{ 85 } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا }
وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل ، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز ، ويدع السؤال عن المهم ، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية ، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد ، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد .
ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من جملة مخلوقاته ، التي أمرها أن تكون فكانت ، فليس في السؤال عنها كبير فائدة ، مع عدم علمكم بغيرها .
وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر ، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه ، ويدله على ما يحتاج إليه ، ويرشده إلى ما ينفعه .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } روايات منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : " بينما أنا أمشى مع النبى صلى الله عليه وسلم فى حرث وهو متوكئ على عسيب - أى على عصا - إذ مر اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقالوا : يا محمد ما لروح فأمسك النبى صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامى ، فلما نزل الوحى قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي . . . } .
قال الإِمام ابن كثير بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها : وهذا السياق يقتضى فيما يظهر بادى الرأى ، أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية .
وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو أنه نزل عليه الوحى بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهى هذه الآية : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح . . . } " .
ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما أخرجه الإِمام أحمد عن ابن عباس قال : " قالت قريش ليهود . أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل ؟ فقالوا : سلوه عن الروح ، فسألوه فنزلت : ويسألونك عن الروح . . الآية " .
وكلمة الروح تطلق فى القرآن الكريم على أمور منها :
الوحى ، كما فى قوله - تعالى - : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ . . . } ومنها : القوة والثبات كما فى قوله - تعالى - : { أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ . . . } ومنها : جبريل ، كما فى قوله - تعالى - : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين . . . } ومنها : القرآن كما فى قوله - سبحانه - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا . . . } ومنها : عيسى ابن مريم ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ . . . } وجمهور العلماء على أن المراد بالروح فى قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح . . . } ما يحيا به بدن الإِنسان ، وبه تكون حياته ، وبمفارقته للجسد يموت الإِنسان ، وأن السؤال إنما هو عن حقيقة الروح ، إذ معرفة حقيقة الشئ . تسبق معرفة أحواله .
وقيل المراد بالروح هنا : القرآن الكريم ، وقيل : جبريل ، وقيل : عيسى إلى غير ذلك من الأقوال التى أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرة أقوال .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، أولى بالاتباع ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } يؤيد هذا الاتجاه .
قال الآلوسى : " الظاهر عند المنصف ، أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذى هو مدار البدن الإِنسانى ، ومبدأ حياته ، لأن ذلك من أدق الأمور التى لا يسع أحدًا إنكارها ، ويشرئب الجميع إلى معرفتها ، وتتوافر دواعى العقلاء إليها ، وَتَكِلُّ الأذهان عنها ، ولا تكاد تعلم إلا بوحى . . " .
و { من } فى قوله : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } بيانية . والمراد بالأمر هنا . الشأن .
والمعنى : ويسألك بعض الناس - أيها الرسول - عن حقيقة الروح ، قل لهم على سبيل الإِرشاد والزجر : الروح شئ من جنس الأشياء التى استأثر الله - تعالى - وحده بعلم حقيقتها وجوهرها .
وقال - سبحانه - : { قل الروح } بالإِظهار ، لكمال العناية بشأن المسئول عنه .
وإضافة كلمة { أمر } إلى لفظ الرب - عز وجل - ، من باب الاختصاص العلمى ، إذ الرب وحده هو العليم بشأنها ، وليس من باب الاختصاص الوجودى ، لأن الروح وغيرها من مخلوقات الله - تعالى - .
وفى هذه الإِضافة ما فيها من تشريف المضاف ، حيث أضيف هذا الأمر إلى الله - تعالى - وحده .
قال القرطبى : وقوله - تعالى - { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } دليل على خلق الروح ، أى : هو أمر عظيم ، وشأن كبير من أمر الله - تعالى - ، مبهمًا له وتاركًا تفصيله ، ليعرف الإِنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها . وإذا كان الإِنسان فى معرفة نفسه هكذا ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى . وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز .
وقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } من جملة الجواب الذى أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد به على السائلين عن حقيقة الروح .
أى : وما أوتيتم - أيها السائلون عن الروح - من العلم إلا علمًا قليلاً ، بالنسبة إلى علمه - تعالى - الذى وسع كل شئ ، ولا يخفى عليه شئ .
وإن علمكم مهما كثر فإنه لا يمكنه أن يتعلق بحقيقة الروح وأحوالها ، لأن ذلك شئ استأثر الله - تعالى - به وحده ، واقتضت حكمته - عز وجل - أن يجعله فوق مستوى عقولكم .
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية : والمنهج الذى سار عليه القرآن - وهو المنهج الأقوم - أن يجيب الناس عما هم فى حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشرى بلوغه ومعرفته ، فلا يبدد الطاقة العقلية التى وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفى غير مجالها الذى تملك وسائله ، وبعضهم عندما سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الروح ، أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمره- سبحانه - . . .
وليس فى هذا حجر على العقل البشرى أن يعمل ، ولكن فيه توجيهًا لهذا العقل أن يعمل فى حدوده ، وفى مجاله الذى يدركه .
والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه . . ولقد أبدع الإِنسان فى هذه الأرض ما أبدع ، ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف - الروح - لا يدرى ما هو ؟ ولا كيف جاء ؟ ولا كيف يذهب ؟ ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما يخبر به العليم الخبير فى التنزيل " .
وقال بعض العلماء : وفى هذه الآية ما يزجر الخائضين فى شأن الروح ، المتكلفين لبيان ماهيته ، وإيضاح حقيقته ، أبلغ زجر ، ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال فى هذا البحث ، بما لا يتسع له المقام ، وغالبه ، بل كله من الفضول الذى لا يأتى بنفع فى دين أو دنيا . .
فقد استأثر الله - تعالى - بعلم الروح ، ولم يطلع عليه أنبياءه ، ولم يأذن لهم بالسؤال عنه ، ولا البحث عن حقيقته ، فضلاً عن أممهم المقتدين بهم . . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي ؟ قل لهم : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلاً . وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فنزلت هذه الاَية بمسألتهم إياه عنها ، كانوا قوما من اليهود . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة ، ومعه عَسِيب يتوكأ عليه ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم : اسألوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، فقام متوكئا على عسيبه ، فقمت خلفه ، فظننت أنه يوحَى إليه ، فقال : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرُوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقال بعضهم لبعض : ألم نقل لكم لا تسألوه .
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرّة بالمدينة ، إذ مررنا على يهود ، فقال بعضهم : سَلُوه عن الروح ، فقالوا : ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون ، فقاموا إليه ، فسألوه ، فقام فعرفت أنه يوحَى إليه ، فقمت مكاني ، ثم قرأ : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقالوا : ألم ننهكم أن تسألوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقالوا : أتزعم أنا لم نؤتَ من العلم إلا قليلا ، وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ، وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتَيَ خَيْرا كَثِيرا . قال : فنزلت : وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ من شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ قال : ما أوتيتم على علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل .
حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل ، قال : حدثنا الأشجعيّ أبو عاصم الحِمْصيّ ، قال : حدثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب ، قال : حدثنا القاسم بن معن ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إني لمع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة ، إذ أتاه يهوديّ ، قال : يا أبا القاسم ، ما الروح ؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عزّ وجلّ : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ ربّي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ لقيت اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فتغَشّوه وسألوه وقالوا : إن كان نبيا علم ، فسيعلم ذلك ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين فأنزل الله في كتابه ذلك كله وَيَسْئَلُونَكَ عَن الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً يعني اليهود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : يهود تسأل عنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : يهود تسأله .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ . . . الاَية : وذلك أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أخبرنا ما الروح ، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله عزّ وجلّ ، ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يُحِر إليهم شيئا ، فأتاه جَبرئيل عليه السلام ، فقال له : قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك ، قالوا له : من جاءك بهذا ؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «جاءنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ » ، فقالوا : والله ما قاله لك إلا عدوّ لنا ، فأنزل الله تبارك اسمه : قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّا لِجْبرِيلَ فإنّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فمررنا بأناس من اليهود ، فقالوا : يا أبا القاسم ما الرّوح ؟ فأُسْكِت ، فرأيت أنه يوحَى إليه ، قال : فتنحيت عنه إلى سُباطة ، فنزلت عليه : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ . . . الاَية ، فقالت اليهود : هكذا نجده عندنا .
واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في هذا الموضع ما هي ؟ فقال بعضهم : هي جبرئيل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : هو جبرائيل ، قال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه .
وقال آخرون : هي مَلك من الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروحِ قال : الروح : مَلك .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن عليّ بن أبي طالب ، أنه قال في قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : هو ملَك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كلّ تسبيحة ملَكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة .
وقد بيّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا ، بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : منْ أمْرِ رَبّي فإنه يعني : أنه من الأمر الذي يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم ، فلا تعلمونه ويعلم ما هو .
وأما قوله : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله وَما أُوتِيتُمْ منَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقال بعضهم : عنى بذلك : الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم ، ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب ، خرج الكلام على المخاطبة ، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب ، أخرجو الكلام خطابا للجمع . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً أفعنيتنا أم قومك ؟ قال : «كُلاّ قَدْ عَنَيْتُ » ، قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هِيَ في عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ ، وَقَدْ آتاكُمْ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ » ، فَأنْزَل الله وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ . . . إلى قوله إنّ اللّهَ سَميعٌ بَصِيرٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله عزّ وجلّ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً قال : يا محمد والناس أجمعون .
وقال آخرون : بل عنى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً يعني : اليهود .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به ، والمراد به جميع الخلق ، لأن علم كلّ أحد سوى الله ، وإن كثر في علم الله قليل . وإنما معنى الكلام : وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلاّ قليلاً من كثير مما يعلم الله .
الضمير في { يسألونك } قيل هو لليهود وإن الآية مدنية ، وروى عبد الله بن مسعود ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر على حرث بالمدينة ، ويروى على خرب ، وإذا فيه جماعة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، ولا يطلع عليه أحداً من عباده ، قال ابن مسعود : وقال بعضهم : لا تسألوه لئلا يأتي في بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته ، قال فسألوه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عسيب فظننت أنه يوحى إليه ، ثم تلا عليهم الآية{[7687]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقيل الآية مكية والضمير لقريش ، وذلك أنهم قالوا : نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود ، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، فقال اليهود لهما : جرباه بثلاث مسائل ، سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب ، وإن سكت عن الروح فهو نبي ، فسألته قريش عن الروح ، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم «غداً أخبركم به » ، ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوماً ، معاتبة على وعده لهم دون استثناء ، ثم نزلت هذه الآية{[7688]} .
واختلف الناس في { الروح } المسؤول عن أي روح هو ؟ فقالت فرقة هي الجمهور : وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي ؟ ف { الروح } اسم جنس على هذا ، وهذا هو الصواب ، وهو المشكل الذي لا تفسير له ، وقال قتادة { الروح } المسؤول عنه جبريل ، قال وكان ابن عباس يكتمه ، وقالت فرقة عيسى ابن مريم ، وقال علي بن أبي طالب : «ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة » ، ذكره الطبري ، وما أظن هذا القول يصح عن علي ، وقالت فرقة { الروح } القرآن ، وهذه كلها أقوال مفسرة ، والأول أظهرها وأصوبها ، وقوله { من أمر ربي } يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون «الأمر » اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها ، فهي إضافة خلق إلى خالق ، والثاني أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمراً بالكون فكان . وقرأ ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا » ، ورواها ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الجمهور «وما أوتيتم » ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط ، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود ، وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم ، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ، وقالت فرقة : العالم كله ، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له { قل الروح } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل ، ويحتمل أيضاً أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جداً ، كما قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام ، «ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر » ، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر ، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه ، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور ، أي إما لا ينقص علمنا شيئاً من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص ، إذ نقصه غير محسوس ، فكأنه معدوم ، فهذا احتمال ، ولكن فيه نظر ، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلاً ؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث «كلاًّ » يعني أن المراد ب { أوتيتم } جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أو قومك ؟ فقال «كلاًّ »{[7689]} ، وفي هذا المعنى نزلت
{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام }{[7690]} ، حكى ذلك الطبري رحمه الله .