يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب ، ومزعجات القلوب فقال : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ } بسبب النفخ فيه { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ } أي : انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له . { إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ممن أكرمه الله وثبته وحفظه من الفزع . { وَكُلٌّ } من الخلق عند النفخ في الصور { أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } صاغرين ذليلين ، كما قال تعالى : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } ففي ذلك اليوم يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك .
وقوله - سبحانه - : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله . . } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً } والصور ، القرن الذى ينفخ فيه نفخة الصَّعْق والبعث ، وذلك يكون عند النفخة الثانية . . . والنافخ : إسرافيل - عليه السلام - .
قال القرطبى ما ملخصه : والصحيح فى الصور أنه قرن من نور ، ينفخ فيه إسرافيل .
والصحيح - أيضا - فى النفخ فى الصور أنهما نفختان . وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما . . والمراد - هنا النفخة الثانية - أى : يحيون فزعين ، يقولون : " من بعثنا من مرقدنا " ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم .
والمعنى واذكر - أيها العاقل - يوم ينفخ إسرافيل فى الصور بإذن الله - تعالى - وأمره { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } أى : خافوا وانزعجوا ، وأصابهم الرعب ، لشدة ما يسمعون ، وهول ما يشاهدون ، فى هذا اليوم الشديد .
وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } اسثناء ممن يصيبهم الفزع .
أى : ونفخ فى الصور ففزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله - تعالى - لهم عدم الفزع والخوف .
والمراد بهؤلاء الذين لا يفزعون ، قيل : الأنبياء ، وقيل : الشهداء ، وقيل : الملائكة .
ولعل الأنسب أن يكون المراد ما يعم هؤلاء السعداء وغيرهم ، ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه ، لأنه لم يرد نص صحيح يحددهم .
وقوله - سبحانه - : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } أى : وكل واحد من هؤلاء الفزعين المبعوثين عند النفخة ، أتوا إلى موقف الحشر ، للوقوف بين يدى الله - تعالى - { دَاخِرِينَ } أى : صاغرين أذلاء .
ومن آيتي الليل والنهار فى الأرض ، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور ، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله . وما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار ؛ وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير ، ومن عقاب بالفزع والكب في النار :
( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ؛ وكل أتوه داخرين . وترى الجبال تحسبها جامدة ، وهي تمر مر السحاب ، صنع الله الذي أتقن كل شيء ، إنه خبير بما تفعلون . من جاء بالحسنة فله خير منها ، وهم من فزع يومئذ آمنون . ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار . هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) . .
والصور البوق ينفخ فيه . وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله أن يأمن ويستقر . . قيل هم الشهداء . . وفيها يصعق كل حي في السماوات والأرض إلا من شاء الله .
ثم تكون نفخة البعث . ثم نفخة الحشر . وفي هذه يحشر الجميع ( وكل أتوه داخرين )أذلاء مستسلمين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم ينفخ في الصور ففزع} يقول: فمات {من في السماوات ومن في الأرض} من شدة الخوف والفزع، {إلا من شاء الله}... {وكل أتوه داخرين} يعني: وكل؛ البر والفاجر أتوه في الآخرة صاغرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:"وَيَوْمَ يُنْفَخ فِي الصورِ" وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى، وبيّنا الصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم يذكر هناك من الأخبار؛
فقال بعضهم: هو قرن يُنفخ فيه... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ونُفخ في صُور الخلق...
وقوله: "إلا مَنْ شاءَ الله "قيل: إن الذين استثناهم الله في هذا الموضع من أن ينالهم الفزع يومئذٍ الشهداء، وذلك أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وإن كانوا في عداد الموتى عند أهل الدنيا، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناه في الخبر الماضي.
وقوله: "وكُلّ أتَوْهُ داخرِينَ" يقول: وكلّ أتوه صاغرين... قال ابن زيد، في قوله: "وكلّ أتَوْهُ دَاخرِينَ" قال: الداخر: الصاغر الراغم، قال: لأن المرء الذي يفزع إذا فزع إنما همته الهرب من الأمر الذي فزع منه، قال: فلما نُفخ في الصور فزعوا، فلم يكن لهم من الله منجى...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في النفخ؛ ما هو؟ وفي عدده. واختلف في الصور أيضا؛ ما هو؟ وكيف هو؟ أما الاختلاف في النفخ: فمنهم من يقول: ليس على حقيقة النفخ، ولكن إخبار عن خفة قيام القيامة على الله... ومنهم من يقول ذكر النفخ لسرعة نفاذ الساعة؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من النفخ... ومنهم من يقول على حقيقة النفخ... لكنا لا نفسر شيئا مما ذكر من النفخ والصور أنه كذا، ولا نشير إلى شيء أنه ذا إلا إن ثبت شيء من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال به، وليس هو بشيء يوجب العمل به، فنكلف صحته أو سقمه، إنما هو شيء يجب التصديق به، فنقول بالنفخ والصور على ما جاء، ولا نفسره، والله أعلم.
{ففزع من في السماوات ومن في الأرض} كقوله في آية أخرى: {فصعق من في السماوات ومن في الأرض} [الزمر: 68] إنما هو إخبار عن شدة هول ذلك اليوم كقوله: {وترى الناس سكارى} الآية [الحج: 2] وكقوله: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} [الحج: 2] ونحوه...
وجائز أن يكون الذين استثناهم هم الذين أخبر عنهم في آخر الآية أنهم يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله، وهو ما قال: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون} [النمل: 89].
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنه الإجابة والإسراع إلى النداء من قولك فزعت إليه في كذا إذا أسرعت إلى ندائه... فعلى هذا يكون {إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ} استثناء لهم من الإِجابة والإسراع إلى النار. والقول الثاني: إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحذر لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين فعلى هذا يكون قوله {إِلاَّ مَن شَاءَ} استثناء لهم من الخوف والفزع. وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم، قاله ابن عيسى.
الثاني: أنهم الشهداء. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء ولولا هذا النص لكان الأنبياء بذلك أحق لأنهم لا يقصرون عن منازل الشهداء وإن كان في هذا النص تنبيه عليهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قيل: {فَفَزِعَ} دون فيفزع؟ قلت: لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السموات والأرض؛ لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما، أي فزعوا فزعا ماتوا منه؛ أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره... والسُنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث، خرجهما مسلم... قال الله تعالى:"ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله" [الزمر: 68] فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة.
"إلا من شاء الله "اختلف في هذا المستثنى من هم. ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون،... وقد صححه القاضي أبو بكر العربي فليعول عليه؛ لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد. والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر هذا الحشر الخاص، والدليل على مطلق الحشر والنشر، ذكر الحشر العام، لئلا يظن أنه إنما يحشر الكافر، فقال مشيراً إلى عمومهم بالموت كما عمهم بالنوم، وعمومهم بالإحياء كما عمهم بالإيقاظ: {ويوم ينفخ} أي بأيسر أمر {في الصور} أي القرن الذي جعل صوته لإماتة الكل.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والذي يستدعيه سياقُ النَّظمِ الكريمِ وسباقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قولِه تعالى {فَفَزِعَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض} ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضروريينِ الجبليينِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن آيتي الليل والنهار في الأرض، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله. وما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار؛ وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير، ومن عقاب بالفزع والكب في النار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على {ويوم نحشر من كل أمة فوجاً} [النمل: 83]، عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا ب« يوم يحشرون إلى النار» ذكروا أيضاً بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور، تسجيلاً عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذاراً بما يعقبه مما دل عليه قوله {ءاتوه داخرين} وقوله {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله}.
والنفخ في الصور تقدم في قوله {وله الملك يوم ينفخ في الصور} في سورة الأنعام (73) وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى {ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68]، وذلك هو يوم الحساب. وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعنى بها الإحياء، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون، ولهذا فرع عليه قوله {ففزع من في السموات ومن في الأرض}، أي عقبه حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب، فكل أحد يخشى أن يكون معذباً، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعاً من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات.
والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون} [النمل: 89] وقوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} إلى قوله {لا يحزنهم الفزع الأكبر} [الأنبياء: 101 103] وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة. قال تعالى {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103] وقال {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [يونس: 64].
وجيء بصيغة الماضي في قوله {ففزع} مع أن النفخ مستقبل، للإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله {أتى أمر الله} [النحل: 1] لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله {ينفخ}.
والداخرون: الصاغرون. أي الأذلاء، يقال: دَخِرَ بوزن منع وفرِح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور.
وضمير الغيبة الظاهر في {ءاتوه} عائد إلى اسم الجلالة، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على {يوم ينفخ في الصور} على تقدير: ءاتون فيه والمضاف إليه (كل) المعوض عنه التنوين، تقديره: من فزع ممن في السموات والأرض آتوه داخرين. وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.
وقرأ الجمهور {آتوه} بصيغة اسم الفاعل من أتى. وقرأ حمزة وحفص {أتوه} بصيغة فعل الماضي فهو كقوله {ففزع}.