{ 53 - 59 } { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه ، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال : { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه ، مخبرا للعباد عن ربهم : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علام الغيوب .
{ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده ، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار . { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود ، مالئة للموجود ، . تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته ، . ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد ، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ، أعظمها وأجلها ، بل لا سبب لها غيره ، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح ، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد ، . فهلم إلى هذا السبب الأجل ، والطريق الأعظم .
ثم فتح - سبحانه - لعباده باب رحمته ، ونهاهم عن اليأس من مغفرته ، وأمرهم أن يتوبوا إليه تبوة صادقة نصوحا ، قبل أن يفاجئهم الموت والحساب ، فقال - تعالى - :
{ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ . . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى : غدير بنى غفار - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر : فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم .
والإِسراف : تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } والمراد بالإِسراف هنا : الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم .
والقُنُوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم باتكابهم للمعاصى ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم .
وجملة { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } تعليلية . أى : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور الرحيم } أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه .
أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله .
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف لى المعاصى . . ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة . . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب . . } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك .
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس . . وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم . . } .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنه : إعادة الظاهر بلفظه فى قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ } ومنها : إبراز الجملة من قوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة .
وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى .
{ قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ } .
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها قوم من أهل الشرك ، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله : كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا ، وقتلنا النفس التي حرّم الله ، والله يعد فاعل ذلك النار ، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان ، فنزلت هذه الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قُل يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ وذلك أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أنه من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم ، وقد عبدنا الاَلهة ، وقتلنا النفس التي حرّم الله ونحن أهل الشرك ؟ فأنزل الله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ يقول : لا تيأسوا من رحمتي ، إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال : وأنِيبُوا إلى رَبّكُمْ وأسْلِمُوا لَهُ وإنما يعاتب الله أولي الألباب وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان ، فإياهم عاتب ، وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه ، أن لا يقنط من رحمة الله ، وأن ينيب ولا يبطىء بالتوبة من ذلك الإسراف ، والذنب الذي عمل وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة ، فقالوا : رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرافَنا فِي أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف ، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ قال : قتل النفس في الجاهلية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هذه الاَيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ وأصحابه يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ إلى قوله : مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ قال : إنما هي للمشركين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ حتى بلغ الذّنُوبَ جَمِيعا قال : ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يُتاب عليهم ، فدعاهم الله بهذه الاَية : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ قال : هؤلاء المشركون من أهل مكة ، قالوا : كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى ، أو قتل ، أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار ؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها فأنزلت فيهم هذه الاَية : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ . . . الاَية قال : كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية ، فلما بعث الله نبيه قالوا : لو أتينا محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنا به واتبعناه فقال بعضهم لبعض : كيف يقبلكم الله ورسوله في دينه ؟ فقالوا : ألا نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ؟ فلما بعثوا ، نزل القرآن : قُل يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقرأ حتى بلغ : فأكُونَ مِنَ المُحْسِنِين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبيّ ، قال : تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير : إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك ، وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق : لا بل حدّث فأصدّقك ، فقال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أكبر آية فرجا في القرآن يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقال مسروق : صدقت .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أهل الإسلام ، وقالوا : تأويل الكلام : إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء ، قالوا : وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وقالوا : إنما نزلت هذه الاَية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم ، فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال يعني عمر : كنا نقول : ما لمن افتتن من توبة وكانوا يقولون ما الله بقابل منا شيئا ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ . . . الاَية ، قال عمر : فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص ، قال هشام : فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها ، فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنا نقول ، فجلست على بعيري ، ثم لحقت بالمدينة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إنما أنزلت هذه الاَيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر من المسلمين ، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا ، فافتنوا كنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلاً أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه ، فنزلت هؤلاء الاَيات ، وكان عمر بن الخطاب كاتبا قال : فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، إلى أولئك النفر ، فأسلموا وهاجروا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا يونس ، عن ابن سيرين ، قال : قال علي رضي الله عنه : أي آية في القرآن أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما ونحوها ، فقال علي : ما في القرآن آية أوسع من : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، قال : دخل عبد الله المسجد ، فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال ، قال : فجاء حتى قام على رأسه ، فقال يا مذكّرُ أتقنط الناس يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه قال في هذه الاَية : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ قال : هي للناس أجمعين .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي قنبل ، قال : سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول : ثني أبو عبيد الرحمن الجلائي ، أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما أُحِبّ أنّ لي الدّنْيا وَما فِيها بهَذهِ الاَيَةِ » : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ . . . الاَية ، فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «أَلا وَمَنْ أشْرَكَ ، ألا وَمَنْ أشْرَكَ » ثلاث مَرّات .
وقال آخرون : نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار ، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا أبو معاذ الخراساني ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول : إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة ، حتى نزلت هذه الاَية أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وَلا تبْطِلوا أعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الاَية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا : قد هلك ، حتى نزلت هذه الاَية إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لِمَنْ يَشاءُ فلما نزلت هذه الاَية كففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عني تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك ، لأن الله عمّ بقوله يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ جميع المسرفين ، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف .
فإن قال قائل : فيغفر الله الشرك ؟ قيل : نعم إذا تاب منه المشرك . وإنما عني بقوله إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعا لمن يشاء ، كما قد ذكرنا قبل ، أن ابن مسعود كان يقرؤه : وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه ، فقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه ، إن شاء تفضل عليه ، فعفا له عنه ، وإن شاء عدل عليه فجازاه به .
وأما قوله : لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فإنه يعني : لا تيأسوا من رحمة الله . كذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس .
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيّنا معناه .
وقوله : إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يقول : إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ بهم ، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها .
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن . { لا تقنطوا من رحمة الله } لا تيأسوا من مغفرته أولا وتفضله ثانيا . { إن الله يغفر الذنوب جميعا } عفوا ولو بعد بعد ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، والتعليل بقوله : { إنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ، ووضع { اسم } موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات " . وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت . وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب .
هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن ، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه ، وتوبة العاصي تمحو ذنبه . واختلف هل يكون في المشيئة أو هو مغفور له ولا بد ؟ فقالت فرقة من أهل السنة : هو مغفور له ولا بد ، وهذا مقتضى ظواهر القرآن ، وقالت فرقة : التائب في المشيئة ، لكن يغلب الرجاء في ناحيته ، والعاصي في المشيئة ، لكن يغلب الخوف في ناحيته .
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية ، فقال عطاء بن يسار : نزلت في وحشي قاتل حمزة . وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا ، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم ، منهم الوليد{[9911]} بن الوليد ، وهشام بن العاصي ، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث{[9912]} . وقالت فرقة : نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية ، قالوا : وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم . وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن . وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : «ما أحب أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية » ، { يا عبادي }{[9913]}
و : { أسرفوا } معناه : أفرطوا وتعدوا الطور . والقنط . أعظم اليأس .
وقرأ نافع وجمهور الناس : «تقَنطوا » بفتح النون . قال أبو حاتم : يلزمهم أن يقرؤوا : { من بعد ما قنطوا }{[9914]} [ الشورى : 28 ] بالكسر ، ولم يقرأ به أحد . وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون . وقرأ أبوعمرو وابن وثاب بكسرها ، وهي لغات .
وقوله : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } عموم بمعنى الخصوص ، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعاً ، وهي أيضاً في المعاصي مقيدة بالمشيئة . و { جميعاً } نصب هلى الحال . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : «إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي »{[9915]} . وقرأ ابن مسعود : «إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء » .