تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

ثم قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }

يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق ، بغير برهان ولا شبهة ، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية ، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة ، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته ، فهو على نقيض قولهم أدل ، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى ، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم ، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح ، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى ، فإن صح ادعاء البنوة والإلهية في المسيح ، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى ، فلهذا قال تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

ثم بين - سبحانه - أن خلق عيسى من غير أب ليس مستبعدا على الله - تعالى - فقد خلق آدم كذلك فقال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .

والمثل هنا : بمعنى الصفة والحال والعجيبة الشأن ، ومحل التمثيل كون كليهما قد خلق بدون أب ، والشىء قد يشبه بالشىء متى اجتمعا ولو في وصف واحد .

والمعنى : إن شأن عيسى وحاله الغريبة { عِندَ الله } أى فى تقديره وحكمه { كَمَثَلِ ءَادَمَ } أى كصفته وحاله العجيبة في أن كليهما قد خلقه الله - تعالى - من غير أب ، ويزيد آدم على عيسى أنه خلق بدون أم - أيضا - .

فالآية الكريمة ترد رداً منطقيا حكيما يهدم زعم كل من قال بألوهية المسيح أو اعتبره ابن الله .

وكأن الآية الكريمة تقول لمن ادعى ألوهية عيسى لأنه خلق من غير أب : أنه إذا كان وجود عيسى بدون أب يسوغ لكم أن تجعلوه إلها أو ابن إله فأولى بذلك ثم أولى آدم لأنه خلق من غير أب ولا أم . وما دام لم يدع أحد من الناس ألوهية آدم لهذا السبب فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى لانهيار الأساس الذى قام عليه وهو خلقه من غير أب .

ولأنه إذا كان الله - تعالى - قادرا على أن يخلق إنساناً بدون أب ولا أم . فأولى ثم أولى أن يكون قادراً على خلق إنسان من غير أب فقط .

ومن أم هى مريم التى تولاها - سبحانه - برعايته وصيانته لها من كل سوء وجعلها وعاء لهذا النبى الكريم عيسى - عليه السلام - .

قال صاحب الكشاف : وقوله { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم - أى للأمر الذى لأجله كان ذلك التشبيه - أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم وكذلك حال عيسى . فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ووجد آدم ن غير أب وأم ؟ قلت : هو مثيله فى أحد الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به لأنه وجد وجوداً خارجا عن العادة المستمرة وهما فى ذلك نظيران . ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ، ليكون أقطع للخصم ، وأحسن لمادة شبهته إذا نظر فيم هو أغرب مما استغربه " .

وقوله { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } تصوير لخلق الله - تعالى - آدم من تراب أى أراد - سبحانه - أن يوجد آدم فصوره من طين ثم قال له حين صوره كن بشرا فصار بشرا كاملا روحا وجسدا كما أمر - سبحانه - .

فالجملة الكريمة تصور نفاذ قدرة الله ، تصويرا بديعا يدل على أنه - سبحانه - لا يعجزه شيء في هذا الكون .

وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في " يكون " دون الماضى بأن يقول " فكان " لأن العبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت ، ومن وجهة أخرى فإن صيغة المضارع فى هذا المقام تنبىء عما كان ، وتومىء إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله - تعالى - المستمر فى المستقبل كما كان فى الماضى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

33

ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام ، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشىء كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام :

( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم . خلقه من تراب . ثم قال له : كن فيكون ) . .

إن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر . ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر ؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى - بسبب مولده - ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب . . أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب . وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني . . دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى . ودون أن يقولوا عن آدم : إن له طبيعة لاهوتية . على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب : عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك ! وإن هي إلا الكلمة : ( كن )تنشىء ما تراد له النشأة( فيكون ) !

وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة . . حقيقة عيسى ، وحقيقة آدم ، وحقيقة الخلق كله . وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح ، حتى ليعجب الإنسان : كيف ثار الجدل حول هذا الحادث ، وهو جار وفق السنة الكبرى . سنة الخلق والنشأة جميعا !

وهذه هي طريقة " الذكر الحكيم " في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط ، في اعقد القضايا ، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور !