تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

{ 103 - 104 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما أحله الله ، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما ، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وهي : ناقة يشقون أذنها ، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة .

{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي : ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه ، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل ، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة .

{ وَلَا حَامٍ } أي : جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم .

فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان . وإنما ذلك افتراء على الله ، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فلا نقل فيها ولا عقل ، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

ثم حكى - سبحانه - بعض الأوهام والخرافات التي كان أهل الجاهلية يتمسكون بها ، ويعتبرونها من العادات الدينية الراسخة في نفوسهم ، مع أنها لا أصل لها ، وإنما هم الذين ابتدعوها ونسبوها إلى دين الله بدون دليل أو برهان فقال - تعالى - :

{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها . ولما كان الكفار يحرمون على انفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات - وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها - بين تعالى - أن ذلك باطل فقال : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ }

وجعل هنا بمعنى شرع ووضع ، و { من } زائد لتأكيد النفي والبحيرة بزنة فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق .

وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها ، وتركوها لآلهتهم وامتنعوا عن نحرها وركوبها . وسموها " البحيرة " أي : مشقوقة الأذن .

وعن قتادة أنهم كانوا إذا أنجبت خمسة أبطن نظروا في الخامس فإن ذكر ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى دون أن يستعملها أحد في حلب أو ركوب .

والسائبة بزنة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء إذا ترك يجري .

قال أبو عبيدة : كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر أو شفى من مرض . سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة وتسمى السائبة .

وقال محمد بن إسحاق : السائبة هي الناقة تلد عشرة أبطن إناث ، فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ، ولا يشرب لبنها إلا ضيف .

وعن ابن عباس : هي التي تسيب للأصنام ، فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم .

والوصيلة بزنة فعيلة بمعنى فاعله . قال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين - أي اثنين اثنين - وإذا ولدت في آخرها انثى وذكرا . قيل : وصلت أخاها . فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ، وتجري مجرى السائبة في تركها دون أن يجز وبرها .

وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت انثى كانت لهم وإذا ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلا تذبح ويكون الذكر لآلهتهم .

وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى ، فكانوا يتركونها للطواغيت ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر .

والحام اسم فاعل من حمى يحمي أي منع .

قال الفراء : هو الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء أو مرعى .

وقال أبو عبيدة : هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء أو مرعى .

هذه بعض الأقوال التي ذكرها العلماء في تفسير هذه الألفاظ الأربعة ، وهناك أقوال أخرى سواها تختلف عنها .

ويبدو أن الخلاف في حقيقة هذه الأربعة مرجعه إلى اختلاف القبائل في بلاد العرب واختلاف الأماكن التي يقيمون فيها ، والعادات الباطلة التي شبوا عليها وألفوها .

هذا ، وقد ذكر ابن كثير بعض الروايات التي وردت في تفسيره هذه الألفاظ ، كما ذكر أول من أدخل هذه العادات الباطلة في بلاد العرب فقال ما ملخصه : " روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعيد بن المسيب قال . البحيرة : هي التي تكون درها للطواغيت . والسائبة : هي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . والحام : فحل الإِبل يضرب الضرائب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت ولا يحملون عليه شيئا .

وروى الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أول من سيب السوائب وعبد الإِصنام أبو خزاعة عمرو بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " .

والمعنى : ما شرع الله - تعالى - شيئاً مما حرمه أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهذه الحيوانات إنما حرم أهل الجاهلية أكلها والانتفاع بها من عند أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح أنفسهم بدون علم أو برهان ، وهم في هذا التحريم إنما يفترون على الله الكذب الصريح القاطع بسبب كفرهم وضلالهم وأكثرهم لا يفقهون الحق ولا يستجيبون له انقيادا لأهوائهم ورؤسائهم .

والمراد بالذين كفروا في قوله { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } رؤساؤهم وزعماؤهم الذين يأتون لعوامهم الفاسدة والمزاعم الباطلة ، وينسبونها إلى دين الله كذبا وزورا .

والمراد بأكثرهم في قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } عوامهم ودهماؤهم الذين يسيرون خلف كل ناعق بدون تفكير أو تدبر .

وقد عبر - سبحانه - بقوله { وَأَكْثَرُهُمْ } إنصافاً للقلة العاقلة التي خالفت هذه الأوهام الباطلة ، وإستجابت للحق عند ظهوره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

ويبدو - بالاستناد إلى رواية مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنه - ومن قول سعيد بن جبير كذلك في أسباب نزول الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . . ) أن من بين ما كانوا يسألون عنه أشياء كانت في الجاهلية . ولم نقف على معين للسؤال ماذا كان . ولكن مجيء الحديث في السياق عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي بعد آية النهي عن السؤال يوحي بأن هناك اتصالا ما . . فنكتفي بهذا لنواجه النص القرآني عن هذه العادات الجاهلية :

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ؟ )

إن القلب البشري إما أن يستقيم على فطرته التي فطره الله عليها ؛ فيعرف إلهه الواحد ، ويتخذه ربا ، ويعترف له وحده بالعبودية ويستسلم لشرعه وحده ؛ ويرفض ربوبية من عداه فيرفض إذن أن يتلقى شريعة من سواه . . إما أن يستقيم القلب البشري على فطرته هذه فيجد اليسر في الاتصال بربه ، ويجد البساطة في عبادته ، ويجد الوضوح في علاقاته به . . وإما أن يتيه في دروب الجاهلية والوثنية ومنعرجاتها ، تتلقاه في كل درب ظلمة ، ويصادفه في كل ثنية وهم . تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها ، وشتى التضحيات لإرضائها ؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات ، حتى ينسى الوثني أصولها ، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها ، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان .

ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد ؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض ؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب . . وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها ؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها . ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها ؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها . سواء في أعماق الضمير ، أم في شعائر العبادة ، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام .

وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية ، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير . ويقرر أصول التفكير والنظر ؛ وأصول الشرع والنظام في آن :

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام . ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ، وأكثرهم لا يعقلون ) . .

هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة ، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير . البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ! ! !

هذه الصنوف من الأنعام ما هي ؟ ومن الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها ؟

لقد تشعبت الروايات في تعريفها ، فنعرض نحن طرفا من هذه التعريفات :

" روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيب [ أي يحجز لبنها ويخصص للآلهة فلا يطعمها الناس وكهنة الآلهة هم الذين يأخذونه طبعًا ! ] والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ، ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يذبحونها لطواغيتهم . والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود [ أي يقوم بتلقيح عدد من النوق ] فإذا بلغ ذلك يقال : حمى ظهره ، فيترك ، فيسمونه الحامي .

" وقال أهل اللغة : البحيرة الناقة التي تشق أذنها ، يقال : بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا ، والناقة مبحورة وبحيرة ، إذا شققتها واسعا . ومنه البحر لسعته . وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة ، وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا ، بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولم تطرد عن ماء ، ولم تمنع عن مرعى ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها . قالوا : والسائبة المخلاة وهي المسيبة ، وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر ، أو برء من مرض ، أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية . . فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوها : وقال بعضهم : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم . وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم . وقالوا : الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمى ظهره فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى "

وهناك روايات أخرى عن تعريف هذه الأنواع من الطقوس لا ترتفع على هذا المستوى من التصور ، ولا تزيد الأسباب فيها معقولية على هذه الأسباب . . وهي كما ترى أوهام من ظلام الوثنية المخيم . وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم ، لا يكون هناك حد ولا فاصل ، ولا ميزان ولا منطق . وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط . وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب ، والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان ، حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق ، الذي لا منعرجات فيه ولا ظلام . وقد تتغير الأشكال الخارجية ولكن لباب الجاهلية يبقى ، وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة !

إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ؛ ولكنها حالة ووضع يتكرر - في ِأشكال شتى - على مدار الزمان . فإما ألوهية واحدة تقابلها عبودية شاملة ؛ وتتجمع فيها كل ألوان السلطة ، وتتجه إليها المشاعر والأفكار ، والنوايا والأعمال ، والتنظيمات والأوضاع ، وتتلقى منها القيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والتصورات والتوجيهات . . وإما جاهلية - في صورة من الصور - تتمثل فيها عبودية البشر للبشرأو لغيرهم من خلق الله . . لا ضابط لها ولا حدود . لأن العقل البشري لا يصلح وحده أن يكون ضابطا موزونا ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة . فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين ؛ ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبة ذلك الضابط الموزون .

وإننا لنشهد اليوم - بعد أربعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن بهذا البيان - أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد ، تاه في منحنيات ودروب لا عداد لها ، وخضع لربوبيات شتى ، وفقد حريته وكرامته ومقاومته . . ولقد شهدت في هذا الجانب الخرافي وحده في صعيد مصر وريفها عشرات من الأوهام تطلق لها بعض صنوف الحيوان ، للأولياء والقديسين ، في ذات الصورة التي كانت تطلق بها للآلهة في الزمان القديم !

على أن المسألة في تلك الطقوس الجاهلية - وفي كل جاهلية - هي القاعدة الكلية . هي نقطة الانطلاق في طريق الإسلام أو في طريق الجاهلية . هي . . لمن الحكم في حياة الناس . . لله وحده كما قرر في شريعته ؟ أم لغير الله فيما يقرره البشر لأنفسهم من أحكام وأوضاع وشرائع وطقوس وقيم وموازين ؟ أو بتعبير آخر : لمن الألوهية على الناس ؟ لله ؟ أم لخلق من خلقة ؟ أيا كان هذا الخلق الذي يزاول حقوق الألوهية على الناس !

ومن ثم يبدأ النص القرآني بتقرير أن الله لم يشرع هذه الطقوس . لم يشرع البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحامي . . فمن ذا الذي شرعها إذن لهؤلاء الكفار ؟ !

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) . .

والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار . كفار يفترون على الله الكذب . مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله . . ومرة يقولون : إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا . . ونحن مع هذا لا نعصي الله . وكله كذب على الله :

( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) . .

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله . فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة . بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله . ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله ! وهم بهذا كانوا كفارا . ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند الله أنفسهم ثم يزعمون - أو لا يزعمون - أن هذا شرع الله !

إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه ، وهو الذي بينه رسوله [ ص ] وهو ليس مبهما ولا غامضا ولا قابلا لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري ، ويزعم أنه منه ، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان !

ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر . ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون ! ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله . ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء !

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ما جعل الله} حراما، {من بحيرة} لقولهم: إن الله أمرنا بها، نزلت في مشركي العرب،أمرهم بذلك في الجاهلية عمرو بن ربيعة بن لحي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"رأيت عمرو بن ربيعة الخزاعي رجلا قصيرا، أشقر، له وفرة، يجر قصبه في النار، يعني أمعاءه، وهو أول من سيب السائبة، واتخذ الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأوثان حول الكعبة، وغير دين الحنفية، فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخزاعي"، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: "لا أنت مؤمن وهو كافر". والبحيرة: الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، فإذا كان الخامس سقيا، وهو الذكر، ذبحوه للآلهة، فكان لحمه للرجال دون النساء، وإن كان الخامس ربعة، يعني أنثى، شقوا أذنيها، فهي البحيرة، وكذلك من البقر، لا يجز لها وبر، ولا يذكر اسم الله عليها إن ركبت، أو حمل عليها، ولبنها للرجال دون النساء. وأما السائبة فهي: الأنثى من الأنعام كلها، كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه، ولا يسيب إلا الأنثى، وظهورها وأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها للآلهة، ومنافعها للرجال دون النساء. وأما الوصيلة فهي: الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى السابع، فإن كان جديا ذبحوه للآلهة، وكان لحمه للرجال دون النساء، وإن كانت عناقا استحيوها، فكانت من عرض الغنم. وإن وضعته ميتا، أشرك في أكله الرجال والنساء، فذلك قوله عز وجل: {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} (الأنعام: 139)، بأن ولدت البطن السابع جديا وعناقا، قالوا: إن الأخت قد وصلت أخاها، فحرمته علينا، فحرما جميعا، فكانت المنفعة للرجال دون النساء. وأما الحام فهو: الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده، فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك، قالوا: قد حمى هذا ظهره، فأحرز نفسه، فيهل للآلهة ولا يحمل عليه ولا يركب ولا يمنع من مرعى ولا ماء ولا حمى، ولا ينحر أبدا حتى يموت موتا، فأنزل الله عز وجل: {ما جعل الله} حراما، {من بحيرة} {ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا} من مشركي العرب، {يفترون على الله الكذب}، لقولهم: إن الله أمرنا بتحريمه حين قالوا في الأعراف: {والله أمرنا بها} (الأعراف: 28)، يعني بتحريمها، ثم قال: {وأكثرهم لا يعقلون} أن الله عز وجل لم يحرمه...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها. فأما الحام فمن الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه، جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه. وأما الوصيلة 853 فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها.

تفسير الشافعي 204 هـ :

220- قال الشافعي: كان أهل الجاهلية يبحرون البحيرة، ويسيبُون السائبة، ويوصلون الوصيلة، ويعفون الحام، وهذه من الإبل والغنم. فكانوا يقولون في الحام: إذا ضرب في إبل الرجل عشر سنين، وقيل: نتج له عشرة حام، أي حمى ظهره فلا يحل أن يركب. ويقولون في الوصيلة وهي من الغنم: إذا وصلت بطونا توءما ونتج نتاجها، فكانوا يمنعونها مما يفعلون بغيرها مثلها. ويسبون السائبة فيقولون: قد أعتقناك سائبة ولا وَلاء لنا عليك ولا ميراث يرجع منك ليكون أكمل لتبررنا فيك، فأنزل الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَآئِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} 855 الآية، فَرَدَّ الله ثم رسوله صلى الله عليه وسلم الغنم إلى مالكها إذا كان العتق لا يقع على غير الآدميين، وكذلك لو أنه أعتق بعيره لم يمنع بالعتق منه إذا حكم الله عز وجل أن يرد إليه ذلك ويبطل الشرط فيه. فكذلك أبطل الشروط في السائبة ورده إلى ولاء من أعتقه مع الجملة التي وصفنا لك...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة، ولا سيب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميا، ولكنكم الذين فعلتم ذلك أيها الكفرة، فحرّمتموه افتراء على ربكم... والبحيرة: الفَعيلة، من قول القائل: بَحرتُ أذنَ هذه الناقة: إذا شقها...

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن أبيه، قال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أرأيْتَ إبِلَكَ ألَسْتَ تُنْتِجُها مُسَلّمَةً آذَانُها، فَتأْخُذُ المُوسَى فَتَجْدَعُها تَقُولُ هَذِهِ بَحِيرَةٌ، وَتَشُقّ آذَانَها تَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ؟» قال: نعم، قال: «فإنّ ساعِدَ اللّهِ أشَدّ، وَمُوسَى اللّهِ أحَدّ، كُلّ مالِكَ لَكَ حَلالٌ لا يُحَرّمُ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ».

وأما السائبة: فإنها المسيبة المخلاة، وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه، فيحرم الانتفاع به على نفسه، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبده سائبة فلا ينتفع به ولا بولائه. وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة، كما قيل: «عِيشَة رَاضِيَة»، بمعنى: مرضية.

وأما الوصيلة: فإن الأنثى من نعمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنا بذكر وأنثى، قيل: قد وصلت الأنثى أخاها، بدفعها عنه الذبح، فسموها وصيلة.

وأما الحامي: فإنه الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب، والانتفاع بسبب تتابع أولاد تحدث من فِحْلَته...

وذلك أن الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيها ذكر سيبت، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فُعِل بأمها فهي البحيرة ابنة السائبة. والوصيلة: أن الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهنّ ذكر جعلت وصيلة، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم. والحامي: أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنّ ذكر حُمِي ظهره، ولم يركب، ولم يجزّ وبره، ويخلى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره:"ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ...

" إلى قوله: "وَلاَ يهْتَدُونَ"...

وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام، فلا نعرف قوما يعملون بها اليوم. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر، ولا في الشرك نعرفه إلا بخبر، وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلاف الذي ذكرنا فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الأسماء، فما بينا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية. وأما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به. وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه، موصلاً إلى حقيقته، وهو أن القوم كانوا محرمين من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله اتباعا منهم خطوات الشيطان، فوبخهم الله تعالى بذلك، وأخبرهم أن كلّ ذلك حلال، فالحرام من كلّ شيء عندنا، ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، بنصّ أو دليل. والحلال منه: ما أحلّه الله ورسوله كذلك.

"وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ"

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالذين كفروا في هذا الموضع والمراد بقوله:"وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ"؛

فقال بعضهم: المعنيّ بالذين كفروا: اليهود، وبالذين لا يعقلون: أهل الأوثان.

وقال آخرون: بل هم أهل ملة واحدة، ولكن «المفترين» المتبوعون، و«الذين لا يعقلون»: الأتباع.

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله:"وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ "الذين بحروا البحائر، وسيبوا السوائب، ووصلوا الوصائل، وحموا الحوامي مثل عمرو بن لحي وأشكاله، ممن سنوا لأهل الشرك السنن الرديئة وغيروا دين الله دين الحقّ وأضافوا إلى الله تعالى أنه هو الذي حرّم ما حرّموا وأحلّ ما أحلوا، افتراء على الله الكذب وهم يعلمون، واختلاقا عليه الإفك وهم يعمهون. فكذّبهم الله تعالى في قيلهم ذلك، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا، فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك ويفترون على الله الكذب. وأن يقال: إن المعنيين بقوله "وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ "هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شكّ أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن، وأخبروهم أنها من عند الله كذبة في إخبارهم أفكة، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقون في إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى كذب وباطل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} أي ما جعل الله قربانا مما جعلوا هم لأنهم كانوا يجعلون ما ذكر من البحيرة والسائبة وما ذكر قربانا يتقربون بذلك إلى الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها دون الله، فقال: ما جعل الله من ذلك شيئا مما جعلتم أنتم من البحيرة و السائبة. فقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} وما ذكر أي ما أمر بذلك، ولا أذن بها. قيل: حرم أهل الجاهلية هذه الأشياء؛ منها ما حرموه على نسائهم دون رجالهم، ومنها ما حرموه على الرجال والنساء، ومنها ما جعلوه لآلهتهم به.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هذه أحكامٌ ابتدعوها، فردَّهم الحقُّ -سبحانه- عن الابتداع، وأمَرهم بحسن الاتِّباع، وأخبر أنَّ ما صدر من عاداتهم لا يُعَدُّ من جملة عبادتهم.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وأما السائبة: كان الرجل من أهل الجاهلية إذا مرض له مريض، أو غاب له قريب، يقول: إن رد الله غائبي، أو إن شفى الله مريضي؛ فناقتي هذه سائبة، ثم يسيبها، تذهب حيث تشاء، (أو) يقول: إن كان كذا؛ فعبدي عتيق سائبة. يعني: من غير ولاء، ولا ميراث؛ فهذا معنى السائبة.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{ما جعل الله من بحيرة}: ما أنزل الله، ولا أمر به...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{جعل} في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سنَّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ}:

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْسِيمُهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ هَاهُنَا: مَا سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ حُكْمًا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا لُغَةٌ:

فَالْبَحِيرَةُ، هِيَ: النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنُ لُغَةً، يُقَالُ: بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ؛ أَيْ شَقَقْتهَا.

وَالسَّائِبَةُ، هِيَ: الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا.

وَالْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ: كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَلَدَتْ الشَّاةُ أُنْثَى كَانَتْ لَهُمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا كَانَتْ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآلِهَةِ، وَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ.

وَالْحَامِي: كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا نَتَجَتْ من صُلْبِ الْفَحْلِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ فَسَيَّبُوهُ لَا يُرْكَبُ وَلَا يُهَاجُ.

وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ طَوِيلٌ بِاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ يَرْجِعُ إلَى مَا أَوْضَحَهُ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ...

{مَا جَعَلَ اللَّهُ من بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِزَعْمِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ وَفِي طَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إنَّمَا تُعْلَمُ من قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ...

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ من ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ من الْبَاطِلِ، وَلَزِمَهُمْ الِانْقِيَادُ إلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى من التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، دُونَ التَّعَلُّقِ بِمَا كَانَ يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ من الْأَبَاطِيلِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}: وَهَذَا عَامٌّ فِيهِمْ، لَكِنْ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ: افْتِرَاءُ مُعَانِدٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَزُورٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَهُمْ الْأَتْبَاعُ لِرُؤَسَائِهِمْ وَأَهْلُ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ، وَهُمْ الْأَكْثَرُ؛ وَالْعَذَابُ يُشْرِكُهُمْ وَيَعُمُّهُمْ، وَالْعِنَادُ أَعْظَمُ عَذَابًا.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ما جعل الله} أي الذي له صفات الكمال فلا يشرع شيئاً إلا وهو على غاية الحكمة، وأغرق في النفي بقوله: {من بحيرة} وأكد النفي بإعادة النافي فقال: {ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} دالاً بذلك على أن الإنسان قد يقع في شرعه لنفسه على الخبيث دون الطيب، وذلك لأن الكفار شرعوا لأنفسهم هذا وظنوا أنه من محاسن الأعمال، فإذا هو مما لا يعبأ الله به بل ومما يعذب عليه، لكونه أوقعهم فيما كانوا معترفين بأنه أقبح القبائح وهو الكذب، بل في أقبح أنواعه وهو الكذب على ملك الملوك، ثم صار لهم ديناً، وصاروا أرسخ الناس فيه وهو عين الكفر...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه سبحانه وتعالى نهى في السياق الذي قبلهما عن تحريم ما أحله الله وعن الاعتداء فيه- وإن كان التحريم تركا يلتزم بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا، لا شرعا يدعى إليه ويعتقد وجوبه افتراء عليه تعالى، -وبين فيه كفارة الأيمان، وحرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وصيد البر على المحرم بحج أو عمرة، وبعد أن نهى عن تحريم ما أحله، نهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم الله تعالى شيئا لم يكن حرمه، أو شرع حكم لم يكن شرعه، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا، فيكون الجواب عنه إن ورد تكليفا جديدا، فناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم، وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم، وما قلد بهم بعضهم بعضا على جهلهم، مع بيان بطلان التقليد، وكونه ينافي العلم والدين-

أما معنى الجملة فهو أن الله تعالى لم يشرع لهم تحريم البحائر والسوائب وأخواتهما، أي لم يجعله من أحكام الدين {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} بزعمهم أن هذه الأشياء محرمة سواء أسندوا تحريمها إلى الله تعالى ابتداء، أو ادعاء على سبيل الاستدلال...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} فلا نقل فيها ولا عقل، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن القلب البشري إما أن يستقيم على فطرته التي فطره الله عليها؛ فيعرف إلهه الواحد، ويتخذه ربا، ويعترف له وحده بالعبودية ويستسلم لشرعه وحده؛ ويرفض ربوبية من عداه فيرفض إذن أن يتلقى شريعة من سواه.. إما أن يستقيم القلب البشري على فطرته هذه فيجد اليسر في الاتصال بربه، ويجد البساطة في عبادته، ويجد الوضوح في علاقاته به.. وإما أن يتيه في دروب الجاهلية والوثنية ومنعرجاتها، تتلقاه في كل درب ظلمة، ويصادفه في كل ثنية وهم. تطلب إليه طواغيت الجاهلية والوثنية شتى الطقوس لعبادتها، وشتى التضحيات لإرضائها؛ ثم تتعدد الطقوس في العبادات والتضحيات، حتى ينسى الوثني أصولها، ويؤديها وهو لا يعرف حكمتها، ويعاني من العبودية لشتى الأرباب ما يقضي على كرامة الإنسان التي منحها الله للإنسان. ولقد جاء الإسلام بالتوحيد ليوحد السلطة التي تدين العباد؛ ثم ليحرر الناس بذلك من العبودية بعضهم لبعض؛ ومن عبوديتهم لشتى الآلهة والأرباب.. وجاء ليحرر الضمير البشري من أوهام الوثنية وأوهاقها؛ وليرد إلى العقل البشري كرامته ويطلقه من ربقة الآلهة وطقوسها. ومن ثم حارب الوثنية في كل صورها وأشكالها؛ وتتبعها في دروبها ومنحنياتها. سواء في أعماق الضمير، أم في شعائر العبادة، أم في أوضاع الحياة وشرائع الحكم والنظام. وهذا منعرج من منعرجات الوثنية في الجاهلية العربية، يعالجه ليقومه ويسلط عليه النور ليبطل ما حوله من أساطير. ويقرر أصول التفكير والنظر؛ وأصول الشرع والنظام في آن: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون).. هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة، منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير. البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي!!!...

(ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون).. ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم الذي جاء به من عند الله. فهم لم يكونوا يجحدون الله البتة. بل كانوا يعترفون بوجوده وبقدرته وبتصريفه للكون كله. ولكنهم مع ذلك كانوا يشرعون لأنفسهم من عند أنفسهم ثم يزعمون أن هذا شرع الله! وهم بهذا كانوا كفارا. ومثلهم كل أهل جاهلية في أي زمان وفي أي مكان يشرعون لأنفسهم من عند الله أنفسهم ثم يزعمون -أو لا يزعمون- أن هذا شرع الله! إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه، وهو الذي بينه رسوله صلى الله عليه وسلم وهو ليس مبهما ولا غامضا ولا قابلا لأن يفتري عليه أحد من عنده ما يفتري، ويزعم أنه منه، كما يتصور أهل الجاهلية في أي زمان وفي أي مكان! ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر. ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون! ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله. ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع، لأنّ أصل (جعل) إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم: فرض عليه جعالة، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} [المائدة: 97]. فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع. فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضبِ على من جعله، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً: ما أمرتك بهذا. فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام، وذلك مثل قوله: {قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا} [الأنعام: 150] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه.

وأدخلت (مِن) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة، فقد ساوى أن يقال: لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام...

وقوله: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون. والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعاً يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع. والكذب هو الخبر المخالف للواقع.

والكفّار فريقان خاصّة وعامّة: فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عَمْرُو بنُ عامر بن لُحَيّ...

وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة، وهم الذين أريدوا بقول: {وأكثرهم لا يعقلون}. فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس.

والافتراء: الكذب. وتقدّم عند قوله تعالى: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} في سورة آل عمران (94).

وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذباً ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين: إحداهما: أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام، وذلك إشراك وكفر عظيم. الثانية: أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى، وربما عدت عليه السباع، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه. وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وهذه الآية جاءت في السورة التي أحل الله فيها بهيمة الأنعام، وحرم منها ما حرم. فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يستبقي حياته من قوت، وما يستبقي نوعه بالتزاوج. وإذا كان الحق هو الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض فقد أعد له كل هذه المقومات للحياة من قبل آدم عليه السلام، أعد سبحانه لخلقه الأرض والسماء والماء والهواء، ومما ذخر وخبأ وأوجد في الأرض من أقوات لا تنتهي إلى يوم القيامة.

ولنا أن نلتفت إلى فارق مهم بين (الخلق)، وبين (الجعل). فالخلق شيء، والجعل شيء آخر. والخلق هو إيجاد من عدم. والجعل هو توجيه مخلوق لله إلى مهمته في الحياة. فخلق الله لا يخلقون شيئا، إنما الخلق والإيجاد له سبحانه. وعلينا – نحن الخلق -أن نخصص كل شيء لمهمته في حياته التي أرادها الله، أي أن نترك (الجعل) لله ولا نتدخل فيه، بمعنى أن الخالق سبحانه وتعالى خلق الخنزير – على سبيل المثال – ليأكل من القاذورات وليحمي الإنسان من أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان – إذن – أن يخصص الخنزير لهذه المهمة فلا يحوله إلى غير مهمته كأن يأكله مثلا؛ لأن تحويل مهمة مخلوق لله إلى غير مهمته هو أمر يضر بالإنسان الذي أراده الله سيدا مستخلفا في الكون.

وأبلغ سبحانه الناس أنه قد أحل أشياء وحرم أشياء، وعلى الإنسان أن يرضخ لما حلله الله فيقبل عليه، وأن يرضخ بالابتعاد عما حرم الله. والخالق سبحانه وتعالى هو الذي (خلق) وهو الذي (جعل) وهو القائل:

{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} (من الآية 97 سورة المائدة)

وهو القائل:

{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} (من الآية 1 سورة الأنعام)

والحق سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نجعل له أندادا.

{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات ورزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون (22)} (سورة البقرة).

فسبحانه وتعالى موجود وواحد أحد، فلا يصح أن تجعلوا له أندادا؛ لأن ذلك عبث. ويثبت لنا سبحانه أن قضية الفساد في الأرض تنشأ من تعدي الناس إلى الجعل المخلوق لله فيحولونه إلى غير ما خلقه الله له.

والخلق في حياتهم اليومية يحرصون على أن يستخدموا الأشياء فيما هي مخصصة له. ومثال ذلك: أنت تستقبل من صانع الجبن قالبا من جبن. وتستقبل من صانع الصابون قالبا من الصابون، ثم تجيء بالجبن والصابون إلى المنزل، فتخبر أهل البيت بأن الجبن للأكل والصابون للغسيل، ويطيع الجميع هذه التوجيهات. لكن إن استخدم أحد الصابون للأكل والجبن للغسيل يحدث إفساد في صحة أفراد الأسرة. وكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى لنا أبناء من أصلابنا، فكيف نأخذ أبناء من غير أصلابنا لنجعلهم أبناء لنا؟ إن هذا خطأ في الجعل.

لذلك قال الحق:

{وما جعل أدعياءكم أبناءكم} (من الآية 4 سورة الأحزاب).

إن الداعي هو في حقيقة أمره من غير صلبك، وزوجتك ليست أما له، فكيف تجعله ابنا لك، وتمكنه من أن يجلس في حجر امرأة غير أمه ويشب على ذلك وينظر إلى غير محارمه على أن ذلك حلال ومباح له، إنه بذلك يفقد التميز بين الحلال والحرام؛ لذلك فالتبني إفساد في الجعل.

إن كل فساد ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقا لله في مهمة غير تلك التي جعلها الله له، والحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيته، وما يحفظ نوعه، فعلينا أن نتبع ما يأمر به الحق من اتباع ما هو حلال، والابتعاد عما هو حرام. وإن قال قائل: ولماذا حرم الله بعض الأشياء التي خلقها؟ ونقول: إن الذي خلقها جعلها لمهمة غير التي يريد الإنسان أن يوجهها له، ومثال ذلك تحريم أكل لحم الخنزير.

والإنسان منا إذا ما رأى صورة من معيشة الحيوانات في الغابة. بتعجب، ففضلات حيوان هي غذاء لحيوان آخر. وسم الثعبان هو حماية وعلاج. ونعرف أن الإنسان يستخلص سم الثعبان ليستخرج منه علاجا لبعض الأمراض ولقتل بعض الجراثيم.

ولذلك يقول الحق سبحانه:

{قل أرئيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل أالله أذن لكم أم على الله تفترون (59)} (سورة يونس)

كيف إذن نجعل من أنفسنا مشرعين نحلل الحرام ونحرم الحلال؟ إن الله الذي خلق كل شيء لم يمنحنا الإذن بذلك. وعلينا أن نسلم بأن كل شيء مخلوق لمهمة فلا يصح أن نوجه شيئا إلى غير مهمته. وتوجيه أشياء إلى غير ما جعلت له أنتج آثارا ضارة، ومثال ذلك استخدامنا لمبيدات الحشرات في الحقول، تلك المبيدات أبادت الضار في نظرنا، وأبادت النافع أيضا. وعلى الإنسان – إذن – أن ينتبه جيدا فلا يساوي بين الحرام والحلال، وأن ينتبه تماما فلا يتعدى الجعل المخلوق لله...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

هناك احتمالات أُخرى وردت عند المفسّرين وفي الأحاديث بشأن تحديد هذه المصطلحات الأربعة، لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنّها تدل جميعاً على حيوانات قَدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك. صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر، حتى نحو الحيوانات، وهو بهذا جدير بالتقدير والإِجلال، ولكنّه كان تكريماً لا معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك. كما كان فضلا عن ذلك مضيعة للمال وإِتلافاً لنعم الله وتعطيلها عن الاستثمار النافع، ثمّ إنّ هذه الحيوانات، بسبب هذا الاحترام والتكريم، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها. ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة، فقد كانت تقضي بقية أيّامها في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة، ولهذا كله وقف الإِسلام بوجه هذه العادة! إِضافة إلى ذلك، يستفاد من بعض الرّوايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقربون بذلك كله، أو بقسم منه إلى أصنامهم، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام، ولذلك كان إِلغاء هذه العادات تأكيداً لمحاربة كل مخلفات الشرك. والعجيب في الأمر، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إِذا ما ماتت موتاً طبيعياً (وكأنّهم يتبركون بها) وكان هذا عملا قبيحاً آخر. ثمّ تقول الآية: (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) قائلين أنّ هذه قوانين إِلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه، بل كانوا يقلدون الآخرين في ذلك تقليداً أعمى: (وأكثرهم لا يعقلون).