تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }

الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به . فأمر الله عباده بأدائها أي : كاملة موفرة ، لا منقوصة ولا مبخوسة ، ولا ممطولا بها ، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار ؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله . وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها . قالوا : لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها ؛ فوجب ذلك .

وفي قوله : { إِلَى أَهْلِهَا } دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن ، ووكيلُه بمنزلته ؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها .

{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض ، القليل من ذلك والكثير ، على القريب والبعيد ، والبر والفاجر ، والولي والعدو .

والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام ، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به . ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه ، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما ، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية ، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ( 59 )

قال ابن كثير - عند تفسيره للآية الأولى - : ذكر كثير من المفسرين " أن هذه الآية نزلت فى شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة . وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذى صارت الحجابة فى نسله إلى اليوم . وسبب نزولها فيه : حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه .

ثم قال : قال محمد بن إسحاق : حدثنى محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن فى يده . فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها .

ثم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . صدق وعده . ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين : إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعى له . فقال : هاك متفاحك يا عثمان ! ! اليوم يوم بر ووفاء " .

هذا ونزول الآية الكريمة فى هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

والأمانات : جمع أمانة وهى مصدر سمى به المفعول . فهى بمعنى ما يؤتمن الإِنسان عليه .

والمعنى : إن الله تعالى - يأمركم - أيها المؤمنون - أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله - تعالى - أم للعباد . وسواء كانت فعلية أم قولية أم اعتقادية .

وقد أسند - سبحانه - الأمر إليه تأكيده ، اهتماما بالمأمور به ، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال ، ودائع ، وأسرار ، وغير ذلك مما يقع فى دائرة الائتمان ، وتنبغى المحافظة عليه .

ومعنى أدائها إلى أهلها : توصيلها إلى أصحابها كما هى من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى .

ومن الآيات القرآنية التى نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله - تعالى - : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } وقوله - تعالى - { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " .

وروى الترمذى وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخمن من خانك " .

وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم .

وقوله { حَكَمْتُمْ } من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين ، وإظهار الحق لصاحبه .

وقوله { بالعدل } أى بالحق الذى أوجبه الله عليكم . وأصل العدل : التسوية . يقال : عدل كذا بكذا أى سواه به .

قال الجمل وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ } إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير : وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس . أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها .

والمعنى : كما أمركم الله - تعالى - أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها ، فإنه يأمركم - أيضا - إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل ، فإن الله - تعالى - ما أقام ملكه إلا عليهما ، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات .

قال بعض العلماء : يرى بعضهم : أن الخطاب فى هذا النصف موجه إلى الذين يحكمون ، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم . ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها ، لأن الأمة العزيزة التى تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر ، هى محكومة ومحكمة . فهى التى تختار حاكمها وهى فى هذا محكمة ، مطلوب منها العدل ، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها . وهى محكمة فى حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا ، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه ، ولا تشتط فى نقده ، ولا تسكن عن نصيحته ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " الدين النصيحة : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " .

وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض . قال تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } وقال - تعالى - { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى } وقال - تعالى - { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } وقال - تعالى - { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } وأما حديث السنة النبوة عن ذلك فهو أيضا مستفيض . ومن الأحاديث التى ورت فى هذا المعنى ما رواه الإِمام مسلم فى صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور من يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا " .

وقوله { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين ، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به .

وقوله { نِعِمَّا } أصله { نعم ما } فركبت نعم ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين .

و { ما } إما منصوبة موصوفة بقوله { يَعِظُكُمْ } فكأنه قيل : نعم شيئا يعظكم به . وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل : نعم الشئ الذى يعظكم به .

والمخصوص بالمدح محذوف وهو أجاء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل .

والوعظ : التذكير بالخير ، والتحذير من الشر ، بأسلوب يرق له القلب .

والمعنى : إن الله - تعالى - قد أمركم - يا معشر المؤمنين - بأداء الأمانة ، وبالحكم بالعدل ، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به ، ويدعوكم إليه .

وقوله - تعالى - { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } وعد للطائعين ووعيد للعاصين .

أى : إن الله - تعالى - كان سميعا لأقوالكم فى الأحكام وفى غيرها . { بَصِيراً } بكل أحوالكم وتصرفاتك . وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } . .

اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عُني بها : ولاةُ أمور المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي مكين ، عن زيد بن أسلم ، قال : نزلت هذه الاَية : { إنّ اللّهَ يأمْرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأمانَاتِ إلى أهْلِها } في ولاة الأمر .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إديس ، قال : حدثنا ليث ، عن شهر ، قال : نزلت في الأمرء خاصة { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْلِ } .

8777 حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إدريس ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : كلمات أصاب فيهنّ حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدّى الأمانة ، وإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد ، عن عليّ بنحوه .

حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا موسى بن عمير ، عن مكحول ، في قول الله : { وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : هم أهل الاَية التي قبلها : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } . . . إلى آخر الاَية .

حدثني يونس ، قال¹ أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن زيد ، قال : قال أبي : هم الولاة ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها .

وقال آخرون : أمر السلطان بذلك أن يعطوا الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ اللّهَ يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } قال : يعني : السلطان يعطون الناس .

وقال آخرون : الذي خُوطِبَ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفاتيح الكعبة أُمِرَ بردّها على عثمان بن طلحة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّ اللّهَ يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } قال : نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، قبض منه النبيّ صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة ، ودخل بها البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الاَية ، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح . قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الاَية : فداؤه أبي وأمي ! ما سمعته يتلوها قبل ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الزنجي بن خالد ، عن الزهري ، قال : دفعه إليه وقال : أعينوه .

وأولى هذه الأقوال بالصوااب في ذلك عندي قول من قال : هو خطاب من الله ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولّوا في فيئهم وحقوقهم ، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية . والقسم بينهم بالسوية ، يدلّ على ذلك ما وعظ به الرعية في : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } فأمرهم بطاعتهم ، وأوصى الراعي بالرعية ، وأوصى الرعية بالطاعة . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : قال أبي : هم السلاطين . وقرأ ابن زيد : { تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } ألا ترى أنه أمر فقال : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } ؟ والأمانات : هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقسمه ، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها . { وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل } . . . الاَية كلها فأمر بهذا الولاة ، ثم أقبل علينا نحن ، فقال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُول وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } .

وأما الذي قال ابن جريج من أن هذه الاَية نزلت في عثمان بن طلحة فإنه جائز أن تكون نزلت فيه ، وأريد به كلّ مؤتمن على أمانة فدخل فيه ولاة أمور المسلمين وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا ، ولذلك قال من قال : عني به قضاء الدين وردّ حقوق الناس . كالذي :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } فإنه لم يرخص لموسر ولا معسر أن يمسكها .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } عن الحسن : أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أدّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خانَكَ » .

فتأويل الاَية إذًا ، إذ كان الأمر على ما وصفنا : إن الله يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدّوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم على ما أمركم الله ، بأداء كلّ شيء من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم ، لا تظلموها أهلها ولا تستأثروا بشيء منها ولا تضعوا شيئا منها في غير موضعه ، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصير في أيديكم¹ ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف ، وذلك حكم الله الذي أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله ، لا تَعْدوا ذلك فتجوروا عليهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنّ اللّهَ كانَ سَمِيعا بَصِيرا } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا معشر ولاة أمور المسلمين إنّ الله نَعِمّ الشيء يعظكم به ، ونِعِمّت العظة يعظكم بها في أمره إياكم ، أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ، وأن تحكموا بين الناس بالعدل { نّ اللّهَ كَانع سَمِيعا } يقول : إن الله لم يزل سميعا بما تقولون وتنطقون ، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تحاوروهم به ، { بَصِيرا } بما تفعلون فيما ائتمنتكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم ، وما تقضون به بينهم من أحكامكم بعدل تحكمون أو جور ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، حافظ ذلك كله ، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ومسيئكم بإساءته ، أو يعفو بفضله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا} (58)

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب ، وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة .

قال القاضي أبو محمد : فهو للنبي عليه السلام وأمرائه ، ثم يتناول من بعدهم ، وقال ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي عليه السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ، ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج مقام إبراهيم ، ونزل عليه جبريل بهذه الآية ، قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه . فدعا عثمان وشيبة ، فقال لهما : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح ، ثم دفعه وقال للنبي عليه السلام : خذه بأمانة الله{[4113]} .

قال القاضي أبو محمد : واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر ، زيادة ونقصاناً ، إلا أنه المعنى بعينه ، وقال ابن عباس : الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهن إلى الأزواج ، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس{[4114]} ، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره{[4115]} ، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك ، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى ، وقال ابن عباس : لم يرخص الله لموسرٍ ولا معسر أن يمسك الأمانة ، و { نعما } أصله نعم ما ، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين ، وخصت بالكسر اتباعاً للنون ، و «ما » المردفة على «نعم » إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في «ربما ومما » في قوله : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه ، وكقول الشاعر : [ الطويل ]

وإنّا لَمِمّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً . . . عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ{[4116]}

ونحوه ، وفي هذا هي بمنزلة «ربما » وهي لها مخالفة في المعنى ، لأن «ربما » معناها : التقليل ، و «مما » معناها التكثير ، ومع أن «ما » موطئة فهي بمعنى «الذي » وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل{[4117]} .

وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر ، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به .


[4113]:- أخرجه ابن جرير، وابن المنذر عن أبي جريج، وأخرج مثله ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، مع تفصيل لما حدث بين عثمان بن طلحة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم- (ابن كثير2/ 32 والدر المنثور 2/ 174) والتالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف. روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال في (سورة بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء): هنّ من العتاق الأول، وهنّ من تلادي. أي: من قديم ما أخذت من القرآن. وفي حديث العباس: فهي لهم تالدة بالدة، يعني الخلافة، البالد إتباع التالد. وفي شعر طرفة. *وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي*
[4114]:- قال بذلك جماعة منهم: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي ابن كعب، قالوا: الأمانة في كل شيء: في الوضوء، والصلاة، والزكاة، والجنابة، والصوم، والكيل والوزن، والودائع. قال القرطبي: وهذا إجماع- ثم قال: والأمانة: مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع.
[4115]:- قال القرطبي: وهذا اختيار الطبري.
[4116]:- جاء في اللسان: "كبش القوم: رئيسهم وسيدهم، وقيل: حاميتهم والمنظور إليه فيهم، وكبش الكتيبة: قائدها"، والبيت في "البحر المحيط"، ولم نعثر على نسبته.
[4117]:- نقل أبو حيان كلام ابن عطية في "البحر المحيط 3/278" عن (ما) المردفة على (نعم)، ثم عقب عليه بقوله: "وهو كلام متهافت، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسما، ومن حيث جعلها بمعنى (الذي) لا تكون مهيئة موطئة- فتدافعا".