تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف ، فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم{[67]}  وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه ، فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولكن هذا التقييم{[68]}  على وجه الإنصاف والتنزل معكم ، فهذا آية كبرى ، ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] ، أن كانت وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله . فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله .

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي ، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل ، الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من كل الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام ، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم .

وفي قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال ، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق{[69]}  إن كان صادقا في طلب الحق .

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، لم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه .

وكذلك الشاك غير الصادق{[70]}  في طلب الحق ، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه ، فهذا في الغالب أنه لا يوفق .

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ، قيامه بالعبودية ، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين .

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال ، فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }

وفي قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة ، وفيها أيضا ، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار ، لأنه قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها ، لم تكن معدة للكافرين وحدهم ، خلافا للخوارج والمعتزلة .

وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه ، وهو الكفر ، وأنواع المعاصي على اختلافها .


[67]:- هكذا في أ، وفي ب: شطب قوله (بأفصحكم ولا بأعلمكم) وفي هامش النسخة بخط المؤلف جملة أخرى هي (من جنس آخر) فتكون الجملة هكذا (ليس من جنس آخر).
[68]:- هكذا وردت الكلمة في هامش أ، وهي ليست في ب، ويبدو أن المراد وهذا العرض.
[69]:- في ب: باتباعه.
[70]:- في ب: الذي ليس بصادق.

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

ثم قال - تعالى - : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } . المعنى : فإن لم تفعلوا أي : تعارضوا القرآن ، وتبين لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته ، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة " .

والوقود : ما يلقى في النار لإِضرامها كالحطب ونحوه ، والحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال - تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك ؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لا تكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .

والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به .

وقال : فإن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، لأن قوله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } جار مجرى الكناية التي تعطي اختصاراً ووجازة تغني عن طول المكنى عنه ، ولأن الإِتيان ما هو إلا فعل من الأفعال ، تقول : أتيت فلانا . فيقال لك : نعم ما فعلت .

وجملة { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته . فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال .

قال الإِمام الرازي : ( فإن قيل : فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : { فاتقوا النار } قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإِيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ، لإِنابه اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار ) .

ومعنى { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } هيئت لهم ، لأنهم الذين يخلدون فيها ، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين - أيضاً لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإِخبار بالغيب ، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر . قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة ؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به ، فكان معجزة ) .

وقال بعض العلماء : ( هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدى الكافرين بالتزيل الكريم ) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص :

{ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال في سورة الإِسراء : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }

وقال في سورة يونس : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وكل هذه الآيات مكية . ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } . . إلخ . فعجزوا عن آخرهم ، وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقه وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال . . . ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد ، ولم ينهض - لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإِفراط في المضارة والمضادة . وقد جرد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة أولا ، والسيف آخراً فلم يعارضوا إلا السيف وحده ، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة ، وبذلك يظهر أن في قوله - تعالى - { وَلَن تَفْعَلُواْ } معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا . . .

وحيث عجزت عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . . فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله . . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ }

قال أبو جعفر : يعني تعالى بقوله : فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا : إن لم تأتوا بسورة من مثله ، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم . فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه ، وعلمتم أنه من عندي ، ثم أقمتم على التكذيب به . وقوله : وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .

وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فقد بين لكم الحقّ .

القول في تأويل قوله تعالى : فاتقُوا النّارَ الّتِي وَقُودُها النّاسِ وَالْحِجَارَةُ .

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : فاتّقُوا النّارَ يقول : فاتقوا أن تَصْلَوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي ، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي ، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي ، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله . ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صِلِيّها ، فأخبرهم أن الناس وقودها ، وأن الحجارة وقودها ، فقال : الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ يعني بقوله وقودها : حطبها ، والعرب تجعله مصدرا ، وهو اسم إذا فتحت الواو بمنزلة الحطب ، فإذا ضمت الواو من الوقود كان مصدرا من قول القائل : وقدت النار فهي تقد وُقودا وقِدَةً وَوَقَدَانا ووَقْدا ، يراد بذلك أنها التهبت .

فإن قال قائل : وكيف خُصّت الحجارة فقرنت بالناس حتى جعلت لنار جهنم حطبا ؟ قيل : إنها حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الحجارة فيما بلغنا حرّا إذا أحميت . كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله في قوله : وَقُودُهَا النّاسُ وَالحجارَةُ قال : هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدّها للكافرين .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا ابن عيينة ، عن مسعر عن عبد الملك الزرّاد عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود في قوله : وَقُودُها النّاسُ والحجارَةُ قال : حجارة الكبريت جعلها الله كما شاء .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : اتّقُوا النّارَ الّتِي وَقُودُها النّاسُ وَالحِجَارَةِ أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذّبون به مع النار .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : وَقُودُها النّاسُ والحجارَةُ قال : حجارة من كبريت أسود في النار . قال : وقال لي عمرو بن دينار : حجارة أصلب من هذه وأعظم .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود ، قال : حجارة من الكبريت خلقها الله عنده كيف وشاء وكما شاء .

القول في تأويل قوله تعالى : أُعِدّتْ للكافِرِينَ .

قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الكافر في كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا لجحوده آلاءه عنده ، وتغطيته نعماءه قبله فمعنى قوله إذا : أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ : أعدّت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخَلْق الذين من قبلهم ، الذي جعل لهم الأرض فراشا ، والسماء بناءً ، وأنزل من السماء ماءً ، فأخرج به من الثمرات رزقا لهم ، المشركين معه في عبادته الأنداد والاَلهة ، وهو المتفرّد لهم بالإنشاء والمتوحد بالأقوات والأرزاق . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : أُعِدّتْ للْكافِرِينَ أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} (24)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )

وقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } ، دخلت «إن » على { لم } لأن { لم تفعلوا } معناه تركتم الفعل ، ف «إن » لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال ، و { تفعلوا } جزم ب { لم } ، وجزمت ب { لم } لأنها أشبهت «لا » في التبرية في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل . ( {[342]} )

وقوله : { ولن تفعلوا } نصبت { لن } ، ومن العرب من تجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات : [ البسيط ]

فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد( {[343]} ) . . . وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي : «لن ترعْ »( {[344]} ) هذا على تلك اللغة ، وفي قوله : { لن تفعلوا } إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها .

وقوله تعالى : { فاتقوا النار } ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة . ( {[345]} )

وقرأ الجمهور : «وَقودها » بفتح الواو( {[346]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة : «وقودها » بضم الواو في كل القرآن ، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج ، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر ، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر .

قال ابن جني : «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها ، لأن الوقود بالضم مصدر ، وليس بالناس ، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر ، ومثله ولعت به » لوعاً «بفتح الواو ، وكله شاذ ، والباب هو الضم » .

وقوله : { الناس } عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها .

وروي عن ابن مسعود في { الحجارة } أنها حجارة الكبريت( {[347]} ) وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .

وفي قوله تعالى : { أعدت }( {[348]} ) رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد( {[349]} ) البلوطي الأندلسي ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة . ( {[350]} )

وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد ، إذ فعلهم كفر ، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم ، ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم . ( {[351]} )

وقرأ ابن أبي عبلة : «أَعدَّها الله للكافرين » .


[342]:- أي: والعامل لا يدخل في العامل، ولكن لما كانت (إن) لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال سهل دخولها على (لم)، والمعنى فإن تركتم الفعل إلخ. وقد جاء في (البحر المحيط)(1-160): "وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل (لم) الجزم: قال: وجزمت (لم)..." إلخ كلام ابن عطية هنا.
[343]:- وفي بعض الروايات الأخرى: (فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد) وأول البيت: هذا الثناء فإن تسمع به حسنا و(أبيت اللعن) نوع من التحية- فكأنه قال: أبيت أن تفعل ما تلعن عليه من الأمور، و(الصفد): العطاء. والنابغة هو زياد بن معاوية.
[344]:- أخرجه الإمام البخاري في باب "فضل قيام الليل"- وفي مناقب ابن عمر- وأخرجه الإمام مسلم كذلك في فضائل ابن عمر، وروي الحديث بلم وبلن مجزوما على لغة قليلة حكاها الكسائي.
[345]:- اتقاء النار: كناية عن ترك العناد، وترك العناد قد يؤدي إلى الإيمان بالله والرسول، والطاعة لله والرسول، أي إذا استبنتم العجز فآمنوا وأطيعوا اتقاء للنار التي وقودها الناس والحجارة، والكناية باب من أبواب البلاغة، وفائدتها الإيجاز الذي هو حلية القرآن.
[346]:- أي: (الواو) الأولى في (وقود).
[347]:- أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله [وقودها الناس والحجارة] حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله. وأخرج ابن جرير أيضا عن عمرو ابن ميمون مثله. وأخرج الإمام أحمد والإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم). قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: (فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)، انتهى.
[348]:- أي هُيِّئت، فهي مخلوقة من الآن، وكذلك الجنة، وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة، لأن الإعداد لا يكون إلا للموجود.
[349]:- هو منذر بن سعيد القاضي الأندلسي المعروف بالبلوطي من موضع يعرف بفحص البلوط من نواحي قرطبة، يكنى أبا الحكم. كان عالما بالقرآن، وحافظا لما قالت العلماء في تفسيره، وأحكامه، ووجوه حلاله وحرامه، كثير التلاوة له، حاضر الشاهد لآياته، وله فيه كتب منها كتاب "الأحكام"، وكتاب "الناسخ والمنسوخ" قال عنه أبو حيان التوحيدي في تفسيره: "البحر المحيط"1/108-109-: "وكان معتزليا في أكثر الأصول، ظاهرا في الفروع، وسرى إليه ذلك من قول كثير من المعتزلة-، ولي قضاء الجماعة بقرطبة سنة 338هـ وتوفي سنة 355هـ. وكان خطيبا بليغا، وشاعرا محسنا. انظر ترجمته في "نفح الطيب".
[350]:- قال جار الله الزمخشري: فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى، منها نار بهذه الصفات؟ قلت: بل هي نيران شتى منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: [قوا أنفسكم وأهليكم نارا]، [فأنذرتكم نارا تلظى]، ولعل لكفار الجن وشياطينهم نار وقودها الشياطين، كما أن لكفرة الإنس نار وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب.
[351]:- من ذلك قوله تعالى: [وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا].