{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
لما جرى يوم " أحد " ما جرى ، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب ، رفع الله بها درجته ، فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم ، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل ، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم ، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك ، فعل ، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم ، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم ، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد ، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم ، وأن هذا شرك في العبادة ، نقص في العقل ، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه ، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده ، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة ، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم ، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية ، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته ، حيث وضع العقوبة موضعها ، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه ،
وقوله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } أى : ليس لك من أمر الناس شىء ، وإنما أمرهم إلى الله وحده ، أما أنت فوظيفتك التبليغ والإرشاد ، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .
وقوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . أى مما هم فيه من الكفر فيهديهم إلى الإسلام بعد كفرهم وظلالهم .
وقوله { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أى أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة على كفرهم واجتراحهم للسيئات ، فإنهم بذلك يكونون مستحقين للعقاب ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فهم الذين صموا آذانهم عن الحق واستحبوا العمى على الهدى .
وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطفات ويكون تقدير الآيتين هكذا :
ولقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل والأسر ، ا يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة بسبب ظلمهم ، وليس لك من أمرهم شىء ، إنما أنت رسول ن عند الله - تعالى - مأمور بإنذارهم وجهادهم .
وقد رجح هذا الوجه صاحب الكشاف فقال : وقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } اعتراض . والمعنى أن الله مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، وليس لك من أمرهم شىء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . .
وقيل إن { أَوْ } بمعنى " إلا أن " كقولك : لألزمنك أو تقضينى حقى ، على معنى ليس لك من أمرهم شىء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم .
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد بينتا أحوال الكافرين فى غزوة بدر أكمل بيان ، لأن فريقاً منهم قد قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتوا وذلوا ، وفريقا من الله عليهم بالإسلام فأسلموا ، وفريقاً عذبوا بالموت على الكفر أو عذبوا فى الدنيا بالذل والصغار .
و " أو " التى جىء بها بين هذه الجمل للتقسيم .
هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } روايات منها ما أخرجه مسلم عن أنس " أن النبى صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج فى وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبهم وهو يدعوهم إلى ربهم - عز وجل - فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } " .
ومنها ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرا أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده : " اللهم ربنا ولك الحمد . اللهم أنج الوليد بن الوليد . وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " يجهر بذلك . وكان يقول فى بعض صلاته فى صلاة الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من العرب " حتى أنزل الله - تعالى - : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } " .
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة ، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم ، فيتوب الله عليهم من كفرهم ، ويختم لهم بالإسلام والهداية . .
( أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر ، وظلمهم بفتنة المسلمين ، وظلمهم بالفساد في الأرض ، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله ، وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله [ ص ] يخرجه النص من مجال هذا الأمر ، ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر : من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها : طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ ص ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم ، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج ، وأجرهم من الله على الوفاء ، وعلى الولاء ، وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص : ( ليس لك من الأمر شيء ) فسيرد في السياق قول بعضهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . . وقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم : إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث ، وأكبر من شتى الاعتبارات . .
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ }
يعني بذلك تعالى ذكره : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، فإنهم ظالمون ، ليس لك من الأمر شيء ، فقوله : { أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } منصوب عطفا على قوله : { أوْ يَكْبِتَهُمْ } . وقد يحتمل أن يكون تأويله : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم ، فيكون نصب «يتوب » بمعنى «أو » التي هي في معنى «حتى » . والقول الأول أولى بالصواب ، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك . وتأويل قوله : { لَيْسَ لكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } : ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري ، وتنتهي فيهم إلى طاعتي ، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري أقضي فيهم ، وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني ، وخالف أمري ، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة ، وإما في آجل الاَخرة بما أعددت لأهل الكفر بي . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } : أي ليس لك من الحكم في شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ، أو أتوب عليهم برحمتي ، فإن شئت فعلت . أو أعذبهم بذنوبهم ، { فإنّهُمْ ظَالِمُونَ } أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي .
وذكر أن الله عزّ وجلّ إنما أنزل هذه الاَية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما أصابه بأحد ما أصابه من المشركين ، قال كالاَيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحقّ : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بنبّيهم » . ذكر الرواية بذلك .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا حميد ، قال : قال أنس : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، وشجّ ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا نَبِيّهُمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ ؟ » فأنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شجّ في جبهته ، وكسرت رباعيته : «لا يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ » فأوحى الله إليه : { لَيْس لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثني يعقوب عن ابن علية ، قال : حدثنا ابن عون ، عن الحسن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحد : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أدْمَوْا وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ عَزّ وَجَلّ » فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وقد جرح نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وأصيب بعض رباعيته ، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ » فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة ، قال : أصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمرّ به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ، ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : «كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ » فأنزل الله تبارك وتعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } . . . الاَية ، قال : قال الربيع بن أنس ، أنزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وقد شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وأصيبت رباعيته ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم ، فقال : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أدْمَوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إلى الشّيْطانِ وَيَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى وَيَدْعُونَهُ إلى الضّلالَةِ ، ويَدْعُوهُمْ إلى الجَنّةِ وَيَدْعُونَهُ إلى النّارِ » فهمّ أن يدعو عليهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . . . الاَية كلها ، فقال : جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صنع بأصحابه يوم بدر ، فقاتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم أُحد قتالاً شديدا ، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة علم الله أنها قد خالطت غضبا : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ » فقال الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلم أصيبت يوم أُحد ، أصابها عتبة بن أبي وقاص ، وشجّه في وجهه ، وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الدم ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا بِنَبِيّهِمْ هَذَا » فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، وعن عثمان الجزري ، عن مقسم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر باعيته ، ووثأ وجهه ، فقال : «اللّهُمّ لا تُحِلْ عَلَيْهِ الحَوْلَ حتى يَمُوتَ كافِرا ! » قال : فما حال عليه الحول حتى مات كافرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : شجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه ، وكسرت رباعيته . قال ابن جريج : ذكر لنا أنه لما جرح ، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ ؟ » . فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه دعا على قوم ، فأنزل الله عزّ وجل : ليس الأمر إليك فيهم . ذكر من الرواية بذلك :
حدثني يحيى بن حبيب بن عربي ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو على أربعة نفر ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } قال : وهداهم الله للإسلام .
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أحمد بن سفيان ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ الْعَنْ أبا سُفْيانَ ! اللّهُمّ الْعَنِ الحَارِثَ ابْنَ هِشامٍ ! اللّهُمّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ! » فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية ، قال : «اللّهُمّ أنْجٍ عَيّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَسَلْمَةَ بْنَ هِشامٍ وَالَولِيدَ بْنَ الوَلِيدِ ، اللّهُمّ أنْجِ المُسْتَضْعفينَ مِنَ المُسْلِمينَ ، اللّهُمّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضَرَ ، اللّهُمّ سِنِينَ كَسِنِينَ آلِ يُوسَف ! » فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم } . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أخبره عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة ، ويكبر ويرفع رأسه : «سَمِعَ الله لمن حَمِدَهْ ، رَبّنَا وَلَكَ الحَمْدُ » ثم يقول وهو قائم : «الّلهُمّ أنْجِ الولِيدَ بْنَ الوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ وعَيّاشَ بْن أبي رَبيعَةَ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، اللّهُمّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضرَ ، وَاجْعَلْها عَلَيْهِمْ كَسِني يُوسُفَ ، اللّهُمّ الْعَنِ لْحْيانَ وَرعلاً وَذَكْوَانَ وعُصَيّةُ عَصَتِ اللّهَ وَرَسُولَهُ » . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .
وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } توقيف على أن الأمر كله لله ، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك «أنه لما هزم أصحابه وشج في وجهه ، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث بالحجارة حتى صرع لجنبه ، تحيز عن الملحمة ، وجعل يمسح الدم من وجهه ويقول : لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم »{[3512]} ، هكذا لفظ الحديث من طريق أنس بن مالك ، وفي بعض الطرق ، وكيف يفلح ؟ وفي بعضها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأفاق وهو يقول : كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله ؟ فنزلت الآية : بسبب هذه المقالة .
قال القاضي : وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فروي أنه دعاء عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم ، وروى ابن عمر وغيره : أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام{[3513]} وصفوان بن أمية{[3514]} باللعنة ، إلى غير هذا من معناه ، فقيل له بسبب ذلك ، { ليس لك من الأمر شيء } أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك ، قال الطبري وغيره من المفسرين : قوله : { أو يتوب عليهم } عطف على { يكبتهم } .
قال القاضي : فقوله : { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض أثناء الكلام ، وقوله : { أو يتوب } معناه : فيسلمون ، وقوله : { أو يعذبهم } معناه : في الآخرة بأن يوافوا على الكفر ، قال الطبري وغيره : ويحتمل أن يكون قوله { أو يتوب } بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك : لا أفارقك أو تقضيني حقي ، وكما تقول : لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان ، وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } ليس باعتراض على هذا التأويل ، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب عليهم فيسلموا ، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه فيهم ، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا ، أو بنار في الآخرة أو بهما ، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر ، وعلى هذا التأويل فليس في قوله : { ليس لك من الأمر شيء } ردع كما هو في التأويل الأول ، وذلك التأويل الأول أقوى ، وقرأ أبي بن كعب ، «أو يتوبُ أو يعذبُ » ، برفع الباء فيهما ، المعنى : أو هو يتوب ، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار .
ثم أكد معنى قوله { ليس لك من الأمر شيء } بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء ، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء ، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه ، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه ، ثم رجا في آخر ذلك تأنيساً للنفوس وجلباً لها إلى طاعته ، وذلك كله في قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله غفور رحيم }