{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : لا تطرد عنك ، وعن مجالستك ، أهل العبادة والإخلاص ، رغبة في مجالسة غيرهم ، من الملازمين لدعاء ربهم ، دعاء العبادة بالذكر والصلاة ونحوها ، ودعاء المسألة ، في أول النهار وآخره ، وهم قاصدون بذلك وجه الله ، ليس لهم من الأغراض سوى ذلك الغرض الجليل ، فهؤلاء ليسوا مستحقين للطرد والإعراض عنهم ، بل مستحقون لموالاتهم ومحبتهم ، وإدنائهم ، وتقريبهم ، لأنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء ، والأعزاء في الحقيقة وإن كانوا عند الناس أذلاء .
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : كلٌّ له حسابه ، وله عمله الحسن ، وعمله القبيح . { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، أشد امتثال ، فكان إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نفسَه معهم ، وأحسن معاملتهم ، وألان لهم جانبه ، وحسن خلقَه ، وقربهم منه ، بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي الله عنهم .
وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن أناسا [ من قريش ، أو ] من أجلاف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك ، فاطرد فلانا وفلانا ، أناسا من فقراء الصحابة ، فإنا نستحيي أن ترانا العرب جالسين مع هؤلاء الفقراء ، فحمله حبه لإسلامهم ، واتباعهم له ، فحدثته نفسه بذلك . فعاتبه الله بهذه الآية ونحوها .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء .
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
أى : لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء ، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟ لا أطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك ؟ فنزلت هذه الآية .
ففى الآية الكريمة نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه . لأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للاسلام لينال بقوتهم قوة ، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة فى الإيمان والعمل الصالح ، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه فى كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله ، فكيف يطردون من مجالس الخير ؟
ثم قال تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } .
أى : إن الله تعالى هو الذى سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شىء ، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شىء ، فهم مجزبون بأعمالهم ، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك ، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الضالين . إذ انهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك ، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما تلك هى صفاتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كفى قوله { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى فى قوله :
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه .
وقيل : الضمير للمشركين . والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين .
وهنا تخريج آخر لقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } بأن المعنى : ما عليك شىء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء ، وما من حسابك فى الفقر والغنى عليهم من شىء ، أى أ ، ت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعاً سواء منهم الفقير والغنى ، فكيف تطرد فقيراً لفقره ، وتقرب غنيا لغناه ؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين ، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك .
وقوله { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب للنهى عن الطرد ، وقوله { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب لنفى الحساب .
ثم قال تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } .
والمعنى : ومثل ذلك الفتن . أى الابتلاء والاختبار ، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض ، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء فى شأن الضعفاء : أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإيمان من بيننا ! وقد رد الله عليهم بقوله { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } أى : أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .
لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله ؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء ؛ يريدون وجهه سبحانه ! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد ، والحب ، والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله ، إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب ، وصار ربانيا يعيش لله وبالله . .
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من " أشراف " العرب ، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام ؛ لأن محمدا [ ص ] يؤوي إليه الفقراء الضعاف ، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله [ ص ] أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر ، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف ، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم [ ص ] رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه :
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .
روى مسلم عن سعد بن أبى وقاص ، قال : كنا مع النبي [ ص ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ ص ] : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ! قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله [ ص ] ما شاء الله أن يقع . فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .
ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف ، الذين يخصهم رسول الله [ ص ] بمجلسه وبعنايته ؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله [ ص ] من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا :
( ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم فتكون من الظالمين )
فإن حسابهم على أنفسهم ، وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله ، لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله ، ولا تقوم بقيمة . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله [ ص ] أن يكون من الظالمين !
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله [ ص ] وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون : كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء ؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم ! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ } . .
ذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين قال المشركون له : لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو زيد ، عن أشعث ، عن كُردوس الثعلبي ، عن ابن مسعود ، قال : مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ، هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا ، أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الاَية : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدونَ وَجْهَه وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن كردوس الثعلبي ، عن عبد الله ، قال : مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن كردوس ، عن ابن عباس ، قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ من قريش ، ثم ذكر نحوه .
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزديّ وكان قارىء الأزد عن أبي الكنود ، عن خباب ، في قول الله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . . . إلى قوله : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمينَ قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب ، في أناس من ضعفاء المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه فقالوا : إنا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال : «نَعَمْ » قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتابا قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا عليّا ليكتب ، قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل بهذه الاَية : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ ، ثم قال : وكذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهُؤَلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ ، ثم قال : وَإذا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ . فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ، ثم دعانا ، فأتيناه وهو يقول : سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ . فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحيَاةِ الدّنْيا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزديّ ، عن أبي الكنود ، عن خباب بن الأرق ، بنحو حديث الحسين بن عمرو إلاّ أنه قال في حديثه : فلما رأوهم حوله نَفّروهم ، فأتوه فخَلَوا به . وقال أيضا : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ ، ثم ذكر الأقرع وصاحبه ، فقال : وكَذَلكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . الاَية . وقال أيضا : فدعانا فأتيناه وهو يقول : «سَلامٌ عَلَيْكُمْ » فدنونا منه يومئذٍ حتى وضعنا ركبنا على ركبتيه ، وسائر الحديث نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وحدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والكلبي : أن ناسا من كفار قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن سَرّكَ أن نتبعك فاطرد عنا فلانا وفلانا ناسا من ضعفاء المسلمين . فقال الله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدونَ وَجْهَه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ . . . إلى قوله : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . الاَية ، قال : وقد قال قائلون من الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد إن سرّك أن نتبعك فاطرد عنا فلانا وفلانا لأناس كانوا دونهم في الدنيا ازدراهم المشركون . فأنزل الله تعالى هذه الاَية إلى آخرها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ بلال وابن أمّ عبد كانا يجالسان محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش محقرتهما : لولاهما وأمثالهما لجالسناه فنهي عن طردهم ، حتى قوله : ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ قال : قل سلام عليكم فيما بين ذلك في هذا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا سفيان ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، قال : قال سعيد : نزلت هذه الاَية في ستة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، منهم ابن مسعود ، قال : كنا نسبق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وندنو منه ونسمع منه ، فقالت قريش : يُدْني هؤلاء دوننا ؟ فنزلت : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، في قوله : وأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبّهِمْ . . . الاَية . قال : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عديّ والحرث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا ، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له قال : فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بالذي كلموه به ، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلام يصيرون من قولهم فأنزل الله تعالى هذه الاَية : وأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُون أنْ يُحْشَرُوا إلى رَبّهِمْ لَيْس لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . . . إلى قوله : ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ . قال : وكانوا : بلالاً وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ومن الحلفاء : ابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، ومسعود ، ابن القاري ، وواقد بن عبد الله الحنظلي ، وعمرو بن عبد عمر ذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد ، وأبو مرثد من غنيّ حليف حمزة بن عبد المطلب ، وأشباههم من الحفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا . . . الاَية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله تعالى : وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ . . . الاَية .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال رجل للنيّ صلى الله عليه وسلم : إني أستحيي من الله أن يراني مع سلمان وبلال وذويهم ، فاطردهم عنك وجالس فلانا وفلانا قال : فنزل القرآن : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فقرأ حتى بلغ : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلاّ أن تطردهم . ثم قال : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكِرِينَ . ثم قال : وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم فأبلغهم منى السلام وبشّرهم ، وأخبرهم أني قد غفرت لهم وقرأ : وَإذَا جاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبّكُمْ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ فقرأ حتى بلغ : وكذَلِكَ نُفصّلُ الاَياتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ قال : لتعرفها .
واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرهط الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم يدعون ربهم به ، فقال بعضهم : هي الصلوات الخمس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يعني : يعبدون ربهم بالغداة والعشيّ ، يعني الصلوات المكتوبة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، في قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال : هي الصلوات الخمس الفرائض ، ولو كان يقول القصّاص هلك من لم يجلس إليهم .
حدثنا هناد بن السريّ وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال : هي الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ الصلاة المفروضة : الصبح والعصر .
حدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي ، قال : حدثنا حسن الجعفي ، قال : أخبرني حمزة بن المغيرة ، عن حمزة بن عيسى ، قال : دخلت على الحسن فسألته ، فقلت : يا أبا سعيد ، أرأيت قول الله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ أهم هؤلاء القصّاص ؟ قال : لا ، ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ قال : الصلاة المكتوبة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : يعبدون ربهم بالغداة والعشيّ يعني الصلاة المفروضة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ هما الصلاتان : صلاة الصبح وصلاة العصر .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر في هذه الاَية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ . . . الاَية ، أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ قالا : الصلوات الخمس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : المصلين المؤمنين بلال وابن أمّ عبد . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب ، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاصّ ، فقال سعيد : ما أسرعهم إلى هذا المجلس قال مجاهد : فقلت : يتأوّلون ما قال الله تعالى . قال : وما قال ؟ قلت : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : وفي هذا ذا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الاَن ، إنما ذاك في الصلاة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، قال : الصلاة المكتوبة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : هي الصلاة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن إسرائيل ، عن عامر ، قال : هي الصلاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يقول : صلاة الصبح وصلاة العصر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : صلى عبد الرحمن في مسجد الرسول ، فلما صلى قام فاستند إلى حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فانثال الناس عليه ، فقال : يا أيها الناس إليكم فقيل : يرحمك الله ، إنما جاءوا يريدون هذه الاَية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ فقال : وهذا عُني بهذا إنما هو في الصلاة .
وقال آخرون : هي الصلاة ولكن القوم لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد هؤلاء الضعفاء عن مجلسه ولا تأخيرهم عن مجلسه ، وإيما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأوّل حتى يكونوا وراءهم في الصفّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وكَذِلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . . الاَية ، فهم أناس كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقراء ، فقال أناس من أشراف الناس : نؤمن لك ، وإذا صلينا فأخرّ هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا
وقال آخرون : بل معنى دعائهم كان ذكرهم الله تعالى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : أهل الذكر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : هم أهل الذكر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ قال : لا تطردهم عن الذكر .
وقال آخرون : بل كان ذلك تعلمهم القرآن وقراءته . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قوله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ قال : كان يقرئهم القرآن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل عَنَى بدعائهم ربهم عبادَتهم إياه . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشيّ قال : يعني : يعبدون ، ألا تر أنه قال : لا جَرَمَ أنّما تَدْعُونَنِي إلَيْهِ يعني : تعبدونه .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشيّ والدعاء لله يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولاً وكلاما ، وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمال التي كان عليهم فرضها وغيرها من النوافل التي ترضي والعامل له عابده بما هو عامل له وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها ، فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشيّ ، لأن الله قد سمى العبادة دعاء ، فقال تعالى : وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ . وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء ، ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشيّ فيعمّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء دون شيء . فتأويل الكلام إذن : يا محمد أنذر القرآن الذي أنزلته إليك ، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون ، فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير ، في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذّبون بالله واليوم اخر من قومك استكبارا على الله . ولا تطردهم ولا تُقْصِهم ، فتكون ممن وضعَ الإقصاء في غير موضعه فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه ، وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناءَه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته لصالح أعمالهم وأداء ما ألزمهم من فرائضه ونوافل تطوّعهم وذكرهم إيان بألسنتهم بالغداة والعشيّ ، يلتمسون بذلك القربة إلى الله والدنوّ من رضاه . ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيءٍ ، يقول : ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء ، وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء ، فتطردهم حذار محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق . وقوله : فَتَطْرُدَهُمْ : جواب لقوله : ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَليْهِم مِنْ شَيءٍ . وقوله : فَتَكُونَ مِنَ الظّالِمِينَ جواب لقوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ .
المراد ب { الذين } ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء ، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك ، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود{[4926]} ، وقيل : إنما قال هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك ، وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك ، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة ، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمُر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية ، وقال ابن عباس : إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة ، ويكونون هم موضعهم ، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية ، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك مجلساً ، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء ، واكتب لنا كتاباً ، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت هذه الآية{[4927]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد في نزول الآية ، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة ، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ، ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا أن تكون الآية مدنية ، قال خباب رضي الله عنه : ثم نزلت { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } [ الأنعام : 54 ] الآية فكنا نأتي فيقول لنا : سلام عليكم ونقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم }{[4928]} الآية فكان يقعد معنا ، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم و { يدعون ربهم بالغداة والعشي } قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشياً وقيل : بل قوله : { بالغداة والعشي } عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به ، كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلا ، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل ، هو الصلوات الخمس ، قاله بن عباس وإبراهيم ، وقيل : الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها ، وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا : إنما الآية في الصلوات في الجماعة ، وقيل : قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ، ذكره الطبري ، وقيل العبادة قاله الضحاك : وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر «بالُغدوة والَعشي » ، وروي عن أبي عبد الرحمن «بالغدو » بغير هاء ، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات والعشيات » بألف فيهما على الجمع ، وغدوة : معرفة لأنها جعلت علماً لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف ، والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة ، وحملاً على ما حكاه الخليل أنه يقال : لفيته اليوم غدوة منوناً ، ولأن فيها مع تعيين اليوم ، إمكان تقدير معنى الشياع ، ذكره أبو علي الفارسي و { وجهه } في هذا الموضع معناه جهة التزلف إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة . { وما عليك من حسابهم من شيء }{[4929]} معناه لم تكلف شيئاً غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ، ويظهرأن يكون الضمير في { حسابهم } و { عليهم } للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين ، أي ما عليك منهم آمنوا أو كفروا فتطرد هؤلاء رعياً لذلك ، والضمير في «تطردهم » عائد على الضعفة من المؤمنين ، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها ، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين ، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا ، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين ، وذكره المهدوي ، وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم كما قال الجمهور ، و { ما عليك } وقوله : { فتكون } جواب النهي في قوله : { ما عليك } { فتطردهم } جواب النهي في قوله : { ولا تطرد } و { من الظالمين } ، معناه يضعون الشيء غير مواضعه{[4930]} .