تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه ، فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا ، ويحصل لهم فيها الرزق الرغد ، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل ، وهو دخول الباب { سجدا } أي : خاضعين ذليلين ، وبالقول وهو أن يقولوا : { حِطَّةٌ } أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته .

{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بسؤالكم المغفرة ، { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } بأعمالهم ، أي : جزاء عاجل وآجلا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

تاسعاً : نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك :

ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بمنة عظيمة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها وما رعوها حق رعايتها ، وهي تخليصهم من عناء التيه ، والإِذن لهم في دخول بلدة يجدون فيها الراحة والهناء ، وإرشادهم إلى القول الذي يخلصهم مما استوجبوه من عقوبات ولكنهم خالفوه فقال تعالى :

{ وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ . . . }

القرية : هي البلدة المشتملة على مساكن ، والمراد بها بيت المقدس على الراجح .

والرغد : الواسع من العيش الهنيء ، الذي لا يتعب صاحبه ، يقال : أرغد فلان : أصاب واسعاً من العيش الهنيء .

الحطة : من حط بمعنى وضع ، وهي مصدر مراد به طلب حط الذنوب .

قال صاحب الكشاف : ( حطة ) فعله من الحط كالجلسة . وهي خبر مبتدأ محذوف ، أي مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات . . ) ؟

والمعنى : اذكروا يا بني إسرائيل ، لتتعظوا وتعتبروا - وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التية ، وأبحناهم أن يأكلوا من خيراتها أكلاً هنيئاً ذا سعة وقلنا لهم : ادخلوا من بابها راكعين شكراً لله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه - سبحانه - بأن يحط عنكم ذنوبكم ، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم ، وزدنا المحسن منهم خيراً جزاء إحسانه ، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوه أوامره ، فبدلوا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر أتوابه به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء ، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون .

قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله - : ( وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع . بن نون - عليه السلام - وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب ( باب البلد ) سجداً أي شكراً الله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال ) .

وقوله تعالى : { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها . حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أي مكان شاءوا .

وقوله تعالى : { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع ، وتوجيههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم . بأيسر الطرق وأسهل السبل ، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله لهم خاضعين مخبتين وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم ، ويمحو سيئاتهم .

وقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم ، وإغراء لهم على الامتثال والشكر ، لو كانوا يعقلون - لأن غاية ما يتمناه العقلاء غفران الذنوب .

قال الإِمام ابن جرير : يعني بقوله تعالى : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ، ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئاً فهو غافر . . والخطايا : جمع خطية - بغير همز - كالمطايا جمع مطية .

وقوله تعالى : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة لمن أسلم لله وهو محسن ، أي : من كان منكمو محسناً زيد في إحسانه ومن كان مخطئاً نغفر له خطيئاته .

وقد أمرهم - سبحانه - أن يدخلوا باب المدينة التي فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم ، لأن تغلبهم على أعدائهم ، ودخولهم الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ، نعمة من أجل النعم ، و هي تستدعي منهم أن يشكروا الله عليها بالقول والفعل لكي يزيدهم من فضله ، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر .

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب ، فعندما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا ، وإنه لخاضع لربه ، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكراً لله على نعمة الفتح ، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلى ثماني ركعات سماها بعض الفقها صلاة الفتح .

ومن هنا استحِب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات عند دخولها شكراً لله - تعالى - وقد فعل ذلك سعد بن أبي وقاص عندما دخل إيوان كسرى ، فقد ثبت أنه صلى بداخله ثماني ركعات .

/خ59

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

40

ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود : ( وإذ قلنا : ادخلوا هذه القرية ، فكلوا منها حيث شئتم رغدا ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا : حطة . نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ، بما كانوا يفسقون ) . .

وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس ، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها ، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها ، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا : ( يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) . . والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى - عليه السلام - : ( إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ! ) . . ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة ، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون ، فتح المدينة ودخلها . . ولكنهم بدلا من أن يدخلوها سجدا كما أمرهم الله ، علامة على التواضع والخشوع ، ويقولوا : حطة . . أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا . . دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها ، وقالوا قولا آخر غير الذي أمروا به . .

والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم ؛ وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا - وهي عهد موسى - ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة ، قديمه كحديثه ، ووسطه كطرفيه . . كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف !

وأيا كان هذا الحادث ، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه ، ويذكرهم بحادث يعلمونه . . فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة ؛ وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع ، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم ؛ ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته . فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }

والقرية التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها ، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فيما ذكر لنا : بيت المقدس . ذكر الرواية بذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ قال : بيت المقدس .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدِي : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ أما القرية فقرية بيت المقدس .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ يعني بيت المقدس .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته يعني ابن زيد عن قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا قال : هي أريحا ، وهي قريبة من بيت المقدس .

القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا .

يعني بذلك : فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا ، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا .

أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه ، فإنه قيل : هو باب الحطة من بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وادْخُلُوا البابَ سُجّدا أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا أنه أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطة .

وأما قوله : سُجّدا فإن ابن عباس كان يتأوّله بمعنى الركع .

حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : ركعا من باب صغير .

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : أمروا أن يدخلوا ركعا . وأصل السجود : الانحناء لمن سجد له معظما بذلك ، فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد ، ومنه قول الشاعر :

بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ *** تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجّدا للْحَوَافِرِ

يعني بقوله : سجدا : خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة :

يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤارَا

فذلك تأويل ابن عباس قوله : سُجّدا ركعا ، لأن الراكع منحن ، وإن كان الساجد أشدّ انحناء منه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطّةٌ .

وتأويل قوله : حِطّةٌ : فعلة ، من قول القائل : حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة ، بمنزلة الردة والحدّة والمدة من حددت ومددت .

واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك منهم :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أنبأنا معمر : وَقُولُوا حِطّةٌ قال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَقُولُوا حِطّةٌ : يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : قُولُوا حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : حِطّةٌ : مغفرة .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : سمعنا أنه يحطّ عنهم خطاياهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : قولوا لا إلَه إلا الله . كأنهم وجهوا تأويله : قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم ، وهو قول لا إلَه إلا الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قالا : أخبرنا حفص بن عمر ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا لا إلَه إلا الله .

وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة ، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله الاستغفار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : أمروا أن يستغفروا .

وقال آخرون نظير قول عكرمة ، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم .

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت الحطة ، فقال بعض نحويي البصرة : رفعت الحطة بمعنى «قولوا » ليكن منكم حطة لذنوبنا ، كما تقول للرجل سَمْعُك .

وقال آخرون منهم : هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة ، وفرض عليهم قيلها كذلك .

وقال بعض نحويي الكوفيين : رفعت الحطة بضمير «هذه » ، كأنه قال : وقولوا هذه حطة .

وقال آخرون منهم : هي مرفوعة بضمير معناه الخبر ، كأنه قال : قولوا ما هو حطة ، فتكون حطة حينئذٍ خبرا ل«ما » .

والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب ، أن يكون رفع حطة بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة ، وهو دخولنا الباب سجدا حطة ، فكفى من تكريره بهذا اللفظ ما دل عليه الظاهر من التنزيل ، وهو قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا كما قال جل ثناؤه : وَإِذْ قَالَتْ أُمّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبّكُمْ يعني موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ يعني بذلك : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ . . . وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا وَقُولُوا دخولنا ذلك سجدا حُطّةٌ لذنوبنا ، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفا .

وأما على تأويل قول عكرمة ، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في «حطة » ، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا : لا إلَه إلا الله ، أو أن يقولوا : نستغفر الله ، فقد قيل لهم : قولوا هذا القول ، ف«قولوا » واقع حينئذٍ على الحطة ، لأن الحطة على قول عكرمة هي قول لا إلَه إلا الله ، وإذ كانت هي قول لا إلَه إلا الله ، فالقول عليها واقع ، كما لو أمر رجل رجلاً بقول الخير ، فقال له : «قل خيرا » نصبا ، ولم يكن صوابا أن يقول له «قل خير » إلا على استكراه شديد .

وفي إجماع القراء على رفع «الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ أن تكون القراءة في «حطة » نصبا ، لأن من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا المصادر ، كما قال الشاعر :

أُبِيدوا بأيْدِي عُصْبَةٍ وَسُيُوفُهُمْ *** على أُمّهاتِ الهَامِ ضَرْبا شآمِيَا

وكقول القائل للرجل : سمعا وطاعة ، بمعنى : أسمع سمعا وأطيع طاعة ، وكما قال جل ثناؤه : مَعَاذ الله بمعنى : نعوذ بالله .

القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ .

يعني بقوله : نَغْفِرْ لَكُمْ نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليه . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس «مِغْفر » ، لأنها تغطي الرأس وتُجِنّه ، ومثله غمد السيف ، وهو ما يغمده فيواريه ولذلك قيل لزئبر الثوب «غفر » ، لتغطيته العورة ، وحَوْلِه بين الناظر والنظر إليها . ومنه قول أوس بن حجر :

فَلا أعْتِبُ ابنَ العَمّ إنْ كانَ جاهِلاً *** وأغْفِرُ عَنْهُ الجَهْلَ إنْ كانَ أَجْهَلاَ

يعني بقوله : وأغفر عنه الجهل : أستر عليه جهله بحلمي عنه .

القول في تأويل قوله تعالى : خَطاياكُمْ والخطايا جمع خطية بغير همز كما المطايا جمع مطية ، والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع الخطايا بالهمز ، لأن ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز ، فجمع على خطايا ، على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز لقيل خطائى على مثل قبيلة وقبائل ، وصحيفة وصحائف . وقد تجمع خطيئة بالتاء فيهمز فيقال خطيئات ، والخطيئة فعلية من خَطِىء الرجل يَخْطَا خِطْأً ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق . ومنه قول الشاعر :

وَإِنْ مُهاجِرَينَ تَكَنّفاهُ *** لَعَمْرُ اللّهِ قَدْ خَطِئا وَخابَا

يعني أضلا الحقّ وأثما .

القول في تأويل قوله تعالى : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ .

وتأويل ذلك ما رُوي لنا عن ابن عباس ، وهو ما :

حدثنا به القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ : من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته .

فتأويل الآية : وإذْ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات ، موسعا عليكم بغير حساب ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا : سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا ، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم ، فنسترها عليه ، ونحطّ أوزاره عنه ، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم ، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم واستهزائهم برسله ، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم ، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره ، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات ، ومعلمهم أنهم إن تعدّوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم ، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم ، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم . وقصّ علينا أنباءهم في هذه الاَيات ، فقال جل ثناؤه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا على الّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزا مِنَ السّماء الآية .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } يعني بيت المقدس ، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه .

{ فكلوا منها حيث شئتم رغدا } واسعا ، ونصبه على المصدر ، أو الحال من الواو .

{ وادخلوا الباب } أي باب القرية ، أو القبة التي كانوا يصلون إليها ، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام .

{ سجدا } متطامنين مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه . { وقولوا حطة } أي مسألتنا ، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة ، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، أو على أنه مفعول { قولوا } أي قولوا هذه الكلمة . وقيل معناه أمرنا حطة أي : أن نحط في هذه القرية ونقيم بها .

{ نغفر لكم خطاياكم } بسجودكم ودعائكم . وقرأ نافع بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول . وخطايا أصله خطايئ كخطايع ، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف ، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا ، وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء . وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر .

{ وسنزيد المحسنين } ثوابا ، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن ، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد أيهاما بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله ، فكيف إذا فعله ، وأنه تعالى يفعل لا محالة .