{ 26 } { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
يقول تعالى : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } حيث أنفوا من كتابة { بسم الله الرحمن الرحيم } وأنفوا من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إليهم في تلك السنة ، لئلا يقول الناس : { دخلوا مكة قاهرين لقريش } وهذه الأمور ونحوها من أمور الجاهلية ، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت من كثير من المعاصي ، { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به ، بل صبروا لحكم الله ، والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت ، ولم يبالوا بقول القائلين ، ولا لوم اللائمين .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } وهي { لا إله إلا الله } وحقوقها ، ألزمهم القيام بها ، فالتزموها وقاموا بها ، { وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا } من غيرهم { و } كانوا { أهلها } الذين استأهلوها لما يعلم الله عندهم وفي قلوبهم من الخير ، ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم فقال : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } .
والظرف { إِذْ } منصوب بفعل مقدر . والحمية : الأنفة والتكبر والغرور والتعالى بغير حق . يقال : حَمِىَ أنفه من الشئ - كرضى - إذا غضب منه ، وأعرض عنه .
أى : واذكر - أيها العاقل - وقت أن تمسك الكافرون وقيدوا أنفسهم بالحمية الباطلة ، التى هى حمية المِلّة الجاهلية ، حيث منعوا المسلمين من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام ، وحيث منعوا الهدى من أن يبلغ محله ، وحيث أبوا أن يكتب فى الصحيفة التى عقدت بينهم وبين المسلمين ، بسم الله الرحمن الرحيم ، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا كله من حميتهم الجاهلية التى لا أساس لها من علم أو خلق أو دين .
وقوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى . . . } معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين حال الفريقين ، مقابلة تتجلى فيها رعايته - سبحانه - للمؤمنين ، وغضبه على الكافرين . أى : هذا هو حال الكافرين ، رسخت الجهالات فى قلوبهم حتى صرفتهم عن سبيل الرشد ، أما حال المؤمنين فأنهم قابلوا تصرفات هؤلاء الكافرين بالاحتقار والازدراء ومبايعة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - على الموت إذا لزم الأمر ذلك .
فأنزل الله - تعالى - طمأنينته وسكينته على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب أصحابه ، حيث لم يجعلهم يقابلون سفاهات المشركين بسفاهات مثلها . .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } أى : وجعلهم ملتزمين بما تقتضيه كلمة التقوى ، وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوا الله ، من أناة وسكون وثبات ووقار وخلق كريم وإخلاص فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله .
{ وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أى : وكان المؤمنين أحق بهذه الكلمة من الكفار ، وكانوا أهلا لها دون الكفار ، لأن المؤمنين استجابوا للحق . أما الكافرون فقد أنفوا منه ، وتطاولوا عليه ، بمقضتى حميتهم الجاهلية . . { وَكَانَ } - سبحانه - وما زال { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } لا يخفى عليه أمر ، ولا يغيب عن علمه شئ ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يرى ألوانا من المقابلات التى تدل على مدح الله - تعالى - للمؤمنين ، وعلى احتقاره للكافرين .
فقد عبر - سبحانه - فى جانب الكافرين بكلمة جعل التى تشعر بأن الكافرين كأنهم قد ألقوا هذه الحمية الجاهلية فى قلوبهم إلقاء بدون تعقل أو تبدر ، بينما عبر فى جانب المؤمنين بكلمة أنزل التى تشعر كأن السكينة كانت فى خزائنه - تعالى - ثم أنزلها بعد ذلك على قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب المؤمنين ، ليزدادوا إيمانا على إيمانهم . .
ونرى الفاعل لجعل هو الذين كفروا ، بينما الفاعل لأنزل هو الله - عز وجل - .
ونرى المفعول لجعل هو الحمية ، وهى كلمة مشتعلة منفرة ، وقد كررها - سبحانه - ليزداد العقلاء نفورا منها . . ونرى المفعول لأنزل هو السكينة وهى كلمة فيها ما فيها من الوقار والسكون والثبات والطمأنينة .
ونرى الحمية قد أضيفت إلى الجاهلية ، بينما السكينة أضيفت إلى الله - تعالى - .
ونرى أن الله - تعالى - قد أضاف كل ذلك مدحا عظيما لعباده المؤمنين حيث ألزمهم كلمة التقوى ، وجعلهم بها وأهلا لها دون أعدائهم الذين آثروا الغى على الرشد ، والباطل على الحق . . وفى ذلك ما فيه من الثناء على المؤمنين والتحقير للكافرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ وَكَانُوَاْ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
يعني تعالى ذكره بقوله : إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِم الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ حين جعل سُهيل بن عمرو في قلبه الحمية ، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين : بسم الله الرحمن الرحيم ، وأن يكتب فيه : محمد رسول الله ، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : كانت حميتهم التي ذكر الله ، إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ، أنهم لم يقرّوا «بسم الله الرحمن الرحيم » وحالوا بينهم وبين البيت .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري بنحوه .
حدثني عمرو بن محمد العثماني ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : ثني أخي ، عن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ ، فَمَنْ قال لا إلَه إلاّ اللّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنّي مالَهُ وَنَفْسَهُ إلاّ بِحَقّهِ وَحِسابُهُ على الله » . وأنزل الله في كتابه ، فذكر قوما استكبروا فقال : إنّهُمْ كانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُون وقال الله : إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الجاهِلِيّة فأنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رسَوُلِهِ وَعَلى المُؤْمِنينَ وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وكانُوا أحَقّ بِها وأهْلَها وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، استكبر عنها المشركون يوم الحُديبية ، يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدّة .
و «إذ » من قوله : إذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا من صلة قوله : لعذّبنا . وتأويل الكلام : لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ، حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، والحمية فعيلة من قول القائل : حمى فلان أنفه حمية ومحمية ومنه قول المتلمس :
ألا إنّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ *** كَذا الرأس يَحْمي أنْفَهُ أنْ يُكَشّما
يعني بقوله : «يحمي » : يمنع . وقال حَمِيّةَ الجاهِلِيّةِ لأن الذي فعلوا من ذلك كان جميعه من أخلاق أهل الكفر ، ولم يكن شيء منه مما أذن الله لهم به ، ولا أحد من رسله .
وقوله : فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعلى المُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره فأنزل الله الصبر والطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين ، إذ حمى الذين كفروا حمية الجاهلية ، ومنعوهم من الطواف بالبيت ، وأبوا أن يكتبوا في الكتاب بينه وبينهم بسم الله الرحمن الرحيم ، ومحمد رسول الله وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى يقال : ألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار ، وأليم العذاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف في ذلك منهم ، ورُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر قائلي ذلك بما قلنا فيه ، والخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي ، قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، قال : حدثنا شعبة ، عن ثور بن أبي فاختة ، عن أبيه ، عن الطفيل ، عن أبيه ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وألْزَمَهُمْ كَلمَةَ التّقْوَى قال : «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ » .
حدثني محمد بن خالد بن خداش العَتَكِيّ ، قال : سمعت سالما ، سمع شعبة ، سمعَ سَلَمة بن كُهَيل ، سمعِ عبَايَة ، سمع عليا رضي الله عنه في قوله : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : لا إله إلا الله .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن عباية بن ربعي ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : لا إله إلاّ الله ، والله أكبر .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان وشعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن رجل ، عن عليّ رضي الله عنه قال : لا إله إلاّ الله ، والله أكبر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن سلمة ، عن عبايه ، عن رجل من بني تميم عن عليّ رضي الله عنه وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : لا إله إلاّ الله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى يقول : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، فهي كلمة التقوى ، يقول : فهي رأس التقوى .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق يحدّث عن عمرو بن ميمون أنه كان يقول في هذه الآية وألْزَمَهُم كَلِمَةَ التّقْوَى قال : لا إله إلاّ الله .
حدثني محمد بن عيسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرني سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون وأَلْزَمَهَمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : لا إله إلاّ الله .
قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وقال : لا إله إلاّ الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وهي : شهادة أن لا إله إلا الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : هي لا إله إلاّ الله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى هي لا إله إلاّ الله .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، في قوله : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله .
حدثني ابن البرقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن عطاء الخراسانيّ وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله .
حدثني الصواريّ محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا محمد بن سوار ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يزيد بن أبي خالد المكي ، عن عليّ الأزديّ ، قال : كنت مع ابن عمر بين مكة ومنى بالمأزمين ، فسمع الناس يقولون : لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، فقال : هي هي ، فقلت : ما هي ؟ قال : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى الإخلاص وكَانُوا أَحَقّ بِها وَأَهْلَهَا .
وقال آخرون : بل : هي كلمة التقوى ، الإخلاص . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وألْزَمَهُمْ كَلِمَةً التّقْوَى قال : الإخلاص .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد كَلِمَةَ التّقْوَى كلمة الإخلاص .
وقال آخرون : هي قوله : بسم الله الرحمن الرحيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عيسى ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهريّ ، في قوله : وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : بسم الله الرحمن الرحيم .
وقال آخرون : هي قول لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرّيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد وعطاء وألْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى قال : أحدهما الإخلاص ، وقال الاَخر : كلمة التقوى : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له المُلك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير .
وقوله : وكانُوا أحَقّ بِها وأهْلَها يقول تعالى ذكره : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم : والمؤمنون أحقّ بكلمة التقوى من المشركين وأهلها : يقول : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أهل كلمة التقوى دون المشركين . وذُكر أنها في قراءة عبد الله «وكانُوا أهْلَها وأحَقّ بِها » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكانُوا أَحَقّ بها وأهْلَها وكان المسلمون أحقّ بها ، وكانوا أهلها : أي التوحيد ، وشهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .
وقوله : وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيما يقول تعالى ذكره : ولم يزل الله بكل شيء ذا علم ، لا يخفى عليه شيء هو كائن ، ولعلمه أيها الناس بما يحدث من دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون ، ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، لم يأذن لكم بدخولكم مكة في سفرتكم هذه .
والعامل في قوله : { إذ جعل } قوله تعالى : { لعذبنا } ويحتمل أن يكون المعنى : أذكر إذ جعلنا .
و : { الحمية } التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد ، قال الزهري : وحمية سهيل{[10427]} ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، ولجوا حتى كتب باسمك اللهم ، وكذلك منعوا أن يثبت : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . ولجوا حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي : «امح واكتب » هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى «حمية جاهلية » ، لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محارباً لعذرهم في حميتهم ، وإنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فكانت حميتهم جاهلية صرفاً . والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره .
و : { كلمة التقوى } قال الجمهور : هي لا إله إلا الله ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال أبو هريرة وعطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال علي بن أبي طالب : هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وحكاه الثعلبي عن ابن عمر .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال متقاربة حسان ، لأن هذه الكلمة تقي النار ، فهي { كلمة التقوى } .
وقال الزهري عن المسور ومروان : { كلمة التقوى } المشار إليها هي بسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم { أحق بها }
قال القاضي أبو محمد : ولا إله إلا الله أحق باسم : { كلمة التقوى } . من : بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي مصحف ابن مسعود : «وكانوا أهلها وأحق بها » . والمعنى : كانوا أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم ، وقيل { أحق بها } من اليهود والنصارى في الدنيا ، وقيل أهلها في الآخرة بالثواب .
وقوله تعالى : { وكان الله بكل شيء عليماً } إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية ، فيروى أنه لما انعقد ، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة ، وامتزجوا ، وعلت دعوة الإسلام ، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب ، وزاد عدد الإسلام أضعاف ما كان قبل ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ويقتضي ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم .
ظرف متعلق بفعل { صدوكم } [ الفتح : 25 ] أي صدوكم صدًّا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حميةَ الجاهلية ، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حُرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطّت على عقولهم فصمّموا على منع المسلمين ، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين .
فكان تعليق هذا الظرف بفعل { وصدوكم } مشعراً بتعليل الصَّد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية مُتَمَكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام .
والحمية : الأنفة ، أي الاستنكاف من أمرٍ لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم . ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالى : { وما كانوا أولياءه } [ الأنفال : 34 ] . و { جعل } بمعنى وضع ، كقول الحريري في المقامة الأخيرة « اجعل الموت نصب عينك » ، وقول الشاعر :
وإثمد يجعل في العين{[387]}
وضمير { جعل } يجوز أن يكون عائداً إلى اسم الجلالة في قوله : { ليدخل الله في رحمته } [ الفتح : 25 ] من قوله : { لعذبنا الذين كفروا } [ الفتح : 25 ] والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات .
و { الذين كفروا } مفعول أول ل { جعل } . و { الحمية } بدل اشتمال من { الذين كفروا } ، و { في قلوبهم } في محل المفعول الثاني ل { جعل } ، أي تخلّقُوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدّوكم عن المسجد الحرام .
و { في قلوبهم } متعلق ب { جعل } ، أي وضع الحمية في قلوبهم .
وقوله : { حمية الجاهلية } عطف بيان للحمية قُصد من إجماله ثم تفصيله تقريرُ مدلوله وتأكيده مَا يحصل لو قال : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم حميةَ الجاهلية } .
وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقوله : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] وقوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] .
ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهاية .
وتفريع { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } ، على { إذ جعل الذين كفروا } ، يؤذن بأن المؤمنين ودُّوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخُلوا مكة للعمرة عنوة غضباً من صدّهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة .
والمراد بالسكينة : الثبات والأناة ، أي جعل في قلوبهم التأنّي وصرف عنهم العجْلة ، فعصمهم من مقابلة الحَمِية بالغضب والانتقاممِ فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير .
وفي هذه الآية من النكت المعنوية مقابلة { جعل } ب { أنزل } في قوله : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } وقوله : { فأنزل الله سكينته } فدلّ على شرف السكينة على الحمية لأن الإنزال تخييل للرفعة وإضافة الحمية إلى الجاهلية ، وإضافة السكينة إلى اسم ذاته . وعُطف على إنزال الله سكينته { ألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] ، أي جعل كلمة التقوى لازمة لهم لا يفارقونها ، أي قرن بينهم وبين كلمة التقوى ليكون ذلك مقابلَ قوله : { وصدوكم عن المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] فإنه لما ربط صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بالظرف في قوله : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية الجاهلية } رَبْطاً يفيد التعليل كما قدمناه آنفاً رَبَطَ ملازمة المسلمين كلمة التقوى بإنزال السكينة في قلوبهم ، ليكون إنزال السكينة في قلوبهم ، وهو أمر باطني ، مؤثراً فيهم عملاً ظاهرياً وهو ملازمتهم كلمة التقوى كما كانت حمية الجاهلية هي التي دفعت الذين كفروا إلى صد المسلمين عن المسجد الحرام .
وضمير النصب في { وألزمهم } عائد إلى { المؤمنين } لأنهم هم الذين عوّض الله غضبهم بالسكينة ولم يكن رسول الله مفارقاً السكينة من قبل .
و { كلمة التقوى } إن حملت على ظاهرِ معنى { كلمة } كانت من قبيل الألفاظ وإطلاق الكلمة على الكلام شائع ، قال تعالى : { إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ففسرت الكلمة هنا بأنها قول : لا إله إلا الله . وروي هذا عن أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي ، وقال : هو حديث غريب . قلت : في سنده : ثوير ، ويقال : ثور بن أبي فاختة قال فيه الدارقطني : هو متروك ، وقال أبو حاتم : هو ضعيف . وروى ابن مردوية عن أبي هريرة وسلمةَ بن الأكوع مثله مرفوعاً وكلها ضعيفة الأسانيد . وروي تفسيرها بذلك عند عدد كثير من الصحابة ومعنى إلزامه إياهم كلمة التقوى : أنه قدَّر لهم الثبات عليها قولاً بلفظها وعملاً بمدلولها إذ فائدة الكلام حصول معناه ، فإطلاق ( الكلمة ) هنا كإطلاقه في قوله تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] يعني بها قول إبراهيم لأبيه وقومه { إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [ الزخرف : 26 ، 27 ] .
وإضافة { كلمة } إلى { التقوى } على هذا التفسير إضافة حقيقية . ومعنى إضافتها : أن كلمة الشهادة أصل التقوى فإن أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام ، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها . ورويت أقوال أخرى في تفسير { كلمة التقوى } بمعنى كلام آخر من الكلم الطيب وهي تفاسير لا تلائم سياق الكلام ولا نظمه . ويجوز أن تحتمل { كلمة } على غير ظاهر معناها فتكون مقحمة وتكون إضافتها إلى التقوى إضافة بيانية ، أي كلمة هي التقوى ، ويكون المعنى : وألزمهم التقوى على حد إقحام لفظ اسم في قول لبيد :
إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما
ومنه قوله تعالى : { تبارك اسمُ ربك } [ الرحمن : 78 ] على أحد التفسيرين فيه . ويدخل في التقوى ابتداءً توحيدُ الله تعالى .
ويجوز أن يكون لفظ { كلمة } مطلقاً على حقيقة الشيء . وجُماع معناه كإطلاق الاسم في قول النابغة :
نبئت زرعة والسفاهة كاسمِها *** يُهدي إلى غرائب الأشعار
ويؤيد هذا الوجه ما نقل عن مجاهد أنه قال : كلمة التقوى : الإخلاص . فجعل ( الكلمة ) معنى من التقوى . فالمعنى على هذين التوجهين الأخيرين : أنهم تخلقوا بالتقوى لا يفارقونها فاستعير الإلزام لدوام المقارنة . وهذان الوجهان لا يعارضان تفسير كلمة ( التقوى ) بكلمة ( الشهادة ) المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يكون ذلك تفسيراً بجزئي من التقوى هو أهمّ جزئياتها ، أي تفسير مثال .
وعن الحسن : أن كلمة { التقوى } الوفاء بالعهد ، فيكون الإلزام على هذا بمعنى الإيجاب ، أي أمرهم بأن يفوا بما عاهدوا عليه للمشركين ولا ينقضوا عهدهم ، فلذلك لم ينقض المسلمون العهد حتى كان المشركون هم الذين ابتدأوا بنقضه .
والواو في { وكانوا أحق بها } واو الحال ، والجملة حال من الضمير المنصوب ، أي ألزمهم تلك الكلمة في حال كانوا فيه أحق بها وأهلها ممن لم يلزموها وهم الذين لم يقبلوا التوحيد على نحو قوله تعالى : { وإن كانت لكبيرة إلاّ على الذين هدى الله } [ البقرة : 143 ] . وجيء بفعل كانوا لدلالتها على أن هذه الأحقية راسخة فيهم حاصلة في الزمن الماضي ، أي في قدر الله تعالى .
والمعنى : أن نفوس المؤمنين كانت متهيئة لقبول كلمة التقوى والتزامها بما أرشدها الله إليه . والمفضل عليه مقدر دلّ عليه ما تقدم ، أي أحق بها من الذين كفروا والذين جعل الله في قلوبهم الحمية لأن الله قدّر لهم الاستعداد للإيمان دون الذين أصروا على الكفر .
وأهل الشيء مستحقُه ، والمعنى أنهم كانوا أهل كلمة التقوى لأنها تناسب ضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم . وهذه الأهلية مثل الأحقية متفاوتة في الناس وكلما اهتدى أحد من المشركين إلى الإسلام دلّ اهتداؤه على أنه حصلت له هذه الأهلية للإسلام .
وجملة { وكان اللَّه بكل شيء عليماً } تذييل ، أي وسبق في علم الله ذلك في عموم ما أحاط به علم الله من الأشياء مجرى تكوينه على نحو علمه .