخمر وثمنها " . {[10306]}

وقد رواه أيضًا الإمام أحمد فقال : حدثنا رَوْح ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام قال : سمعت شهر بن حوشب قال : حدثني عبد الرحمن بن غَنْم : أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر ، فلما كان عام حُرّمت جاء براوية ، فلما نظر إليه ضحك فقال{[10307]} أشعرت أنها حرمت بعدك ؟ " فقال : يا رسول الله ، ألا{[10308]} أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، انطلقوا إلى ما حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه ، فباعوه به ما يأكلون ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام " . {[10309]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن نافع بن كَيسان أن أباه أخبره{[10310]} أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق ، يريد بها التجارة ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني جئتك بشراب طيب{[10311]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا كيسان ، إنها قد حرمت بعدك " . قال : فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها قد حرمت وحرم ثمنها " . فانطلق كيسان إلى الزقاق ، فأخذ بأرجلها ثم هراقها . {[10312]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيي بن سعيد ، عن حميد ، عن{[10313]} أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبي بن كَعْب ، وسُهَيْل بن بيضاء ، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم ، حتى كاد الشراب يأخذ منهم ، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فما قالوا : حتى ننظر ونسأل ، فقالوا : يا أنس اكف ما بقي في إنائك ، فوالله{[10314]} ما عادوا فيها ، وما هي إلا التمر والبسر ، وهي خمرهم يومئذ . {[10315]}

أخرجاه في الصحيحين - من غير وجه - عن أنس{[10316]} وفي رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة ، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ ، فإذا مناد ينادي ، قال : اخرج فانظر . فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ، فَجرت في سِكَكِ المدينة ، قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فَأهْرقها . فهرقتها ، فقالوا - أو : قال بعضهم : قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم . قال : فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية . {[10317]}

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد{[10318]} حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دُجَانة ، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر . فسمعت مناديًا ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ! قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أمّ سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ] }{[10319]} الآية ، فقال رجل لقتادة : أنت سَمعتَه من أنس بن مالك ؟ قال : نعم . وقال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم - أو : حدثني من لم يكذب ، ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب . {[10320]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن بكر بن سوادة ، عن قيس بن سعد بن عبادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ربي تبارك وتعالى حرم عَلَيّ الخمر ، والكُوبَة ، والقنّين . وإياكم والغُبيراء فإنها ثلث خمر العالم " . {[10321]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا فرج بن فضالة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع{[10322]} عن أبيه ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزْر ، والكُوبة والقِنّين . وزادني صلاة الوتر " . قال يزيد : القنين : البرابط . تفرد به أحمد . {[10323]}

وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو عاصم - وهو النبيل - أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم " . قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء ، وكل مسكر حرام " . تفرد به أحمد أيضا{[10324]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي طعمة - مولاهم - وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنت الخمر على عشرة وجوه : لعنت الخمر بعينها وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومُبتاعها ، وعاصرها ، ومُعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها " .

ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث وكيع ، به . {[10325]}

وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو طِعْمة ، سمعت ابن عمر يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد ، فخرجت معه فكنت عن يمينه ، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه ، فكان عن يمينه وكنت عن يساره . ثم أقبل عمر فتنحيت له ، فكان عن يساره . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر - قال ابن عمر - : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : " لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها " . {[10326]}

وقال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة ، فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال : " اغد عليَّ بها " . ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة ، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ، ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته . {[10327]}

حديث آخر : قال عبد الله بن وَهب : أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح ، وابن لَهِيعة ، والليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن ثابت بن يزيد الخولاني أخبره : أنه كان له عم يبيع الخمر ، وكان يتصدق ، فنهيته عنها فلم ينته ، فقدمت المدينة فتلقيت{[10328]} ابن عباس ، فسألته عن الخمر وثمنها ، فقال : هي حرام وثمنها حرام . ثم قال ابن عباس ، رضي الله عنه : يا معشر أمة محمد ، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم ، ونبي بعد نبيكم ، لأنزل فيكم كما أنزل فيمن قبلكم ، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ، ولَعمري لهو أشد عليكم ، قال ثابت : فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر ، فقال : سأخبرك عن الخمر ، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فبينما هو محتب حَلّ حُبْوَته ثم قال : " من كان عنده من هذه الخمر فليأتنا بها " . فجعلوا يأتونه ، فيقول أحدهم : عندي راوية . ويقول الآخر : عندي زقٌّ أو : ما شاء الله أن يكون عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني " . ففعلوا ، ثم آذنوه فقام وقمت معه ، فمشيت عن يمينه وهو متكئ عليّ ، فألحقنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلني عن شماله ، وجعل أبا{[10329]} بكر في مكاني . ثم لحقنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه فأخرني ، وجعله عن يساره ، فمشى بينهما . حتى إذا وقف على الخمر قال للناس : " أتعرفون هذه{[10330]} قالوا : نعم ، يا رسول الله ، هذه الخمر . قال : " صدقتم " . قال : " فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وشاربها وساقيها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها " . ثم دعا بسكين فقال : " اشحذوها " . ففعلوا ، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق ، قال : فقال الناس : في هذه الزقاق منفعة ، قال : " أجل ، ولكني إنما أفعل ذلك غضبًا لله ، عز وجل ، لما فيها من سخطه " . فقال عمر : أنا أكفيك يا رسول الله ؟ قال : " لا " .

قال ابن وَهْب : وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث . رواه البيهقي . {[10331]}

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو الحسين بن بِشْران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شُعْبَة ، عن سِماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أنزلت في الخمر أربع آيات ، فذكر الحديث . قال : وضع رجل من الأنصار طعامًا ، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا ، فتفاخرنا ، فقالت الأنصار : نحن أفضل . وقالت قريش : نحن أفضل . فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور ، فضرب به أنف سعد ففزره ، وكان أنف سعد مفزورًا . {[10332]} فنزلت آية الخمر : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ ] }{[10333]} إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } أخرجه مسلم من حديث شعبة . {[10334]}

حديث آخر : قال البيهقي : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أنبأنا أبو علي الرفاء ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع هذا بي ، أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن{[10335]} والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي ، حتى وقعت{[10336]} الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ]{[10337]} فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ] }{[10338]}

ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة ، عن حجاج بن منهال . {[10339]}

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني محمد بن خَلَف ، حدثنا سعيد بن محمد الجرْمي ، عن أبي تُمَيْلَة ، عن سلام مولى حفص أبي القاسم ، عن أبي بريدة ، عن أبيه قال : بينا نحن قُعُود على شراب لنا ، ونحن رَمْلة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، إذ نزل تحريم الخمر : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلى آخر الآيتين{[10340]} { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون } ؟ قال : وبعض القوم شَربته في يده ، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم{[10341]} فقالوا : انتهينا ربنا . {[10342]}

حديث آخر : قال البخاري : حدثنا صَدَقة بن الفضل ، أخبرنا ابن عُيَينة ، عن عمرو ، عن جابر قال : صَبَّح ناس غداة أحد الخمر ، فَقُتلوا من يومهم جميعًا شهداء ، وذلك قبل تحريمها .

هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه{[10343]} وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن عَبْدة ، حدثنا سفيان ، عن{[10344]} عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول : اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم . فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } ثم قال : وهذا إسناد صحيح . وهو كما قال ، ولكن في سياقته غرابة .

حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية .

ورواه الترمذي ، عن بُنْدار ، غُنْدَر{[10345]} عن شعبة ، به نحو . وقال : حسن صحيح . {[10346]}

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا جعفر بن حميد الكوفي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن عيسى بن جارية ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين ، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة ، فلقيه رجل من المسلمين فقال : يا فلان ، إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تَلّ ، وسجى عليها بأكسية ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال : " أجل " قال : لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال : " لا يصلح{[10347]} ردها " . قال : لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال : " لا " . قال : فإن فيها مالا ليتامى في حجري ؟ قال : " إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوّضُ أيتامك من مالهم " . ثم نادى بالمدينة ، فقال رجل : يا رسول الله ، الأوعية ننتفع بها ؟ . قال : " فَحُلُّوا أوكيتها " . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب . {[10348]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن السُّدِّي ، عن أبي هُبيرة - وهو يحيى بن عَبَّاد الأنصاري - عن أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال : " أهرقها " . قال : أفلا نجعلها خلا ؟ قال : " لا " .

ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، من حديث الثوري ، به نحوه . {[10349]}

حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رَجاء ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، حدثنا هلال بن أبي هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن هذه الآية التي في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال : هي في التوراة : " إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ، ويبطل به اللعب ، والمزامير ، والزَّفْن ، والكِبَارات - يعني البرابط - - والزمارات - يعني به الدف - والطنابير - والشعر ، والخمر مرة لمن طعمها . أقسم الله بيمينه وعزة حَيْله من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه{[10350]} يوم القيامة ، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس " .

وهذا إسناد صحيح .

حديث آخر : قال عبد الله بن وَهْب : أخبرني عمرو بن الحارث ؛ أن عمرو بن شُعَيب حدثهم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة ، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " . قيل : وما طينة الخبال ؟ قال : " عصارة أهل جهنم " .

ورواه أحمد ، من طريق عمرو بن شعيب . {[10351]}

حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني ، قال : سمعت النعمان - هو ابن أبي شيبة الجَنَدي - يقول عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مَخمَّر خَمْر ، وكل مُسْكِر حَرَام ، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال " . قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله قال : " صديد أهل النار ، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال "

تفرد أبو داود . {[10352]}

حديث آخر : قال الشافعي ، رحمه الله : أنبأنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة " .

أخرجه البخاري ومسلم ، من حديث مالك ، به . {[10353]}

وروى مسلم عن أبي الربيع ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مُسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر فمات وهو يُدْمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة " . {[10354]}

حديث آخر : قال ابن وَهْب : أخبرني عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يَسار ؛ أنه سمع سالم بن عبد الله يقول : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ، والمُدْمِن الخمر ، والمنَّان بما أعطى " .

ورواه النسائي ، عن عمر بن علي ، عن يزيد بن زُرَيْع ، عن عمر بن محمد العُمَري ، به . {[10355]}

وروى أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منَّان ولا عاق ، ولا مُدْمِن خمر " . {[10356]}

ورواه أحمد أيضًا ، عن عبد الصمد ، عن عبد العزيز بن مسلم{[10357]} عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، به . وعن مروان بن شجاع ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، به{[10358]} ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا ، عن الحسين الجَعْفِي ، عن زائدة ، عن بن ابن أبي زياد ، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد ، كلاهما عن أبي سعيد ، به . {[10359]}

حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة عاق ، ولا مُدْمِن خمر ، ولا منَّان ، ولا ولد زنْيَة " . {[10360]}

وكذا رواه عن يزيد ، عن همام ، عن منصور ، عن سالم ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، به{[10361]} وقد رواه أيضًا عن غُنْدر وغيره ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن نُبَيْط بن شُرَيط ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منان ، ولا عاق والديه ، ولا مدمن خمر " .

ورواه النسائي ، من حديث شعبة كذلك ، ثم قال : ولا نعلم{[10362]} أحدًا تابع شعبة عن نبيط بن شريط . {[10363]}

وقال البخاري : لا يعرف لجابان سماع من عبد الله ، ولا لسالم من جابان ولا نبيط .

وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد ، عن ابن عباس - ومن طريقه أيضًا ، عن أبي هريرة ، فالله أعلم .

وقال الزهري : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن أباه قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : اجتنبوا الخمر ، فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس ، فَعَلقته امرأة غَوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت : إنا ندعوك لشهادة . فدخل معها ، فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عَليّ أو تقتل هذا الغلام ، أو تشرب هذا الخمر . فسقته كأسًا ، فقال : زيدوني ، فلم يَرِم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه .

رواه البيهقي{[10364]} وهذا إسناد صحيح . وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه " ذم المسكر " عن محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، عن الفضيل بن سليمان النميري ، عن عمر بن سعيد ، عن الزهري ، به مرفوعًا{[10365]} والموقوف أصح ، والله أعلم .

وله شاهد في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . {[10366]}

وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن سِماك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : لما حرمت الخمر قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية . قال : ولما حُوّلت القبلة قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ{[10367]} } [ البقرة : 143 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا داود بن مِهْران الدباغ ، حدثنا داود - يعني العطار - عن ابن خُثَيْم ، عن شَهْرِ بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرب الخمر لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلة ، إن مات مات كافرًا ، وإن تاب تاب الله عليه . وإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبَال " . قالت : قلت : يا رسول الله ، وما طينة الخبال ؟ قال : " صديد أهل النار " . {[10368]}

وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قيل لي : أنت منهم " .

وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من طريقه . {[10369]}

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : قرأت على أبي ، حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم وهاتان الكعبتان الموسمتان اللتان تزجرا{[10370]} زجرًا ، فإنهما مَيْسِر العَجَم " . {[10371]}


[10289]:زيادة من أ.
[10290]:في د، ر: "شريج".
[10291]:في ر: "الصحابة".
[10292]:زيادة من أ.
[10293]:زيادة من أ.
[10294]:في ر: "شربهم"، وفي أ: "فرشهم".
[10295]:المسند (2/351).
[10296]:زيادة من أ.
[10297]:في أ: "حتى كان".
[10298]:في أ: "انتهينا انتهينا".
[10299]:المسند (1/53) وسنن أبي داود برقم (3670) وسنن الترمذي برقم (3049) وسنن النسائي (8/286).
[10300]:صحيح البخاري برقم (4619) وصحيح مسلم برقم (3032).
[10301]:صحيح البخاري برقم (4616).
[10302]:في أ: "فنزلت".
[10303]:مسند الطيالسي برقم (1957).
[10304]:المسند (1/230) والموطأ (2/846) وصحيح مسلم برقم (1579) وسنن النسائي (7/307)
[10305]:في أ: "صلى الله عليه وسلم كل عام راوية".
[10306]:وفي إسناده انقطاع.ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/57) من طريق زيد بن أخزم، عن أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن تميم الداري به.
[10307]:في أ: "وقال".
[10308]:في أ: "أفلا".
[10309]:المسند (4/226) وقال الهيثمي في المجمع (4/88)، "فيه شهر وحديثه حسن وفيه كلام".
[10310]:في أ: "أن أباه قد أخبره".
[10311]:في أ: "جيد".
[10312]:المسند (4/337) وقال الهيثمي في المجمع (4/88): "فيه نافع بن كيسان وهو مستور".
[10313]:في ر: "بن".
[10314]:في أ: "فرأيته".
[10315]:المسند (3/181)
[10316]:صحيح البخاري برقم (4620) وصحيح مسلم برقم (1980).
[10317]:هذا لفظ مسلم في صحيحه برقم (1980).
[10318]:في د، ر: "عبد الحميد".
[10319]:زيادة من ر.
[10320]:تفسير الطبري (10/578) ورواه البزار في مسنده برقم (2922) "كشف الأستار" من طريق عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بنحوه.
[10321]:المسند (4/422) وقال الهيثمي في المجمع (5/54): "فيه عبيد الله بن زحر وثقة أبو زرعه والنسائي وضعفه الجمهور".
[10322]:في ر: "نافع".
[10323]:المسند (2/163) وقال الهيثمي في المجمع (2/240): "فيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع وهو مجهول".
[10324]:المسند (2/171).
[10325]:المسند (2/25) وسنن أبي داود برقم (3674) وسنن ابن ماجة برقم (3380).
[10326]:المسند (2/71).
[10327]:المسند (2/132) وقال الهيثمي في المجمع (5/54): "رواه أحمد بإسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وفي الآخر أبو طعمة، وقد وثقه محمد بن عمار الموصلي، وضعفه مكحول وبقية رجاله ثقات".
[10328]:في أ: "فلقيت".
[10329]:في ر: "أبو" وهو خطأ.
[10330]:في ر: "هذا".
[10331]:السنن الكبرى (8/286).
[10332]:في د، ر: "مفزورة".
[10333]:زيادة من ر، أ.
[10334]:السنن الكبرى (8/285) ولفظه عنده. "أنزلت في أربع آيات". وصحيح مسلم برقم (1748).
[10335]:في د، أ: "ضغائن فيقول".
[10336]:في أ: "حتى إذا وقعت".
[10337]:زيادة من ر، أ، وفي هـ إلى آخر الآية".
[10338]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
[10339]:السنن الكبرى (8/285) وسنن النسائي الكبرى برقم (11151).
[10340]:في أ: "الآية".
[10341]:في أ: "باطنهم".
[10342]:تفسير الطبري (10/572).
[10343]:صحيح البخاري برقم (4618).
[10344]:في ر: "بن".
[10345]:في ر، أ: "بندار عن غندر".
[10346]:مسند الطيالسي برقم (715) وسنن الترمذي برقم (3051).
[10347]:في أ: "لا يصح".
[10348]:مسند أبي يعلى (3/404) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1980) "مجمع البحرين" من طريق جعفر بن حميد به.قال الهيثمي في المجمع (4/88): "في إسنادهما يعقوب القمي، وعيسى بن جارية وفيهما كلام وقد وثقا".
[10349]:المسند (3/119) وصحيح مسلم برقم (1983) وسنن أبي داود برقم (3675) وسنن الترمذي برقم (1294).
[10350]:في أ: "إلا عطشته".
[10351]:المسند (2/178) ورواه الحاكم في المستدرك (4/146) والبيهقي في السنن الكبرى (8/287) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله بن وهب به.
[10352]:سنن أبي داود (3680).
[10353]:مسند الشافعي برقم (1763) "بدائع المنن" وصحيح البخاري برقم (5575) وصحيح مسلم برقم (2003).
[10354]:صحيح مسلم برقم (2003).
[10355]:سنن النسائي الكبرى برقم (2343) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/288) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن عبد الله بن وهب به.
[10356]:المسند (3/44).
[10357]:في ر: "أسلم".
[10358]:المسند (3/28).
[10359]:سنن النسائي الكبرى برقم (4920).
[10360]:المسند (2/203).
[10361]:المسند (2/164).
[10362]:في ر: "يعلم".
[10363]:المسند (2/201) وسنن النسائي الكبرى برقم (4914)
[10364]:السنن الكبرى (8/287) من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري به. وقد خولف يونس بن يزيد خالفه عمر بن سعيد بن السرحة، فرواه عن الزهري مرفوعا، كما سيأتي في رواية ابن أبي الدنيا.
[10365]:ذم المسكر برقم (1) ورواية يونس بن يزيد أرجح من رواية عمر بن سعيد بن السرحة، فقد لينه بعض الأئمة. قالوا: "وأحاديثه عن الزهري ليست بمستقيمة".
[10366]:صحيح البخاري برقم (6810) وصحيح مسلم برقم (57).
[10367]:المسند (1/295).
[10368]:المسند (6/460) وقال الهيثمي في المجمع (5/69): "فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد حسن حديثه، وبقية رجاله ثقات".
[10369]:صحيح مسلم برقم (2459) وسنن الترمذي برقم (3053) وسنن النسائي الكبرى برقم (11153).
[10370]:في ر: "الموسمتان الذين يزجران" وهذا على لغة من يلزم المثنى الألف.
[10371]:المسند (1/446) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.