تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } هذا حكم العاجز عن النكاح ، أمره الله أن يستعفف ، أن يكف عن المحرم ، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه ، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه ، ويفعل أيضا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله : { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } أي : لا يقدرون نكاحا ، إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم ، أو امتناعهم من تزويجهم [ وليس لهم ]{[563]}  من قدرة على إجبارهم على ذلك ، وهذا التقدير ، أحسن من تقدير من قدر " لا يجدون مهر نكاح " وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف ، فإن في ذلك محذورين : أحدهما : الحذف في الكلام ، والأصل عدم الحذف .

والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالان ، حالة غنى بماله ، وحالة عدم ، فيخرج العبيد والإماء ومن إنكاحه على وليه ، كما ذكرنا .

{ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وعد للمستعفف أن الله سيغنيه وييسر له أمره ، وأمر له بانتظار الفرج ، لئلا يشق عليه ما هو فيه .

وقوله { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أي : من ابتغى وطلب منكم الكتابة ، وأن يشتري نفسه ، من عبيد وإماء ، فأجيبوه إلى ما طلب ، وكاتبوه ، { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ } أي : في الطالبين للكتابة { خَيْرًا } أي : قدرة على التكسب ، وصلاحا في دينه ، لأن في الكتابة تحصيل المصلحتين ، مصلحة العتق والحرية ، ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء نفسه . وربما جد واجتهد ، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما لا يحصل في رقه ، فلا يكون ضرر على السيد في كتابته ، مع حصول عظيم المنفعة للعبد ، فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمر إيجاب ، كما هو الظاهر ، أو أمر استحباب على القول الآخر ، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم ، لكونهم محتاجين لذلك ، بسبب أنهم لا مال لهم ، فقال : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه ، أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها ، وأمر الناس بمعونتهم .

ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة ، ورغب في إعطائه بقوله : { مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } أي : فكما أن المال مال الله ، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه ، فأحسنوا لعباد الله ، كما أحسن الله إليكم .

ومفهوم الآية الكريمة ، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة ، لا يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته ، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا ، بأن علم منه عكسه ، إما أنه يعلم أنه لا كسب له ، فيكون بسبب ذلك كلا على الناس ، ضائعا ، وإما أن يخاف إذا أعتق ، وصار في حرية نفسه ، أن يتمكن من الفساد ، فهذا لا يؤمر بكتابته ، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور .

ثم قال تعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ } أي : إماءكم { عَلَى الْبِغَاءِ } أي : أن تكون زانية { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال ، وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا ، يجب على سيدها منعها من ذلك ، وإنما هذا نهى لما كانوا يستعملونه في الجاهلية ، من كون السيد يجبر أمته على البغاء ، ليأخذ منها أجرة ذلك ، ولهذا قال : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيرا منكم ، وأعف عن الزنا ، وأنتم تفعلون بهن ذلك ، لأجل عرض الحياة ، متاع قليل يعرض ثم يزول .

فكسبكم النزاهة ، والنظافة ، والمروءة -بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها- أفضل من كسبكم العرض القليل ، الذي يكسبكم الرذالة والخسة .

ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة ، فقال : { وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فليتب إلى الله ، وليقلع عما صدر منه مما يغضبه ، فإذا فعل ذلك ، غفر الله ذنوبه ، ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب ، وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها .


[563]:- زيادة من ب بخط مغاير، وقد حذف بعدها حرف (من).
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

ثم أرشد - سبحانه - الذين لا يجدون وسائل النكاح ، إلى ما يعينهم على حفظ فروجهم ، فقال : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .

والاستعفاف : طلب العفة ، واختيار طريق الفضيلة التى من وسائلها ما أشار إليه - سبحانه - فى قوله : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } والمعنى : وعلى المؤمنين والمؤمنات " الذين لا يجدون نكاحا " أى : الذين لا يجدون الوسائل والأسباب التى توصلهم إلى الزواج بسبب ضيق ذات اليد ، أو ما يشبه ذلك ، عليهم أن يتحصنوا بالعفاف وأن يصونوا أنفسهم عن الفواحش ، وأن يستمروا على ذلك حتى يرزقهم الله - تعالى - من فضله رزقا ، يستعينون به على إتمام الزواج .

فهذه الجملة الحكيمة وعد كريم من الله - تعالى - للتائقين إلى الزواج ، العاجزين عن تكاليفه بأنه - سبحانه - سيرزقهم من فضله ما يعينهم على التمكن منه ، متى اعتصموا بطاعته ، وحافظوا على أداء ما أمرهم به .

قال صاحب الكشاف : " وما أحسن ما رتب هذه الأوامر : حيث أمر - أولا - بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر . ثم بالنكاح الذى يحصن به الدين ، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه " .

ثم حض - سبحانه - على إعانة الأرقاء لكى يتخلصوا من رقهم ويصيروا أحرارا . فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } .

والمراد بالكتاب هنا : المكاتبة التى تكون بين السيد وعبده ، بأن يقول السيد لعبده : إن أديت إلى كذا من المال فأنت حر لوجه الله ، فإذا قبل العبد ذلك وأدى ما طلبه منه سيده ، صار حرا .

أى : والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم - أيها الأحرار . . . . فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، أى : أمانة وقدرة على الكسب ، وأعينوهم على التحرر من رقهم بأن تعطوهم شيئا من المال الذى آتاكم الله إياه ، بفضله وإحسانه .

وهكذا نرى الإسلام يأمر أتباعه الذين رزقهم الله نعمة الحرية ، أن يعينوا مماليكهم على ما يمكنهم من الحصول على هذه النعمة .

ومن العلماء من يرى أن الأمر فى قوله - تعالى - : { فَكَاتِبُوهُمْ } وفى قوله { وَآتُوهُمْ } للوجوب ، لأنه هو الذى يتناسب مع حرص شريعة الإسلام على تحرير الأرقاء .

ثم نهى - سبحانه - عن رذيلة كانت موجودة فى المجتمع ، لكى يطهره منها ، فقال : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } .

قال الآلوسى : أخرج مسلم وأبو داود عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبى بن سلول يقال لها " مسيكة " وأخرى يقال لها " أميمة " كان يكرههما على الزنا ، فشكتا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .

وأخرج ابن مردويه عن على - رضى الله عنه - أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ، ويأخذون أجورهن ، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ، ونزلت الآية .

والفتيات جمع فتاة والمراد بهن هنا الإماء ، وعبر عنهن بقوله " فتياتكم " على سبيل التكريم لهن ، ففى الحديث الشريف : " لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى ولكن فتاى وفتاتى " .

والبغاء - بكسر الباء - زنى المرأة خاصة ، مصدر بغت المرأة تبغى بغاء إذا فجرت .

والتحصن : التصون والتعفف من الزنا .

والمعنى : ولا تكرهوا - أيها الأحرار - فتياتكم اللائى تملكوهن على الزنا إن كرهنه وأردن العفاف والطهر ، لكى تنالوا من وراء إكراههن على ذلك ، بعذ المال الذى يدفع لهن نظير افتراشهن .

وقوله - تعالى - { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ليس المقصود منه أنهن إن لم يردن التحصن يكرهن على ذلك ، وإنما المراد منه بيان الواقع الذى نزلت من أجله الآية ، وهو إكرامهم لإمائهم على الزنا مع نفورهن منه . ولأن الإكراه لا يتصور عند رضاهن بالزنا واختيارهن له ، وإنما يتصور عند كراهنتهن له ، وعدم رضاهن عنه ، ولأن فى هذا التعبير تعبيرا لهم ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : كيف يقع منكم إكراههن على البغاء وهن إماء يردن العفة ويأبين الفاحشة ؟ ألم يكن الأولى بكم والأليق بكرامتكم أن تعينوهن على العفاف والطهر ، بدل أن تكرهوهن على ارتكاب الفاحشة من أجل عرض من أعراض الحياة الدنيا ؟

وقوله - تعالى - : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته - بعباده .

أى : ومن يكره إماءه على البغاء فإن الله - تعالى - بفضله وكرمه من بعد إكراهكم لهن ، غفور رحيم لهن ، أما أنتم يا من أكرهتموهن على الزنا فالله وحده هو الذى يتولى حسابكم ، وسيجازيكم بما تستحقون من عقاب .

فمغفرة الله - تعالى - ورحمته إنما هى للمكرهات على الزنا ، لا للمكرهين لهن على ذلك .

قال بعض العلماء : قوله - تعالى - : { فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قيل : غفور لهن : وقيل غفور لهم . وقيل : غفور لهن ولهم .

والأظهر : أن المعنى لهن ، لأن المكره لا يؤاخذ بما يكره عليه ، بل يغفره الله له ، لعذره بالإكراه . فالموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره - بكسر الراء - لأنه غير معذور بفعله القبيح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

27

وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ( والله واسع عليم ) . . لا يضيق على من يبتغي العفة ، وهو يعلم نيته وصلاحه .

وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال . والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان .

ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي ، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله ، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته :

( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا ) . .

وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ، وأجر عمله له ، ليوفي منه ما كاتب عليه ؛ ويجب له نصيب في الزكاة : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) . ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش ، ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال : إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ؛ فلم يكن كلا على الناس ؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها ، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ؛ بما هو أشد وأنكى .

وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة ، احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ؛ وخص هذه الحالة بنص خاص :

( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .

فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة ، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه .

قال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول ، رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه ، والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ؛ فذكره أبو بكر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي : من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا .

هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية ، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .

ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن ، يحمي البيوت الشريفة ؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة ، إن لم تجد هذا الكلأ المباح !

إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء ، وإلى إقامة مقاذر إنسانية ، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس ، فيلقي فيها بالفضلات ، تحت سمع الجماعة وبصرها !

إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج ، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة ، في صور آدمية ذليلة .

وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف ، الذي يصل الأرض بالسماء ، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : وليَسْتَعْفِف الّذِينَ لا يَجِدُون ما ينكحون به النساء عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش ، حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ سعة فَضْلِهِ ، ويوسّع عليهم من رزقه .

وقوله : وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ يقول جلّ ثناؤه : والذين يلتمسون المكاتبة منكم من مماليككم ، فكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا .

واختلف أهل العلم في وجه مكاتبة الرجل عبده الذي قد علم فيه خيرا ، وهل قوله : فَكاتِبُوهُم إنْ عَلِمْتُمْ فيهِمْ خَيْرا على وجه الفرض أم هو على وجه الندب ؟ فقال بعضهم : فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيرا إذا سأله العبد ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : أواجب عليّ إذا علمت مالاً أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلاّ واجبا . وقالها عمرو بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أَتأْثِرُه عن أحد ؟ قال : لا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن أنس بن مالك ، أن سيرين ، أراد أن يكاتبه فتلكّأ عليه ، فقال له عمر : لتكاتبنه

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا ينبغي لرجل إذا كان عنده المملوك الصالح الذي له المال يريد إن يكاتب ألاّ يكاتبه .

وقال آخرون : ذلك غير واجب على السيد ، وإنما قوله : فَكاتِبُوهُمْ : نَدْب من الله سادَة العبيد إلى كتابة من علم فيه منهم خير ، لا إيجاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك بن أنس : الأمر عندنا أن ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع بأحد من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده . وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سُئل عن ذلك فقيل له : إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا يتلو هاتين الاَيتين : فإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ قال مالك : فإنما ذلك أمر أذِن الله فيه للناس ، وليس بواجب على الناس ولا يلزم أحدا . وقال الثوريّ : إذا أراد العبد من سيده أن يكاتبه ، فإن شاء السيد أن يكاتبه كاتبه ، ولا يُجْبر السيد على ذلك .

حدثني بذلك عليّ عن زيد عنه وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا قال : ليس بواجب عليه أن يكاتبه ، إنما هذا أمر أذن الله فيه ودليل .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : واجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا وسأله العبد الكتابة وذلك أن ظاهر قوله : فَكاتِبُوهُمْ ظاهر أمر ، وأمر الله فرضٌ الانتهاء إليه ، ما لم يكن دليلٌ من كتاب أو سنة على أنه ندب ، لما قد بيّنا من العلة في كتابنا المسمى «البيان عن أصول الأحكام » .

وأما الخير الذي أمر الله تعالى ذكره عباده بكتابة عبيدهم إذا علموه فيهم ، فهو القُدْرة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كره أن يكاتِب مملوكه إذا لم تكن له حرفة ، قال : تطعمني أوساخ الناس .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَكاتِبوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا يقول : إن علمتم لهم حيلة ، ولا تلقوا مُؤْنتهم على المسلمين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : سئل مالك بن أنس ، عن قوله : فكاتبوهم إن علمتم فيه خيرا فقال : إنه ليقال : الخير القوة على الأداء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه ، قول الله : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا قال : الخير : القوة على ذلك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن علمتم فيهم صدقا ووفاء وأداء . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا قال : صدقا ووفاء وأداء وأمانة .

قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وطاوس ، أنهما قالا في قوله : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا قالا : مالاً وأمانة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : فكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا قال : أداء وأمانة .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، قال : كان إبراهيم يقول في هذه الآية : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا قال : صدقا ووفاء ، أو أحدهما .

حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، في قوله : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : أداء ومالاً .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : قال عمرو بن دينار : أحسبه كل ذلك المال والصلاح .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا سفيان : إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْرا يعني : صدقا ووفاء وأمانة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا ، قال : إن علمت فيه خيرا لنفسك ، يؤدّي إليك ويصدّقك ما حدثك ، فكاتبه .

وقال آخرون بل معنى ذلك : إن علمتم لهم مالاً .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا يقول : إن علمتم لهم مالاً .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : مالاً .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : مالاً .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : لهم مالاً ، فكاتبوهم .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : إن علمتم لهم مالاً ، كائنة أخلاقهم وأديانهم ما كانت .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن زَاذان ، عن عطاء بن أبي رَباح : فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : مالاً .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، قال : إن علمتم عندهم مالاً .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني محمد بن عمرو اليافعيّ ، عن ابن جُرَيج ، أن عطاء بن أبي رَباح ، كان يقول : ما نراه إلاّ المال ، يعني قوله : إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرا قال : ثم تلا : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا .

وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال : معناه : فكاتبوهم إن علمتم فيهم قوّة على الاحتراف والاكتساب ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها وصدق لهجة . وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجةُ إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد فأما المال وإن كان من الخير ، فإنه لا يكون في العبد وإنما يكون عنده أو له لا فيه ، والله إنما أوجب علينا مكاتبة العبد إذا علمنا فيه خيرا لا إذا علمنا عنده أو له ، فلذلك لم نقل : إن الخير في هذا الموضع معنيّ به المال .

وقوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ يقول تعالى ذكره : وأعطُوهم من مال الله الذي أعطاكم .

ثم اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطائه من مال الله الذي أعطاه مَنْ هو ؟ وفي المال أيّ الأموال هو ؟ فقال بعضهم : الذي أمر الله بإعطاء المكاتب من مال الله هو مولَى العبد المكاتَب ، ومال الله الذي أُمر بإعطائه منه هو مال الكِتابة ، والقدر الذي أمر أن يعطيه منه الربع .

وقال آخرون : بل ما شاء من ذلك المولى . ذكر من قال ذلك :

حدثني عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمِيّ ، عن عليّ في قول الله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : ربع المكاتبة .

حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، عن عليّ ، في قوله الله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : ربع الكتابة يحطّها عنه .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُليَة ، عن ليث ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قول الله : وآتوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : الربع من أوّل نجومه .

قال : أخبرنا ابن عُلَية ، قال : عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، عن عليّ ، في قوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : الربع من مكاتبته .

حدثنا محمد بن إسماعيل الأَحمسيّ ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عبد الملك بن أعين ، قال : كاتب أبو عبد الرحمن غلاما في أربعة آلاف درهم ، ثم وضع له الربع ، ثم قال : لولا أني رأيت عليّا رضوان الله عليه كاتب غلاما له ثم وضع له الربع ، ما وضعت لك شيئا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي : أنه كاتب غلاما له على ألف ومِئتين ، فترك الربع وأشهدني ، فقال لي : كان صديقك يفعل هذا ، يعني عليّا رضوان الله عليه ، يتأوّل : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك ، قال : ثني فضالة بن أبي أمية ، عن أبيه ، قال : كاتبني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاستقرض لي من حَفْصة مِئَتَي درهم . قلت : ألا تجعلها في مكاتبتي ؟ قال : إني لا أدري أدرك ذاك أم لا .

قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، بلغني أنه كاتبه على مِئَة أوقية : قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك ، قال : ذكرت ذلك لعكرِمة ، فقال : هو قول الله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قول الله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ يقول : ضعوا عنهم من مكاتبتهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ يقول : ضعوا عنهم مما قاطعتموهم عليه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، في قوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : مما أخرج الله لكم منهم .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : آتِهِم مما في يديك .

حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، عن أسباط ، عن السديّ ، عن أبيه ، قال : كاتبتْني زينب بنت قيس بن مَخْرمة من بني المطلب بن عبد مناف على عشرة آلاف ، فتركت لي ألفا وكانت زينب قد صلّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا ابن مسعود الجريريّ ، عن أبي نَضْرة ، عن أبي سعيد ، مولى أبي أَسِيد ، قال : كاتبني أبو أَسِيد ، على ثنتي عشرة مئة ، فجئته بها ، فأخذ منها ألفا وردّ عليّ مِئتين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أوّل نجومه مخافة أن يعجِز فترجع إليه صدقته ، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مَخْرَمة ، عن أبيه ، عن نافع ، قال : كاتب عبد الله بن عمر غلاما له يقال له شرف على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف . ولم يذكر نافع أنه أعطاه شيئا غير الذي وضع له .

قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقول : إن ذلك أن يكاتب الرجل غلامه ، ثم يضع عنه من آخر كتابته شيئا مسمّى . قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت ، وعلى ذلك أهل العلم وعملُ الناس عندنا .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا سفيان : أحبّ إليّ أن يعطيه الربع أو أقلّ منه شيئا ، وليس بواجب وأن يفعل ذلك حسن .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، عن عليّ رضي الله عنه : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : هو ربع المكاتبة .

وقال آخرون : بل ذلك حضّ من الله أهل الأموال على أن يعطوهم سهمهم الذي جعله لهم من الصدقات المفروضة لهم في أموالهم بقوله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهمْ وفِي الرّقابِ قال : فالرّقاب التي جعل فيها أحد سُهْمان الصدقة الثمانية هم المكاتَبون ، قال : وإياه عنى جلّ ثناؤه بقوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ : أي سَهمْهم من الصدقة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثني يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن ابن زيد ، عن أبيه ، قوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : يحثّ الله عليه ، يُعْطَوْنه .

حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن عُلَية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : حثّ الناسَ عليه مولاه وغيره .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : يعطِي مكاتَبَه وغيره ، حَثّ الناس عليه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هُشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه قال في قوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : أمر مولاه والناس جميعا أن يعينوه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : أمر المسلمين أن يُعْطُوهم مما آتاهم الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : ذلك في الزكاة على الوُلاة يعطونهم من الزكاة ، يقول الله : وفِي الرّقابِ .

قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ قال : الفَيْء والصدقات . وقرأ قول الله : إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقُراءِ وَالمَساكِينِ ، وقرأ حتى بلغ : وفِي الرّقابِ فأمر الله أن يوفوها منه ، فليس ذلك من الكتابة . قال : وكان أبي يقول : ماله وللكتابة هو من مال الله الذي فَرَض له فيه نصيبا .

وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي القول الثاني ، وهو قول من قال : عَنَى به إيتاءَهم سهمهم من الصدقة المفروضة .

وإنما قلنا ذلك أولى القولين لأن قوله : وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ أمر من الله تعالى ذكره بإيتاء المكاتَبِين من ماله الذي آتى أهل الأموال ، وأمر الله فرض على عباده الانتهاءُ إليه ، ما لم يخبرهم أن مراده الندْب ، لما قد بيّنا في غير موضع من كتابنا . فإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن أخبرنا في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه نَدْب ، ففرض واجب . وإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة قد قامت أن لا حقّ لأحد في مال أحد غيره من المسلمين إلاّ ما أوجبه الله لأهل سُهمان الصدقة في أموال الأغنياء منهم ، وكانت الكتابة التي يقتضيها سيد المكاتَب من مكاتَبِه مالاً من مال سيد المكاتَب فيفاد أن الحقّ الذي أوجب الله له على المؤمنين أن يؤتوه من أموالهم هو ما فُرِض على الأغنياء في أموالهم له من الصدقة المفروضة ، إذ كان لا حقّ في أموالهم لأحد سواها .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : زَوّجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ولا تُكْرهوا إماءَكم على البغاء ، وهو الزنا إنْ أرَدْنَ تَحَصّنا يقول : إن أردن تعففا عن الزنا . لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا يقول : لتلتمسوا بإكراهكم إياهنّ على الزنا عَرَض الحياة ، وذلك ما تعرِض لهم إليه الحاجة من رِياشها وزينتها وأموالها . وَمَنْ يُكْرِهْهُنّ يقول : ومن يُكْره فَتياته على البغاء ، فإن الله من بعد إكراهه إياهن على ذلك ، لهم غَفُورٌ رَحِيمٌ ، ووِزْر ما كان من ذلك عليهم دونهن .

وذُكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سَلَول حين أكره أمته مُسَيكة على الزنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن الصباح ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : جاءت مُسَيْكة لبعض الأنصار فقالت : إن سيدي يكرهني على الزنا فنزلت في ذلك : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على البِغاءِ .

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سَلول يقال لها مُسَيْكة ، فآجرها أو أكرهها الطبريّ شكّ فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فشكَتْ ذلك إليه ، فأنزل الله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصّنا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنّ فإنّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني بهنّ .

حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عَبْثَر ، قال : حدثنا حصين ، عن الشعبيّ ، في قوله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ قال : رجل كانت له جارية تفجر ، فلما أسلمت نزلت هذه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، عن جابر ، قال : جاءت جارية لبعض الأنصار ، فقالت : إن سيدي أكرهني على البغاء فأنزل الله في ذلك : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ .

قال ابن جُرَيج : وأخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرِمة ، قال : أمة لعبد الله بن أُبيّ ، أمرها فزنت ، فجاءت ببُرْد ، فقال لها : ارجعي فازني قالت : والله لا أفعل ، إن يك هذا خيرا فقد استكثرت منه ، وإن يك شرّا فقد آن لي أن أدعه . قال ابن جُرَيج ، وقال مجاهد نحو ذلك ، وزاد قال : البِغاء : الزنا . وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال : للمكرَهات على الزنا ، وفيها نزلت هذه الآية .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ : أن رجلاً من قريش أُسِر يوم بدر . وكان عبد الله بن أُبيّ أسره ، وكان لعبد الله جارية يقال لها مُعاذة ، فكان القرشيّ الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة ، فكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان ابن أُبيّ يُكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشيّ فيطلب فِداء ولده ، فقال الله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصّنا قال الزهريّ : وَمَنْ يُكْرِهْهُنّ فإنّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إكْراهِهِنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : غفور لهنّ ما أُكْرِهن عليه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبير ، أنه كان يقرأ : «فإنّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنّ لَهُنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلى البَغاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصّنا يقول : ولا تكرهوا إماءكم على الزنا ، فإن فعلتم فإن الله سبحانه لهنّ غفور رحيم وإثمُهنّ على من أكرههنّ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ . . . إلى آخر الآية ، قال : كانوا في الجاهلية يُكْرهون إماءكم على الزنا ، يأخذون أجورهنّ ، فقال الله : لا تكرهوهنّ على الزنا من أجل المَنالة في الدنيا ، ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم لهن يعني إذا أكرهن .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ على الزنا . قال : عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُولَ أمر أمة له بالزنا ، فجاءته بدينار أو بُبرد شكّ أبو عاصم فأعطته ، فقال : ارجعي فازني بآخر فقالت : والله ما أنا براجعة ، فالله غفور رحيم للمكْرَهات على الزنا ففي هذا أنزلت هذه الآية .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلاّ أنه قال في حديثه : أمر أمة له بالزنا ، فزنت ، فجاءته ببرد فأعطته . فلم يشُكّ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ يقول : على الزنا . فإنّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : غفور لهنّ ، للمكرهات على الزنا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ يُكْرِهْهُنّ فإنّ اللّهَ مِنُ بَعْدِ إكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ قال : غفور رحيم لهنّ حين أكرهن وقُسِرْن على ذلك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كانوا يأمرون ولائدهم يُباغِين ، يفعلن ذلك ، فيصبن ، فيأتينهم بكسبهنّ ، فكانت لعبد الله بن أُبيّ ابن سَلُولَ جارية ، فكانت تُباغِي ، فكرهت وحلفت أن لا تفعله ، فأكرهها أهلها ، فانطلقت فباغت ببرد أخضر ، فأتتهم به ، فأنزل الله تبارك وتعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغاءِ . . . الآية .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: "وليَسْتَعْفِف الّذِينَ لا يَجِدُون "ما ينكحون به النساء عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش، "حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ "سعة "فَضْلِهِ"، ويوسّع عليهم من رزقه.

وقوله: "وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ"، يقول جلّ ثناؤه: والذين يلتمسون المكاتبة منكم من مماليككم، "فكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا".

واختلف أهل العلم في وجه مكاتبة الرجل عبده الذي قد علم فيه خيرا، وهل قوله: "فَكاتِبُوهُم إنْ عَلِمْتُمْ فيهِمْ خَيْرا" على وجه الفرض أم هو على وجه الندب؟ فقال بعضهم: فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيرا إذا سأله العبد ذلك...

وقال آخرون: ذلك غير واجب على السيد، وإنما قوله: "فَكاتِبُوهُمْ": نَدْب من الله سادَة العبيد إلى كتابة من علم فيه منهم خير، لا إيجاب...

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: واجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا وسأله العبد الكتابة، وذلك أن ظاهر قوله: "فَكاتِبُوهُمْ" ظاهر أمر، وأمر الله فرضٌ الانتهاء إليه، ما لم يكن دليلٌ من كتاب أو سنة على أنه ندب، لما قد بيّنا من العلة في كتابنا المسمى «البيان عن أصول الأحكام».

وأما الخير الذي أمر الله تعالى ذكره عباده بكتابة عبيدهم إذا علموه فيهم، فهو القُدْرة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن علمتم فيهم صدقا ووفاء وأداء... وقال آخرون بل معنى ذلك: إن علمتم لهم مالاً...

وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال: معناه: فكاتبوهم إن علمتم فيهم قوّة على الاحتراف والاكتساب ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها وصدق لهجة. وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجةُ إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد فأما المال وإن كان من الخير، فإنه لا يكون في العبد وإنما يكون عنده أو له لا فيه، والله إنما أوجب علينا مكاتبة العبد إذا علمنا فيه خيرا لا إذا علمنا عنده أو له، فلذلك لم نقل: إن الخير في هذا الموضع معنيّ به المال.

وقوله: "وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ" يقول تعالى ذكره: وأعطُوهم من مال الله الذي أعطاكم.

ثم اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطائه من مال الله الذي أعطاه مَنْ هو؟ وفي المال أيّ الأموال هو؟

فقال بعضهم: الذي أمر الله بإعطاء المكاتب من مال الله هو مولَى العبد المكاتَب، ومال الله الذي أُمر بإعطائه منه هو مال الكِتابة، والقدر الذي أمر أن يعطيه منه الربع.

وقال آخرون: بل ما شاء من ذلك المولى... وقال آخرون: بل ذلك حضّ من الله أهل الأموال على أن يعطوهم سهمهم الذي جعله لهم من الصدقات المفروضة لهم في أموالهم بقوله: "إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهمْ وفِي الرّقابِ" قال: فالرّقاب التي جعل فيها أحد سُهْمان الصدقة الثمانية هم المكاتَبون، قال: وإياه عنى جلّ ثناؤه بقوله: "وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ": أي سَهمْهم من الصدقة...

وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي القول الثاني، وهو قول من قال: عَنَى به إيتاءَهم سهمهم من الصدقة المفروضة.

وإنما قلنا ذلك أولى القولين لأن قوله: "وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ" أمر من الله تعالى ذكره بإيتاء المكاتَبِين من ماله الذي آتى أهل الأموال، وأمر الله فرض على عباده الانتهاءُ إليه، ما لم يخبرهم أن مراده الندْب، لما قد بيّنا في غير موضع من كتابنا. فإذ كان ذلك كذلك، ولم يكن أخبرنا في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه نَدْب، ففرض واجب. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الحجة قد قامت أن لا حقّ لأحد في مال أحد غيره من المسلمين إلاّ ما أوجبه الله لأهل سُهمان الصدقة في أموال الأغنياء منهم، وكانت الكتابة التي يقتضيها سيد المكاتَب من مكاتَبِه مالاً من مال سيد المكاتَب فيفاد أن الحقّ الذي أوجب الله له على المؤمنين أن يؤتوه من أموالهم هو ما فُرِض على الأغنياء في أموالهم له من الصدقة المفروضة، إذ كان لا حقّ في أموالهم لأحد سواها.

القول في تأويل قوله تعالى: "وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ}.

يقول تعالى ذكره: زَوّجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ولا تُكْرهوا إماءَكم على البغاء، وهو الزنا إنْ أرَدْنَ تَحَصّنا يقول: إن أردن تعففا عن الزنا.

"لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا" يقول: لتلتمسوا بإكراهكم إياهنّ على الزنا عَرَض الحياة، وذلك ما تعرِض لهم إليه الحاجة من رِياشها وزينتها وأموالها. "وَمَنْ يُكْرِهْهُنّ" يقول: ومن يُكْره فَتياته على البغاء، فإن الله من بعد إكراهه إياهن على ذلك، لهم "غَفُورٌ رَحِيمٌ"، ووِزْر ما كان من ذلك عليهم دونهن.

وذُكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سَلَول حين أكره أمته مُسَيكة على الزنا...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

والعفة في العرف الامتناع عن الزنى وإن جاز أن يستعمل في الامتناع من كل فاحشة... {الذين لا يجدون نكاحا} يعني لا يقدرون عليه مع الحاجة إليه لإعسار إما بصداق أو نفقة...

{حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}...

{وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً} أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدى في العتق، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها...

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

واختلف الناس في الخير؛ فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: الدين. فنظرنا في ذلك فوجدنا موضوع كلام العرب الذي به نزل القرآن، قال تعالى: {بلسان عربي مبين} أنه تعالى لو أراد المال لقال: أن علمتم لهم خيرا، أو عندهم خيرا، أو معهم خيرا؛ لأن بهذه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب. ولا يقال أصلا: في فلان مال، فلما قال تعالى: {إن علمتم فيهم خيرا} علمنا أنه تعالى لم يرد المال. فصح أنه الدين. اه

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

{وآتوهم من مال الله}، لم يرد به سيدي المكاتبين؛ وإنما هو خطاب عام للناس، مقصود به إلى من أتاه الله مالا تجب فيه زكاة. فأعلم الله عباده أن وضع الزكاة في العبد المكاتب جائز وإن كان لا يؤمن عليه العجز، وخصه من بين سائر العبيد بذلك، فجعل للمكاتبين حقا في الزكوات بقوله: {وفي الرقاب} قالوا: وهذا هو الوجه الذي يجب الاعتماد عليه في الإيتاء المذكور في الآية... ومعروف في نظام القرآن أن يسبق بضمير على غيره كما قال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن}، والمأمور بالعضل: الأولياء لا المطلقون، ومثله قوله: {أولئك مبرءون مما يقولون}، والمبرؤون غير القائلين، وهذا كثير في القرآن.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

مَنْ تَقاصر وسعهُ عن الإنفاق على العيال فليصبر على مقاساة التحمل في الحال، فَعَنْ قريبٍ تجيبه نَفْسُه إلى سقوط الأرب، أو الحق -سبحانه- يجود عليه بتسهيل السبب من حيث لا يَحْتَسِب، ولا تخلو حالُ المتعفِّفِ عن هذه الوجوه...

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خْيرَاً وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الذي ءَاتاكُمْ}. أي إن سَمَحَتْ نفوسكم بإزالة الرِّقِّ عن المماليك -الذين هم في الدين إخوانكم- من غير عِوَضِ تلاحظون منهم فلن تخسروا على الله في صفقتكم. وإن أبيتم إلا العوض ودعوا إلى الكتابة، وعلمتم بغالب ظنكم صحة الوفاء بمال الكتابة من قِبَلِهم فكاتبوهم ثم تعاونوا على تحصيل المقصود بكل وجهٍ؛ من قدْرٍ يحط من مال الكتابة، وإعانةٍ لهم من فروض الزكاة، وإمهالٍ بِقَدر ما يحتمل المكاتب ليكون ترفيهاً له.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَلْيَسْتَعْفِفِ} وليجتهد في العفة وظلف النفس، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه {لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال {حتى يُغْنِيَهُمُ الله} ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً لهم في استعفافهم، وربطاً على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء، وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد [من] مواقعة المعصية وهو غضّ البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«استعف» وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفاً...وقالت جماعة من المفسرين «النكاح» في هذه الآية اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس...

{وآتوهم} للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

...

.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُخْتَلَفًا فِيهِ مَا بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ فَالِاسْتِعْفَافُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ إمْسَاكٌ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ؛ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاجِبٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا مُحَرَّمٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مِلْكُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَرَ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِآيَةٍ فِي آيَةٍ، وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ لِنَسْخِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} يَعْنِي يَقْدِرُونَ، وَعَبَّرَ عَنْ الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هذا حكم العاجز عن النكاح، أمره الله أن يستعفف، أن يكف عن المحرم، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه، ويفعل أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

{الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: لا يقدرون نكاحا، إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم، أو امتناعهم من تزويجهم [وليس لهم] من قدرة على إجبارهم على ذلك، وهذا التقدير، أحسن من تقدير من قدر "لا يجدون مهر نكاح"...

{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ} أي: في الطالبين للكتابة {خَيْرًا} أي: قدرة على التكسب، وصلاحا في دينه، لأن في الكتابة تحصيل المصلحتين، مصلحة العتق والحرية، ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء نفسه. وربما جد واجتهد، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما لا يحصل في رقه، فلا يكون ضرر على السيد في كتابته، مع حصول عظيم المنفعة للعبد، فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمر إيجاب، كما هو الظاهر، أو أمر استحباب على القول الآخر، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم، لكونهم محتاجين لذلك، بسبب أنهم لا مال لهم، فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه، أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها، وأمر الناس بمعونتهم...

{مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أي: فكما أن المال مال الله، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه، فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن الله إليكم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله).. (والله واسع عليم).. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.

وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال. والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان.

ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية. وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:

(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم. إن علمتم فيهم خيرا)..

وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم). ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا. والخير هو الإسلام أولا. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى.

وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها -وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم- فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:

(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. إن أردن تحصنا. لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم).

فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث. ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.

قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة. وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي [صلى الله عليه وسلم] فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا! فأنزل الله فيهم هذا.

هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء -وهن يردن العفة- ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي. ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف.

ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن، يحمي البيوت الشريفة؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج. أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة، إن لم تجد هذا الكلأ المباح!

إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج. فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة. وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج. فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا.. وبذلك لا تحتاج إلى البغاء، وإلى إقامة مقاذر إنسانية، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس، فيلقي فيها بالفضلات، تحت سمع الجماعة وبصرها!

إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن. ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة، في صور آدمية ذليلة.

وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{إن علمتم فيهم خيراً} إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكناً من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبداً كما كان...

والظاهر أن الخطاب في قوله: {وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم} موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه...

وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ (الإيتاء) وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطاً لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء...وقال بعض المفسرين: الخطاب في قوله: {وءاتوهم} للمسلمين. أمرهم الله بإعانة المكاتبين. والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء، وحمله الشافعي على الوجوب...

وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله. وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.