تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لما جرى يوم " أحد " ما جرى ، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب ، رفع الله بها درجته ، فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم ، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل ، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم ، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك ، فعل ، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم ، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم ، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد ، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم ، وأن هذا شرك في العبادة ، نقص في العقل ، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه ، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده ، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة ، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم ، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية ، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته ، حيث وضع العقوبة موضعها ، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه ،

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

وقوله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } أى : ليس لك من أمر الناس شىء ، وإنما أمرهم إلى الله وحده ، أما أنت فوظيفتك التبليغ والإرشاد ، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .

وقوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . أى مما هم فيه من الكفر فيهديهم إلى الإسلام بعد كفرهم وظلالهم .

وقوله { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أى أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة على كفرهم واجتراحهم للسيئات ، فإنهم بذلك يكونون مستحقين للعقاب ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فهم الذين صموا آذانهم عن الحق واستحبوا العمى على الهدى .

وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطفات ويكون تقدير الآيتين هكذا :

ولقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل والأسر ، ا يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة بسبب ظلمهم ، وليس لك من أمرهم شىء ، إنما أنت رسول ن عند الله - تعالى - مأمور بإنذارهم وجهادهم .

وقد رجح هذا الوجه صاحب الكشاف فقال : وقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } اعتراض . والمعنى أن الله مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، وليس لك من أمرهم شىء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . .

وقيل إن { أَوْ } بمعنى " إلا أن " كقولك : لألزمنك أو تقضينى حقى ، على معنى ليس لك من أمرهم شىء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم .

فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد بينتا أحوال الكافرين فى غزوة بدر أكمل بيان ، لأن فريقاً منهم قد قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتوا وذلوا ، وفريقا من الله عليهم بالإسلام فأسلموا ، وفريقاً عذبوا بالموت على الكفر أو عذبوا فى الدنيا بالذل والصغار .

و " أو " التى جىء بها بين هذه الجمل للتقسيم .

هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } روايات منها ما أخرجه مسلم عن أنس " أن النبى صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج فى وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبهم وهو يدعوهم إلى ربهم - عز وجل - فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } " .

ومنها ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرا أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده : " اللهم ربنا ولك الحمد . اللهم أنج الوليد بن الوليد . وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " يجهر بذلك . وكان يقول فى بعض صلاته فى صلاة الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من العرب " حتى أنزل الله - تعالى - : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ }

يعني بذلك تعالى ذكره : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، فإنهم ظالمون ، ليس لك من الأمر شيء ، فقوله : { أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } منصوب عطفا على قوله : { أوْ يَكْبِتَهُمْ } . وقد يحتمل أن يكون تأويله : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم ، فيكون نصب «يتوب » بمعنى «أو » التي هي في معنى «حتى » . والقول الأول أولى بالصواب ، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك . وتأويل قوله : { لَيْسَ لكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } : ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري ، وتنتهي فيهم إلى طاعتي ، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري أقضي فيهم ، وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني ، وخالف أمري ، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة ، وإما في آجل الاَخرة بما أعددت لأهل الكفر بي . كما :

حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } : أي ليس لك من الحكم في شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ، أو أتوب عليهم برحمتي ، فإن شئت فعلت . أو أعذبهم بذنوبهم ، { فإنّهُمْ ظَالِمُونَ } أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي .

وذكر أن الله عزّ وجلّ إنما أنزل هذه الاَية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لما أصابه بأحد ما أصابه من المشركين ، قال كالاَيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلى الحقّ : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بنبّيهم » . ذكر الرواية بذلك .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا حميد ، قال : قال أنس : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، وشجّ ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا نَبِيّهُمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ ؟ » فأنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شجّ في جبهته ، وكسرت رباعيته : «لا يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ » فأوحى الله إليه : { لَيْس لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثني يعقوب عن ابن علية ، قال : حدثنا ابن عون ، عن الحسن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحد : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أدْمَوْا وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ عَزّ وَجَلّ » فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وقد جرح نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وأصيب بعض رباعيته ، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ » فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن مطر ، عن قتادة ، قال : أصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمرّ به سالم مولى أبي حذيفة ، فأجلسه ، ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : «كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ » فأنزل الله تبارك وتعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } . . . الاَية ، قال : قال الربيع بن أنس ، أنزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وقد شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وأصيبت رباعيته ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم ، فقال : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أدْمَوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إلى الشّيْطانِ وَيَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى وَيَدْعُونَهُ إلى الضّلالَةِ ، ويَدْعُوهُمْ إلى الجَنّةِ وَيَدْعُونَهُ إلى النّارِ » فهمّ أن يدعو عليهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . . . الاَية كلها ، فقال : جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صنع بأصحابه يوم بدر ، فقاتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم أُحد قتالاً شديدا ، حتى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة علم الله أنها قد خالطت غضبا : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ » فقال الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن رباعية النبيّ صلى الله عليه وسلم أصيبت يوم أُحد ، أصابها عتبة بن أبي وقاص ، وشجّه في وجهه ، وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الدم ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا بِنَبِيّهِمْ هَذَا » فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، وعن عثمان الجزري ، عن مقسم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر باعيته ، ووثأ وجهه ، فقال : «اللّهُمّ لا تُحِلْ عَلَيْهِ الحَوْلَ حتى يَمُوتَ كافِرا ! » قال : فما حال عليه الحول حتى مات كافرا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : شجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في فرق حاجبه ، وكسرت رباعيته . قال ابن جريج : ذكر لنا أنه لما جرح ، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِيّهِمْ بالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى اللّهِ ؟ » . فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه دعا على قوم ، فأنزل الله عزّ وجل : ليس الأمر إليك فيهم . ذكر من الرواية بذلك :

حدثني يحيى بن حبيب بن عربي ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعو على أربعة نفر ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } قال : وهداهم الله للإسلام .

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أحمد بن سفيان ، عن عمر بن حمزة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ الْعَنْ أبا سُفْيانَ ! اللّهُمّ الْعَنِ الحَارِثَ ابْنَ هِشامٍ ! اللّهُمّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ! » فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبد الله بن كعب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية ، قال : «اللّهُمّ أنْجٍ عَيّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَسَلْمَةَ بْنَ هِشامٍ وَالَولِيدَ بْنَ الوَلِيدِ ، اللّهُمّ أنْجِ المُسْتَضْعفينَ مِنَ المُسْلِمينَ ، اللّهُمّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضَرَ ، اللّهُمّ سِنِينَ كَسِنِينَ آلِ يُوسَف ! » فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم } . . . الاَية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أخبره عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة ، ويكبر ويرفع رأسه : «سَمِعَ الله لمن حَمِدَهْ ، رَبّنَا وَلَكَ الحَمْدُ » ثم يقول وهو قائم : «الّلهُمّ أنْجِ الولِيدَ بْنَ الوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ وعَيّاشَ بْن أبي رَبيعَةَ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، اللّهُمّ اشْدُدْ وَطأتَكَ على مُضرَ ، وَاجْعَلْها عَلَيْهِمْ كَسِني يُوسُفَ ، اللّهُمّ الْعَنِ لْحْيانَ وَرعلاً وَذَكْوَانَ وعُصَيّةُ عَصَتِ اللّهَ وَرَسُولَهُ » . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِمُونَ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } توقيف على أن الأمر كله لله ، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك «أنه لما هزم أصحابه وشج في وجهه ، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث بالحجارة حتى صرع لجنبه ، تحيز عن الملحمة ، وجعل يمسح الدم من وجهه ويقول : لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم »{[3512]} ، هكذا لفظ الحديث من طريق أنس بن مالك ، وفي بعض الطرق ، وكيف يفلح ؟ وفي بعضها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأفاق وهو يقول : كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله ؟ فنزلت الآية : بسبب هذه المقالة .

قال القاضي : وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فروي أنه دعاء عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم ، وروى ابن عمر وغيره : أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام{[3513]} وصفوان بن أمية{[3514]} باللعنة ، إلى غير هذا من معناه ، فقيل له بسبب ذلك ، { ليس لك من الأمر شيء } أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك ، قال الطبري وغيره من المفسرين : قوله : { أو يتوب عليهم } عطف على { يكبتهم } .

قال القاضي : فقوله : { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض أثناء الكلام ، وقوله : { أو يتوب } معناه : فيسلمون ، وقوله : { أو يعذبهم } معناه : في الآخرة بأن يوافوا على الكفر ، قال الطبري وغيره : ويحتمل أن يكون قوله { أو يتوب } بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك : لا أفارقك أو تقضيني حقي ، وكما تقول : لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان ، وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } ليس باعتراض على هذا التأويل ، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب عليهم فيسلموا ، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه فيهم ، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا ، أو بنار في الآخرة أو بهما ، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر ، وعلى هذا التأويل فليس في قوله : { ليس لك من الأمر شيء } ردع كما هو في التأويل الأول ، وذلك التأويل الأول أقوى ، وقرأ أبي بن كعب ، «أو يتوبُ أو يعذبُ » ، برفع الباء فيهما ، المعنى : أو هو يتوب ، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار .

ثم أكد معنى قوله { ليس لك من الأمر شيء } بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء ، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء ، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه ، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه ، ثم رجا في آخر ذلك تأنيساً للنفوس وجلباً لها إلى طاعته ، وذلك كله في قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله غفور رحيم }


[3512]:- أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والطبري والإمام أحمد في مسنده (عن أنس).
[3513]:- هو الحارث بن هشام بن المغيرة، القرشي، المخزومي-أخو أبي جهل، وابن عم خالد بن الوليد، أمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وهو ممن شهد بدرا مع المشركين، وكان فيمن انهزم، وعيّره حسان بن ثابت ببيتين، فرد عليه المترجم له بثلاثة أبيات قيل فيها: إنها أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار، أسلم يوم فتح مكة ثم حسن إسلامه، قيل: كانت وفاته في طاعون عمواس: وقيل: استشهد يوم اليرموك. "الإصابة 1/293".
[3514]:- صفوان بن أمية بن خلف أبو وهب الجمحي، أمه صفية بنت معمر جمحية أيضا، قتل أبوه يوم بدر كافرا، وحكي أنه كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية، كما حكي أنه فر يوم فتح مكة وأسلمت امرأته فأحضر له ابن عمه عمير بن وهب أمانا من النبي صلى الله عليه وسلم فحضر، وحضر وقعة حنين قبل أن يسلم ثم أسلم، وكان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام "الإصابة 2/187".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

وجملة { ليس لك من الأمر شيء } معترضة بين المتعاطفات ، والخطاب للنَّبيء صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تُحْمَل على صريح لفظها ، فيكون المعنى نفي أن يكون للنَّبيء ، أي لقتاله الكفارَ بجيشه من المسلمين ، تأثير في حصول النَّصر يوم بدر ، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كُلّ جانب من جوانب القتال ، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين ، وهذا من معنى قوله : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] . ولفظ ( الأمر ) من قوله : { ليس لك من الأمر شيء } معناه الشأن ، و ( أل ) فيه للعهد ، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النَّصر .

ويجوز أن تحمل الجملة على أنَّها كناية عن صرف النَّبيء عليْه الصلاة والسلام عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالَّذين كفروا ، من قطع طَرفهم ، وكبْتِهم أو توبة عليهم ، أو تعذيب لهم : أي فذلك موكول إلينا نحقّقُه متى أردنا ، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المُسلمين يوم أحُد .

فلفظ ( الأمر ) بمعنى شأن المشركين . والتعريفُ فيه عوض عن المضاف إليه ، أي ليس لك من أمرهم اهتمام . وهذا تذكير بما كان للنَّبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه ، وإلحاحه في الدّعاء بالنَّصر . ولعلّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم كان يوَدّ استيصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم ، فذكّره الله بذلك أنَّه لم يقدّر استيصالهم جميعاً بل جعل الانتقام منهم ألواناً فانتقم من طائفة بقطع طرَف منهم ، ومن بقيّتهم بالكَبْتِ ، وهو الحزن على قتلاهم ، وذهاب رؤسائهم ، واختلال أمورهم ، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم ، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك ، وهم من آمن من أهل مكَّة قبل الفتح ، ويوم الفتح : مثل أبي سفيان ، والحارث بن هشام أخي أبي جهل ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وخالد بن الوليد ، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر ، أو بالقتل : مثل ابن خَطل ، والنضْر بن الحارث ، فلذلك قيل له : « ليس لك من الأمر شيء » .

ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين ، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله ، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجَعل هذه الجملة قبل قوله : { أو يتوب عليهم } استئناس للنَّبيء صلى الله عليه وسلم إذ قُدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله ، ثُمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم ، ثُمّ أردف بما يدلّ على عقابهم ، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له ، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له . ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى : { أو يعذبهم } .

ولكون التَّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحُد ، كأنّ في هذا التَّقسيم إيماء إلى ما يصلح بياناً لِحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحُد ، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين ، لم يصبهم القتلُ يومئذ ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد ، بَعْد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر ، وإن حسِبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحُد ، وإن لم ينتصروا . ولا يستقيم أن يكون قوله : { ليس لك من الأمر شيء } متعلّقاً بأحوال يوم أحُد : لأنّ سياق الكلام ينبو عنه ، وحال المشركين يوم أحُد لا يناسبه قولُه : { ليقطع طرفاً من الذين كفروا } إلى قوله : { خائبين } .

ووقع في « صَحِيح مسلم » ، عن أنس بن مالك : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم شُجّ وجهه ، وكُسرت رباعيته يوم أحُد ، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم ، فقال النَّبيء عليْه السَّلام : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم " أي في حال أنَّه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم ، فنزلت الآية ، ومعناه : لا تستبْعِد فلاحهم . ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية مُتأوّل على إرادة : فذُكِّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سبباً لأنّ النَّبيء تعجّب من فلاحهم أو استبعده ، ولم يدّع لنفسه شيئاً ، أو عملاً ، حتَّى يقال : « ليس لك من الأمر شيء » . وروى الترمذي : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم دعا على أربعة من المشركين ، وسمّى أناساً ، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك ، ثُمّ أسلموا .

وقيل : إنَّه همّ بالدعاء ، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال ، فنهى . ويردّ هذه الوجوه ما في « صحيح مسلم » ، عن ابن مسعود ، قال : كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيئاً من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون . وورد أنَّه لمَّا شجّ وجهه يوم أحُد قال له أصحابه : لو دعوت عليهم ، فقال : إنِّي لم أبعث لَعَّاناً ، ولكِنِّي بعثت داعياً ورحمة ، اللَّهُمّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون . وما ثبت من خُلقه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان لا ينتقم لنفسه .

وأغرَبَ جماعة فقالوا نزل قوله : { ليس لك من الأمر شيء } نسخاً لما كان يدعو به النَّبيء صلى الله عليه وسلم في قنوته على رِعْل ، وذكْوان ، وعُصية ، ولِحْيان ، الَّذين قتلوا أصحاب بئر معونة ، وسندهم في ذلك ما وقع في « البخاري » أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو عليهم ، حتَّى أنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء } . قال ابن عطية : وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ . وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النَّصر الواقع يوم بدر . وتفسيرُ ما وقع في « صحيح البخاري » من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذاً بكامل الأدب ، لأنّ الله لمَّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلَمُ بما فيه نفع الإسلام ، ونقمة الكفر ، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا . وإذ جعلنا دعاءه صلى الله عليه وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعاً تقررّ بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح ، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية ، من قبيل النسخ بالقياس ، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل .

ومنهم من أبعد المرمى ، وزعم أن قوله : { أو يتوب عليهم } منصوب بأن مضمرة وجوباً ، وأنّ ( أو ) بمعنى حتَّى : أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتَّى يتوب الله عليهم ، أي لا يؤمنون إلاّ إذا تاب عليهم ، وهل يجهل هذا أحد حتَّى يحتاج إلى بيانه ، على أن الجملة وقعت بين علل النصر ، فكيف يشتّت الكلام ، وتنتثر المتعاطفات .

ومنهم من جعل { أو يتوب عليهم } عطفاً على قوله { الأمر } أو على قوله { شيء } ، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أنْ على سبيل الجواز ، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء ، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم .

فإن قلت : هلاّ جمع العقوبات متوالية : فقال ليقطع طرفاً من الَّذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، أو يتوبَ عليهم ، أو يعذّبهم ، قلت : روعي قضاء حقّ جمع النظير أولاً ، وجمع الضدّين ثانياً ، بجمع القَطْع والكبْتتِ ، ثم جمع التوبة والعذاب ، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة :

وقفتَ وما في الموت شَكّ لواقف *** كأنَّك في جفن الردى وهو نائم

تَمُرّ بك الأبطال كَلْمى حزينــة *** ووَجْهُك وَضّاح وثَغرك باسـم

إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت ، وأخَّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة ، في قصة مذكورة في كتب الأدب .

واللام الجارّة لام الملك ، وكاف الخطاب لمعيّن ، وهو الرسول عليه الصّلاة والسّلام .

وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيباً وجيزاً محذوفاً منه بعض الكلمات ، ولم أظفر ، فيما حفظت من غير القرآن ، بأنَّها كانت مستعملة عند العرب ، فلعلّها من مبتكرات القرآن ، وقريب منها قوله : { وما أملك لك من اللَّه من شيء } [ الممتحنة : 4 ] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } [ آل عمران : 154 ] و { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } [ آل عمران : 154 ] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه ، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب ، وإن كان حكاية بالمعنى فلا .

وقوله : { فإنهم ظالمون } إشارة إلى أنَّهم بالعقوبة أجدر ، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى .